منذ تطور الأسلحة النارية ووسائل القتال في بداية القرن الثامن عشر، اتسعت الفجوة الفيزيائية بين المقاتلين في ميادين القتال. لم يعد من الضروري القتال الالتحامي الطويل باستخدام السيوف، بل تحولت طرق القتال مع تطور الأسلحة. تجاوز القتال الالتحامي القريب باستخدام البنادق والحربات إلى أقل من 20%. ومع التطور الكبير الذي شهدته صناعة السلاح منذ الحرب العالمية الأولى وحتى بداية القرن الواحد والعشرين، أصبح المقاتل يقف داخل تحصينات ويستخدم مهارته في استخدام الأسلحة لاستهداف خصمه المختبئ أيضًا داخل تحصينات مماثلة. وأصبحت مهمات الالتحام محصورة في القوات الخاصة والكوماندوز، أو بوسائل القتال البرية والبحرية والجوية المأهولة أو غير المأهولة. هذا التطور غير أجيال الحروب والعقائد القتالية، وتأثرت أيضًا بإضافات جديدة ناتجة عن تقنيات التهديف والكشف والاتصال والمجال السايبري. وبالتالي، تقريباً تم إلغاء الاقتراب المباشر في الحروب واستبدل بعنصر المطاولة عن بعد.
هذه التحولات الضخمة في مجال صناعة وتطوير الأسلحة والأشكال الجديدة للحروب قد غيرت نوعًا ما طبيعة الحروب الخاطفة والسريعة، وحولتها إلى حروب طويلة المدى وذات تأثير كبير. لم يعُد الحسم في المعارك هو الهدف الأساسي، بل أصبحت الهزائم في الحروب غير نهائية وتختلف نسب النجاح فيها، على سبيل المثال، يمكن أن يكون النصر للمهاجم بنسبة 70٪ وللدفاع بنسبة 30٪. وبالتالي، أصبحت الحروب تتكون من مراحل متعددة لتحقيق نتائج ملموسة. وقد شهدت غرب آسيا وشمال إفريقيا خلال الـ 50 عامًا الماضية تطبيقًا فعليًا لهذه الفكرة، حيث اعتمدت القوى المدافعة عن أراضيها على حروب الاستنزاف كوسيلة للتحدي مع الجيوش القوية والعنيدة.
وتم تطبيق ذلك من قبل المصريين بعد هزيمتهم في يونيو 1967، حيث خاضوا حربًا استمرت لمدة 4 سنوات لتحقيق تعويض وتوازن مع العدو، واستفادوا من ذلك في حرب أكتوبر 1973 لاستعادة بعض ما فقدوه من الأراضي والسيطرة. وقام الأفغان أيضًا بتطبيق حرب الاستنزاف لمدة 12 عامًا بعد غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، وتمكنوا من تحقيق هزيمة قوية للجيش السوفيتي في عام 1991 بدعم من الولايات المتحدة والدول العربية وباكستان.
وقد قامت المقاومة اللبنانية أيضًا بتنفيذ استراتيجية الاستنزاف ضد القوات الأطلسية التي دخلت لبنان في حالة احتلال شبه كاملة في عام 1982، وتم طردها في عام 1984. وقد نفذت المقاومة حرب استنزاف طويلة مع العدو الصهيوني الذي احتل العاصمة بيروت أيضًا في عام 1982، إلا أنه لم يصمد أكثر من 18 عاماً فعاود الانسحاب عام 2000
وقامت المقاومة الفلسطينية منذ عام 1987 بتنفيذ حروب استنزاف مستمرة ضد العدو الصهيوني، على شكل انتفاضات وهبات وأيام قتالية ومعارك وحروب. ومن بين هذه الحروب، تميزت حرب "طوفان الأقصى" التي بدأت في عام 2023 ولا تزال مستمرة حتى الآن.
سنحاول في هذا البحث إجراء مقارنة أكاديمية عسكرية بين حرب الاستنزاف التي خاضها الجيش المصري بين عامي 1967 و1970 وبين حرب الاستنزاف التي تخوضها المقاومة اللبنانية منذ 8-10-2023 لنصرة واسناد غزة. وسنحاول من خلال هذه المقارنة استخلاص الدروس المستفادة والنتائج، اعتمادًا على كل من الطرفين لهذا النوع من الحروب مع التنويه إلى أننا اخترنا الطرفين (الجيش المصري – المقاومة اللبنانية) لوجود تشابه واختلاف بينهما. التشابه لأنهما خاضا حرب الاستنزاف ضد نفس العدو والاختلاف بسبب اختلاف طبيعة ودور كلاً من الطرفين فالجيش المصري يعتبر قوة نظامية وعنصراً رئيسياً في صناعة القرار في مصر. بينما تعتبر المقاومة اللبنانية تشكيلاً “غير نظامي “يمارس حرباً هجينة على العدو تعتمد على مبدأ التشغيل اللامتماثل، كما وسنقدم في الملحق لمحة أكاديمية وافية عن حروب الاستنزاف لتقريب فكرة هكذا حروب معقدة.
مفهوم حرب الاستنزاف: هي نوع من الحروب يهدف أحد الأطراف فيها إلى إضعاف القوة العسكرية للعدو عن طريق استهلاك موارده وإلحاق خسائر مادية كبيرة به، وكذلك تدمير معنويات جنوده من خلال جرهم إلى مواجهات متفاوتة الشدة ومتقطعة ومتكررة.
الغرض من حرب الاستنزاف: تُستخدم كمقياس لتحديد قدرة الطرفين المتصارعين على تحمل صراع طويل الأمد دون نهاية واضحة للنصر أو الهزيمة.
وتعتبر استراتيجية الاستنزاف موضوعًا معقدًا ويعتمد نجاحها على الظروف الخاصة بكل نزاع على بعض الملاحظات والنقاط المهمة:
-معظم حروب الاستنزاف المعاصرة نجحت في تحقيق أهدافها على المدى الطويل.
-هناك حروب استنزاف فشلت في تحقيق أهدافها.
-الاستنزاف يمكن أن يكون مكلفًا بالنسبة للجيوش والاقتصادات، وقد يؤدي إلى تعطيل القدرات العسكرية.
-يمكن أن تؤدي استراتيجية الاستنزاف إلى تغيير الديناميات السياسية.
-قد تؤدي إلى تحقيق توازن الرعب (المتبادل) بين الأطراف المتنازعة.
متطلبات النجاح في حروب الاستنزاف: استراتيجية حرب الاستنزاف ليست دائمًا فعالة، وذلك يعتمد على الظروف والسياق وعلى تحقيق المتطلبات التالية:
1. الموارد والقدرات: إن وجود موارد كبيرة وقدرات قوية، تسمح لمن يخوض حرب الاستنزاف أن يكون قادرًا على خوضها لفترة أطول. ومع ذلك، إذا كانت الموارد محدودة، فقد يكون من الأفضل البحث عن استراتيجيات أخرى.
2. الهدف والمكاسب: يجب أن يكون هدف استراتيجية حرب الاستنزاف واضحًا. إذا كان الهدف هو تقويض العدو وتحقيق مكاسب طفيفة على المدى الطويل، فقد تكون هذه الاستراتيجية فعالة. ولكن إذا كان هناك هدف أكبر يتطلب تحقيق النصر السريع، قد يكون من الأفضل البحث عن استراتيجية أخرى.
3. التوقيت والتكيف: يجب أن يتم تنفيذ استراتيجية حرب الاستنزاف في الوقت المناسب وبشكل ملائم. يجب أن تكون قادرًا على التكيف مع التغيرات في الوضع وتعديل الاستراتيجية حسب الحاجة.
يعتبر تحقيق التوازن بين القوة العسكرية والاستمرارية والتكيف مع الظروف الجديدة أمرًا حاسمًا في حروب الاستنزاف ويتمثل ذلك في تطبيق استراتيجيات عسكرية تهدف إلى تقويض قدرة العدو على الاستمرار في القتال من خلال تكبيده خسائر مستمرة في الأفراد والمعدات والروح المعنوية.
تعد حروب الاستنزاف تحديًا استراتيجيًا، وتتطلب عناصر محددة لتحقيق الصمود والردع. ويتطلب، الصمود الناجح في حروب الاستنزاف تحقيق العوامل الناجحة التالية:
1. الاستمرارية في المواجهة:
يجب أن يستمر الجانبان في الصراع دون توقف. الصمود المستمر يعمل على تحقيق الردع وإظهار القدرة على المقاومة.
2. تكبيد العدو خسائر:
الرد على الهجمات وتكبيد العدو خسائر بشرية ومادية يقلل من قدرته على مواصلة الصراع.
3. استنزاف مقدرات العدو:
حيث ان استهداف موارد العدو، مثل العناصر البشرية والإمدادات والتجهيزات والتمويل يقلل من قدرته على الاستمرار في الصراع.
4. التنسيق الجيد بين القوات والاستخبارات:
يساعد التنسيق الجيد في تحقيق الاستدامة والتحدي. وعليه تعتبر استدامة عملية تبادل المعلومات وتحليل البيانات بشكل مستمر عنصراً حاسماً حرق المراحل وتجاوزها بسهول فضلاً عن حماية الجسم العسكري والمدني من مكائد العدو.
5. التحليل المستمر والتقييم:
يجب إخضاع الدروس المستفادة وكل ما يبين الموقف التعبوي في المعركة إلى تحليل دائم يرصد برامج وخطط العدو ويقيم أداء القوات كما يجري وجري أيضاً تقييماً للنتائج باستمرار. فهذا يساعد في تحديد مكامن الضعف والنقاط التي تحتاج إلى تحسين وتعزيز.
يساهم اجتماع عوامل أساسية في تحديد نتيجة حرب الاستنزاف. لذلك، لا يمكن القول بأن النجاح يعتمد فقط على قوة المقاتل أو ذكاء القادة، بل هو تركيبة معقدة من العوامل المختلفة والتي تتضمن:
• التكتيكات: تتضمن جر جنود العدو إلى مواجهات متقطعة ومتفاوتة الشدة لتدمير معنوياتهم وخلق دائرة مفرغة من الصراع.
• المدة: العمل على أن تمتد هذه الحروب لفترات طويلة دون آفاق واضحة للنصر أو الهزيمة.
• القدرة على التحمل: الطرف القادر على تحمل الخسائر لفترة أطول تكون له الأفضلية.
• الموارد: توافر الموارد يمكن أن يساعد في استمرار الحرب لفترة أطول.
• الاستراتيجية: ذكاء القادة وقدرتهم على تطبيق استراتيجيات فعالة لاستنزاف العدو.
• المعنويات: الحفاظ على معنويات المقاتلين والشعب يلعب دوراً مهماً في استمرار القتال.
أما ضد العدو فيتطلب التركيز على تحقيق العوامل التالية:
• الهجمات المستمرة على العدو: حيث يجب توجيه هجمات متواصلة على العدو لتكبيده خسائر في الأفراد والمعدات. وذلك قد يتطلب استخدام أساليب وتكتيكات خاصة بالجهة التي تشن هذه الهجمات على العدو تختلف عن تكتيكات وطرائق العدو لأن التشابه في الاساليب وطرائق القتال في حروب الاستنزاف يجعل منها غير مؤثرة ويطيل من عمرها بنفس التأثير السلبي على الطرفين.
الكاتب: يوسف الشيخ