الأحداث التي تشهدها فلسطين، ليست الا محاكاة لواقع جديد تفرضه بالقوّة الآن فصائل المقاومة الفلسطينية، فعلى الرغم من إصرار المستوطنين على اقتحام المسجد الأقصى في مواجهات استمرت لساعات، إلا ان ساعات الفجر الأولى، التي شهدت اختباء ملايين المستوطنين في الملاجئ، كانت بمثابة ولادة معادلة ردع جديدة اكدت على تلاحم الجبهات بين القدس وغزة، وانه لا يمكن عزل غزة عما يحدث في القدس وبالعكس.
في هذه الجولة، ظهرت فصائل المقاومة بموقف قوي وموحد، فهي مَن حددت ساعة الصفر لبدء المواجهة، حيث أعلن المتحدث باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" ان الساعة 6 ستكون هي المهلة الأخيرة لانسحاب جنود الاحتلال من المسجد الأقصى وحي الشيخ الجراح والإفراج عن كافة المعتقلين "وإلا فقد أعذر من أنذر"، لتستهدف في تمام السادسة جيبا عسكريا اسرائيليا شمال شرق غزة، تبيّن لاحقاً انه كان يقل وفداً عسكرياً يرأسه مسؤول وحدة العمليات في "فرقة غزة".
وعلى مبدأ "رقعة الزيت" شنّت الفصائل حملتها الصاروخية، حيث بدأت بغلاف غزة أولًا بمستوطنة سديروت، التي تبعد عن غزة حوالي 14 كلم واستهدفتها ب30 صاروخ، ثم إلى عسقلان التي تبعد ما يقارب 21.2 كلم بتصعيد لافت حيث استعملت لأول مرة صاروخ بدر 3 برسالة مفادها ان "ادخال المقاومة لصاروخ جديد بدر 3 في هذه المعركة، يؤكد بما لا يدعو مجالًا للشك، على تطور لافت في قدرات التصنيع العسكري في سرايا القدس"، وصولًا إلى تل أبيب التي تبعد 71.3كلم تقريبًا، حيث استهدفتها على دفعتين بعشرات الصواريخ، ضمن عملية "سيف القدس" بتوقيت "البهاء" عند الساعة التاسعة، إضافة لوصول عدد الصواريخ التي أمطر بها الغلاف إلى ما يقارب 150 صاروخًا خلال 6 ساعات.
وبدر 3 هو صاروخ يتمتع بقدرة تدميرية عالية جدًا، ويزن رأسه 350 كلغ، يبلغ مداه 160 كلم، ويصل طوله إلى3 أمتار.
وهو صاروخ إيراني الصنع ظهر لأول مرة في ساحات القتال بالشرق الأوسط عام 2019 حيث استخدمته حركة "أنصار الله" في اليمن.
وقد طورته سرايا القدس بعد معركة حمم البدر وأصبح أكثر في القوة التدميرية وابعد في المدى.
هذه الحملة جاءت فعليًا ضمن إطار رد الفعل على انتهاكات الاحتلال وتحديد المسار المستقبلي للعمليات والمواجهات بين الجانبين، حيث تغيّرت الجهة التي كانت تحدد التوقيت وتقرر خواتيم الجولات والحروب، خاصة مع تسجيل إنجاز جديد وهو قلّة الصواريخ التي استطاعت "القبة الحديدية" التصدي لها، حيث وصلت الصواريخ لأهدافها التي أصابت مباشرةً عددًا من المباني الاسرائيلية، الأمر الذي حصل بعد تهديد سابق ولافت "بمفاجآت كبرى في حال استهدفت بيوت المدنيين في غزة".
وبقراءة أولية للمشهد بعد قيام غرفة العمليات المشتركة للفصائل بالرد على انتهاكات قوات الاحتلال والمستوطنين يمكن القول أنه:
- تم بذكاء تثبيت معادلة ردع جديدة قوامها "الجبهة الواحدة" بين غزة والقدس.
- عدم حياد قطاع غزة عن كل ما يجري في القدس والمسجد الأقصى في المواجهات الحالية والتي ستجري مستقبلًا.
- قدرة الفصائل على تقدير حجم وتوقيت وكيفية الرد الصحيح وفق ضمن قواعد الاشتباك التي كانت المقاومة قد ثبتتها مع الكيان.
وشكّل هذا الامر معضلة مركّبة ومعقّدة على المستويات الأمنية- العسكرية والسياسية في قيادة الكيان الإسرائيلي، فوضعتها في هوامش ضيقة لا تتيح لها الكثير من الحلول، فمع حذرها البالغ لمنع التدحرج، تسعى لعدم السماح بتكريس ترابط القطاع بالضفة أو القدس، في ظل تخبّط سياسي تعيشه "إسرائيل" وفشل بنيامين نتنياهو من تشكيل حكومته بعد 4 جولات انتخابية.
قامت "إسرائيل" على مبدأ "تفوق القوّة العسكرية" والهيمنة الاستراتيجية على كل المنطقة، والذي رافقته معضلة الحفاظ على منظومة متكاملة من "الردع" عسكريًا وأمنيًا، إضافة للحفاظ على مجموعة من الخطوط الحمراء وقواعد الاشتباك التي تحفظ لها هذا التفوق وهذه الهيمنة، غير ان الأحداث التي تجري في المنطقة عمومًا وفي عمق الداخل الفلسطيني خصوصًا، جعلت من الأمر أكثر مشقّة ويتطلب مجهودًا مضاعفًا في وقت يشهد فيه الكيان أوج أزماته السياسية والاقتصادية.
اليوم ومع هذا الحدث الذي يُعد الأعنف منذ مواجهات 2017، والذي اضطرت "إسرائيل" لإلغاء أكبر مناورة لها في تاريخها بسببه، وعلى الرغم من أنها اتخذت خيار الرد على القصف، إلا أنها لم تفكر في التصعيد، ربما لأنها لم تعد على بيّنة من قوة الفصائل الصاروخية، وقد بات من سلّم أولوياتها الحفاظ على الحال كما هو عليه.
الكاتب: غرفة التحرير