بين الجدل حول أهداف اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الإسرائيلي من جهة، وبين صياغته وطبيعته القانونية من جهة أخرى، تكثر التحليلات والتأويلات. وفي هذا الصدد لابد من تبيان حقيقة أنّه لا يمكن اعتبار ما حصل في لبنان اتفاقا بالمعنى القانوني، إنما هو "إعلان" وليس اتفاقاً بالمعنى الاصطلاحي والقانوني، وأتى ليكرّس للحكومة اللبنانية ما رأته مخرجاً لكل هذه الازمة، وهو وقف متبادل لإطلاق النار، وتطبيق متبادل ايضاً للقرار 1701 لعام 2006.
إن الإعلان بالمواد 13 الموجودة فيه هو تأكيد على ما ورد في القرار 1701 الذي صدر "رغماً عن أنف إسرائيل" في العام 2006، التي كان طموحها أكبر مما تم وضعه في نص القرار.
لماذا نعتبر ما حصل من توافق على وقف الأعمال الحربية إعلاناً وليس اتفاقاً؟
ببساطة ووفقا للقانون الدولي يستخدم مصطلح "إعلان" للإشارة إلى مختلف الصكوك الدولية. ومع ذلك، فإن الإعلانات ليست دائماً ملزمة قانوناً. غالباً ما يتم اختيار هذا المصطلح عمداً للإشارة إلى أن الأطراف لا تنوي إنشاء التزامات ملزمة ولكنها ترغب ببساطة في الإعلان عن تطلعات معينة. وإعلان ريو لعام 1992 مثال على ذلك. ومع ذلك، يمكن أن تكون الإعلانات أيضاً معاهدات بالمعنى العام الذي يُقصد به أن تكون ملزمة بموجب القانون الدولي.
ولذلك فمن الضروري في كل حالة على حدة تحديد ما إذا كان الطرفان يعتزمان إنشاء التزامات ملزمة. قد يكون من الصعب في كثير من الأحيان تحديد نية الأطراف. ولم يكن القصد من بعض الصكوك التي تحمل عنوان "الإعلانات" في البداية أن تكون لها قوة ملزمة، ولكن ربما كانت أحكامها تعكس القانون الدولي العرفي أو اكتسبت بعد ذلك طابعاً ملزماً كقانون عرفي. وكان هذا هو الحال بالنسبة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948. ويمكن تصنيف الإعلانات التي تهدف إلى أن تكون لها آثار ملزمة على النحو التالي: فالإعلان يمكن أن يكون معاهدة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويُعَد الإعلان المشترك بين المملكة المتحدة والصين بشأن مسألة هونغ كونغ في عام 1984 مثالاً بارزاً. كما أن الإعلان التفسيري هو صك ملحق بمعاهدة بهدف تفسير أو شرح أحكام هذه الأخيرة.
قد يكون الإعلان أيضاً بمثابة اتفاق غير رسمي بشأن مسألة ذات أهمية مرتبطة بقرار دولي، وجب من خلال هذا الإعلان التمسك ببنوده والتأكيد عليه، ونعتقد ان ما حصل بين لبنان والكيان الصهيوني يندرج في هذا المعنى فهو إعلان تضمن 13 بند أتت تباعاً لتؤكد ما تم الاتفاق عليه دولياً في القرار 1701 الصادر عقب حرب تموز 2006.
إذاً هو "إعلان لوقف الأعمال الحربية"، أتى استكمالا وتأكيداً على البنود الواردة في القرار 1701. وللتذكير فقد حصلت مبادرة في العام 2006 قبل أيام من وقف الأعمال العسكرية حينها وكانت هذه المبادرة اوروبية-أمريكية مشتركة تتحدث عن نزع سلاح وتفكيك البنية التحتية لحزب الله، حينها ردّ لبنان بأنّ هذا المطلب هو طموح "إسرائيل" وبالتالي هو مرفوض. ثم حصلت المبادرة العربية، وحصل خرق للقرار نتيجة معركة وادي الحجير التي اجبرت العدو الصهيوني وجيشه على التراجع والخروج إلى ما وراء الخط الازرق. وسقطت كل الذرائع من يد هذا الكيان الذي اضطر في النهاية للقبول بالقرار 1701.
في القرار 1701، وتحديداً في بنده الأول هناك حديث عن وقف الأعمال العدائية، وفرض الانسحاب على إسرائيل، والتوقف عن العدوان، والهجمات على لبنان. وبالمقابل على لبنان والمقاومة الامتناع عن التعرض لإسرائيل. كما يستعرض القرار دور اليونيفيل والمنطقة ما بين جنوب الليطاني والأراضي الفلسطينية المحتلة.
يشير البند العاشر من القرار 1701، إلى أنه فيما يخص القرار 1559 والقرار 1680 ومزارع شبعا، فعلى الأمين العام للأمم المتحدة إعداد اقتراح يرفع إلى مجلس الأمن لينظر فيه ويتخذ القرار، وهذا يعني أنّ القرار 1559 و1680 هي قرارات مجمّدة حالياً وفق القرار 1701 إلى حين صدور قرار في ذلك من مجلس الأمن.
هذا القرار الأخير الذي صدر مؤخراً هو مجرد إعلان لوقف الأعمال الحربية يحتم الرجوع إلى تطبيق القرار 1701 لعام 2006. وإذا ما رغب الأطراف المتنازعة أو الطرف الإسرائيلي بتعديل القرار 1701 فيجب حينها الرجوع الى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار جديد. ففي القانون الدولي هناك قاعدة اسمها موازاة الصيغ وهي تعني أن السلطة التي أصدرت القرار هي الوحيدة المخولة بإدخال أي تعديلات على بنود القرار. وهذا يعني حتماً أنّ اسرائيل لا تلتزم بالقرار 1701 وعليها الرجوع لمجلس الأمن لتغيير ذلك.
هذا الإعلان هو وقف متبادل لإطلاق النار وتطبيق متبادل لبنود القرار 1701. ولكن السؤال الذي يتبادر للبعض لماذا الآن قررت المقاومة تطبيق القرار 1701 وليس في 2006. الجواب ببساطة أنّ هناك حملة بروباغندا إعلامية بدأت تعمل على زرع فكرة في عقول اللبنانيين أنّ القرار 1701 أتى عقاباً للبنان وهو قرار استسلام، وللتذكير فإنّ "اسرائيل" هي التي طالبت بتطبيق القرار 1701.
عندما نقول تطبيق متبادل للقرار 1701، هذا يعني أنّ الاطراف المتنازعة عليها الالتزام بشروطه، وإذا تقاعس أحد الطرفين على التنفيذ أو ارتكب خروقات (كما يفعل جيش العدو الإسرائيلي)، يصبح من حق الطرف الآخر أي لبنان (ممثلا في المقاومة والجيش) أن يستنكف عن تطبيق الالتزام.
بالميدان، لماذا حصل إعلان وقف إطلاق النار؟ باختصار لأن العدو لم يعد قادراً على الاستمرار في الحرب، فلديه أزمة كبيرة اليوم في عديد الجنود (جيش يحتاج لمتطوعين لأن الاحتياط لم يعد بمقدورهم سد الفراغ وهذا يتطلب سنوات لإعداد متطوعين)، والمعدات العسكرية والذخائر، ولم يحقق أهدافه في الحرب البرية.
سنعرض في هذه الورقة مسألتين:
- ارتباط إعلان وقف الأعمال العدائية بالقرار 1701 الذي يضفي عليه شرعية التنفيذ.
- الاشكاليات، والمخاطر المطروحة في هذا الاعلان.
اعلان وقف الاعمال العدائية مرتبط بالقرار 1701
هذا الإعلان الجديد لوقف الأعمال الحربية في العام 2024 هو تأكيد جديد على وجوب الالتزام بالقرار 1701 الصادر في العام 2006 عقب حرب تموز. من هنا يعتبر القرار 1701 المرجعية الشرعية لإعلان وقف الاعمال العسكرية الجديد. لا يزال هذا القرار مرجعاً دولياً لوقف إطلاق النار، وقد استطاع المفاوض اللبناني المحافظة عليه من دون زيادة أو نقصان كما يردّد دولة الرئيس نبيه بري.
في قراءة لنص القرار 1701، يظهر ما تم الاتفاق عليه في الجانب المتعلق ببند انتشار الجيش في منطقة جنوب نهر الليطاني، وذلك استناداً إلى القانون المتعلق بمسألة تكليف الجيش اللبناني مهمات أمنية داخلية أكثر من دور مساندة قوى الأمن الداخلي. وهذا ما تم الاتفاق عليه وفقاً للقانون المنظم له، مع التأكيد على عدم إعلان منطقة الجنوب اللبناني منطقة عسكرية، ولذلك حصل إلغاء القرار الذي يحدد منطقة بعلبك الهرمل كمنطقة عسكرية.
بمعنى أن منطقة جنوب الليطاني تبقى في ظل انتشار الجيش اللبناني، منطقة مدنية فيها كل السلطات المتعلقة بهذا الأمر. سلطة المحافظ وقوى الأمن والقضاء المدني ودور الأمن العام والبلديات والحريات، وسوى ذلك من أشكال السلطة المدنية. وحصل ذلك بإجماع مجلس الوزراء في حينه، كصورة مفاضة عن الديموقراطية والحفاظ على الحريات المدنية وحقوق الإنسان في لبنان، كما في بقية دول العالم وفقاً لما تعلن سلطاتها وتسنّ قوانينها.
وعليه، يقوم الجيش اللبناني بمهماته الوطنية والأمنية جنوب نهر الليطاني وفقاً للقرار المبين أعلاه، وهذا لم يتغير في دوره الوطني والأمني، في إعلان وقف إطلاق النار لأن مسألة مرجعية القرار الدولي 1701 أمر جوهري، وليست أمراً شكلياً. لأنه قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، وأي تعديل جوهري فيه، يستلزم العودة إلى مجلس الأمن الدولي، ونكون أمام قرار جديد. وهو ما لم يحصل لأسباب عدة من بينها، أن القرار الدولي رقم 1701 أثبت قدرة على حفظ الاستقرار على الحدود اللبنانية الفلسطينية خلال عقدين من الزمان رغم خروقات العدو.
إن العدوان على غزة، وحرب المساندة في لبنان، ضمن قواعد اشتباكها لم تحل دون العودة في حال توقفت إلى مندرجات القرار الدولي 1701، واستمر هذا القرار محتفظاً بمشروعيته وزخمه وصلاحيته. والحرب على لبنان، ثبّتت في خريف 2024 موازين القوى في حرب تموز آب 2006، ولم يستطع العدو تغيير معادلة ميزان القوى في ميدان الحرب، بل حققت المقاومة تعديلاً إيجابياً لمصلحتها، يمكن أن ننظر إليه كتثبيت لانتصار حرب تموز، وتحقيق انتصار مكرر في حرب تشرين 2024.
وعليه، فإن الوضع المتعلق بدور المقاومة، وفقاً لمقولة وحدة الجيش والشعب والمقاومة، لا تزال تحتفظ بمشروعيتها وزخمها وصلاحيتها، وهي ستكمل حركة الخطة اللبنانية في إستراتيجية الدفاع الوطني. وهنا يمكن البحث في أمرين يستحقان النظر في إعلان وقف إطلاق النار:
الأول: آلية تنفيذ الإعلان. وهو ما حصل تعديله كقرار تنفيذي في اللجنة الخماسية لتطبيق بنود القرار ومراقبة تنفيذه، وهو إضافة تنفيذية على دور اللجنة الثلاثية السابقة، مع التأكيد على ضرورة التنفيذ.
ثانيا: وهي النقطة التي أثير الجدل حولها، حول ما عرف بحق الدفاع عن النفس. وهو مصطلح عام، جاء من خارج مندرجات القرار الدولي 1701 الذي يستند إليه كلياً قرار وقف إطلاق النار، وعليه تحتفظ هذه النقطة في طابعها النصي العام. وقد تلعب دوراً في منع خروقات القرار الدولي الذي طالما خرقه العدو الصهيوني وما يزال. إلى جانب أن حق لبنان والمقاومة في الدفاع عن النفس متوافر فيها بشكل متوازٍ في مضمار النص، بصرف النظر عن نوايا العدو في العدوان.
إشكاليات ومخاطر مدرجة في بنود إعلان وقف الأعمال العدائية:
يورد بعض المراقبين لإعلان وقف الأعمال العدائية بين لبنان وجيش العدو الإسرائيلي بعض الإشكاليات المهمة والخطيرة التي سنعرض البعض منها:
- يفضّل العدوّ، مرّة أخرى كما في العام 2006، صيغة "وقْف الأعمال العدائيّة" على صيغة وقْف إطلاق النار أو هدنة أو وقْف الحرب. يقول العدو الصهيوني بوقف الأعمال العدائيّة لأنّه يريد استمرار صيغة حالة الحرب بين "لبنان وإسرائيل"؛ لأنّها تسمح له بالعدوان متى شاء. فالكيان المحتل لم يلتزم يوماً باتّفاق الهدنة، الذي لم يمنعه من قصف طائرة مدنيّة في العام 1950، ومِن قصْف مضخّة مياه على الوزّاني في 1964 ومِن خطْف رعاة وقَتلِهم في الجنوب وزرع متفجّرات في نواحٍ مختلفة من لبنان.
- يعترف الإعلان بحقّ الفريقَين في الدفاع عن النفس. لكن: متى كانت آخر مرّة دافع فيها لبنان عن نفسه بوجه العدوان الصهيوني. لقد اعتدى العدوّ على مواقع للجيش حتى بعد أن وقّع هذا الاتفاق. وهو يعمل على حصر حق الدفاع الشرعي عن النفس له فقط ولا يعترف بحق لبنان في ذلك. وبناء عليه، يستمرّ في تسجيل عشرات الخروقات والانتهاكات اليومية منذ وقف إطلاق النار.
بالمختصر، يبقى هذا الإعلان بما يحمل من بنود معلنة وسيلة لفرض وقف الأعمال الحربية المتبادلة لكنه أيضاً يحمل الكثير من التساؤلات حول آليات التنفيذ وهل ستكون قادرة على حماية أمن لبنان وسيادته؟
لن نتحدث هنا عن مخاطر أو تداعيات ذلك على قدرات المقاومة العسكرية، لأن هذا الأمر يتطلب التعمق أكثر في مسالة كيف ستتعامل المقاومة مع هذا الإعلان وبالتالي مع القرار 1701، ولكن يكفي القول بأنه كان أداة لتحقيق بعض الراحة، بعد طول المعارك وعنفها، لاسترجاع الأنفاس، والبحث مجدداً في سبل حماية المقاومة وترسانتها وبيئتها الحاضنة.