عام وأيام مرّت على حرب الصهاينة والأميركيين في غزة ولم يتوقف استهداف المدنيين. عام وأيام مرت، وفي كل حين وآخر نسمع عن مجازر جديدة مرتكبة في داخل حرم مستشفى أو جامع أو تجمع خيم للنازحين. في حين أن الإسرائيلي لا يفرّق بين مدني او مقاوم في فلسطين المحتلة، فلماذا كنا نتوقع منه أن يتوقف عن ذلك في لبنان، وقد بدأ باستهداف المدنيين، وليس من المفترض أن ننسى مجزرة الفتيات الثلاث مع جدتهن، منذ الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي، والتي بشرّت بالطريقة التي سينتهجها العدو في التعامل مع المدنيين في لبنان.
بعد أيام من المجزرة أطلقت الوالدة تصريحات تنم عن قوة وثبات، وهي تمثل موقف عائلة مدنية بكل معنى الكلمة في الجنوب اللبناني، والزوج يعمل في المغترب لتأمين قوت عياله الذين فقدهم دفعة واحدة. بعد تلك المجزرة لم نسمع استنكاراً واحداً من العالم المتمدن يوقف آلة القتل الصهيونية عند حدها. لماذا؟ لأن الأمر مبرمج ومدروس وقد تقررت آلية العمل على التهجير الممنهج في جنوب لبنان كما في غزة وجباليا وخان يونس والضفة الغربية وفي آماكن أخرى سنسمع عنها لاحقاً في كل بقعة من بقاع الوطن العربي، وحتى لاحقاً في المناطق التي وقّعت فيها اتفاقيات السلام في سيناء- مصر ووادي عربة- الأردن، وكانت هناك تصريحات صهيونية وفيديوهات منتشرة تتحدث عن وجوب العودة عن اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة من أجل استعادة سيطرة الكيان عليهما. كما كان هناك توصيات وتصريحات ودعوات إسرائيلية ومنذ تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي من أجل عودة احتلال جنوب لبنان والسيطرة على المرتفعات المطلة على فلسطين المحتلة من أجل وقف الصواريخ على المستوطنات والدفع برجال المقاومة إلى شمال الليطاني.
لكن كيف سيتم الإبعاد؟ ببساطة من خلال تهجير أهل الجنوب، ليس إلى باقي الأراضي اللبنانية أو سوريا أو أي منطقة تقع في دول الطوق، وإنما إلى أماكن أبعد بحيث يصبح أهل الأرض بعيدين إلى خارج دول الطوق المحيطة بفلسطين. بالتأكيد نحن نتحدث هنا عن جزء من المشهد والمخطط وباقي المشهد بما يتعلق بالسيطرة على الطرق التجارية، تحدثنا عنه سابقاً، وليس من المستبعد أن نعود ونسمع ربما عن الدولة الشيعية في إيران والعراق، ضمن مخطط التقسيم الطائفي والإثني الذي تسعى أميركا والغرب إلى تأسيسه، لتصبح "الدولة اليهودية" جزء من المشهد في فلسطين. ونحن هنا لا نتنبأ، بل نعيد القراءة كي لا ننسى أن مخطط برنارد لويس الذي وضع في خمسينات القرن الماضي ما يزال قائماً ويعمل الأميركيون والصهاينة على تحقيقه على قدم وساق، وضمن هذا المخطط رفع رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، خريطته منذ عام في الأمم المتحدة وأعاد رفعها في 27 أيلول/ سبتمبر قبل ثلاثة أيام من بدء الهجوم على لبنان، وهو يتحدث عن شرق أوسط جديد.
ومن أجل تثبيت تهجير اللبنانيين الشيعة تستهدف إسرائيل منذ بداية الاجتياح الصهيوني في 30 سبتمبر/أيلول وحتى اليوم أهدافاً مدنية محددة، ونحن هنا لا نتحدث عن إكمال عملية التهجير في البقاع والجنوب، وخاصة في القرى والمدن التي تقطنها أغلبية شيعية، بل في مراكز الإيواء في كل مكان في شمال لبنان ووسطه وجنوبه وفي بيروت، حيث تقصف المناطق التي تقطنها عائلات شيعية بكثافة مثل النويري والباشورة والأوزاعي والتي لوحقت فيها مراكز الدفاع المدني، بحجة البحث عن قادة المقاومة وعناصرها، مع العلم أن هؤلاء بعيدون جداً عن أهاليهم اليوم، وبات من النادر التواصل معهم، ويبحث الأهالي عن أخبار اولادهم على المجموعات الإخبارية على وسائل التواصل الإجتماعي.
هذا الإستهداف المتنقل له هدف لم يعد يخفى على أحد وخاصة بعد موجة التضامن، الذي شهده أبناء لبنان العزيز، رغم وضع أبناء المناطق التي لجأ إليها أهل الجنوب والبقاع والضاحية في دائرة الخطر ودفعهم للتردد في استقبال النازحين في مناطقهم، وبالتالي حصار اللبنانيين في داخل لبنان. فهل هنك أبشع من مخطط يدفع بأهالي البلد الواحد نحو الحذر والتخوف من بعضهم بعضاً. ويترافق ذلك مع هجوم ممنهج على المقاومة ومراكز عملها التي تقدم الخدمات الإجتماعية والصحية والخيرية وعلى عدد من وسائل الإعلام اللبنانية تحديداً والتي تقف مع أهل المقاومة من أجل التضييق عليهم أكثر فأكثر. فما هو المطلوب من هذا التضييق؟ هل هو إثارة قلق المقاوميين وبالتالي ضعضعة الحالة المعنوية لديهم ولدى أهل المقاومة، وهنا نعني بأهل المقاومة أهل لبنان المتضامنين معها من مختلف الأحزاب والطوائف والفئات الشعبية؟ أم هو خلق الفرقة ما بين المقاوميين وبين أهاليهم؟ أم هو إضعاف الثقة ما بين المقاومة وأهلها؟ إنها كل هذا معاً. ولكن، خلال الذكرى 42 لانطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، في 15 أيلول/ سبتمبر، وقبل أسبوعين من بدء الحرب على لبنان، أعلنت الأحزاب عودة المقاومة العتيدة ضد الصهاينة مثل الحزب الشيوعي اللبناني وعلى لسان رئيس الحزب الشيوعي اللبناني، حنا غريب، أن هذه الجبهة ستنطلق مجدداً في حال أعاد الصهيوني اجتياح لبنان.
صحيح أن الإستهداف المتنقل لأهل المقاومة وللنازحين بالتحديد أهدافه كبيرة ومتشعبة وتدخل في عمق التضامن اللبناني، ولكن ما شهدناه في لبنان على امتداد مساحته، كان شيئاً اسطورياً، كما أن ما شهدناه من تضامن ما بين أبناء فلسطين في قطاع غزة والضفة الغربية ومدن الجليل، كان أسطورياً أيضاً، وخاصة لناحية الإيمان بالمقاومة والدعاء لها والتمسك بها كخيار وحيد من أجل حماية الحرية واستعادة الأرض المغتصبة. أسطورة خيار المقاومة في بلادنا ليست حالة عبثية أو طارئة، بل تتجذر في تاريخ نضال منطقتنا العربية ضد المحتلين على مدى قرنين من الزمن، وهذا ما يجعلنا نعود في كل مرة لكلام بنيدكت أندرسن الهام جداً، "إننا التاريخ ما يصنعنا"، وتاريخنا حافل بالنضالات والمقاومة وإن كانت هناك كبوات.
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU