بعد مرور 15 شهراً من العدوان "الإسرائيلي" المكثّف على قطاع غزة، ومع اقتراب وقف إطلاق النار، تتضح ملامح معركة لم تكن كما خططت لها تل أبيب. شمال القطاع، الذي يشهد أضخم عمليات التدمير والتطهير العرقي، تحول إلى مقبرة للقوات "الإسرائيلية"، في مشهد يثبت عجز الاحتلال عن تحقيق أي إنجاز استراتيجي رغم ضخامة الترسانة المستخدمة. في هذا السياق، جاءت سلسلة العمليات النوعية للمقاومة، التي لم تكتفِ بالتصدي، بل نقلت المعركة إلى مستوى جديد أربك الحسابات "الإسرائيلية" وعرّى نقاط ضعفها.
ضربات موجعة في الشمال
بيت حانون، الواقعة شمال القطاع، تمثل اليوم عنواناً لصمود الفلسطينيين ومهارة مقاومتهم. في واحدة من أعنف الضربات، فجّر المقاومون عبوة ناسفة شديدة الانفجار بدبابتين تابعتين للواء ناحال، ما أدى إلى انقلاب إحداهما ومقتل طاقمها بالكامل. العملية لم تقتصر على هذا، بل شهدت مقتل قائد سرية النخبة في “الكتيبة 932” ونائبه في كمين محكم.
هذه العمليات دفعت إعلام العدو إلى وصفها بـ” الأيام الحزينة”، حيث أُغلِق الأسبوع الأول من العام الجديد بمقتل 5 جنود وإصابة أكثر من 10 آخرين في سلسلة من الهجمات الدقيقة. المقاومة لم تكتفِ بالكمائن؛ بل استثمرت في إدارة الاشتباكات المباشرة، ما أثبت قدرتها على الجمع بين التخطيط المحكم والتنفيذ الاحترافي.
تكتيكات المقاومة: تطوير نوعي
عمليات المقاومة الأخيرة تكشف عن تطور استراتيجي في الأساليب القتالية. أحد أبرز مظاهر هذا التطور هو الاستخدام الذكي لشبكة الأنفاق التي فشلت التكنولوجيا الإسرائيلية في اكتشافها بشكل كامل. من خلال هذه الأنفاق، تمكنت المقاومة من تنفيذ تسلل دقيق استهدف قوات إسرائيلية في مناطق يزعم الاحتلال أنها تحت “السيطرة العملياتية الكاملة”.
كذلك، أظهرت الاشتباكات الميدانية قدرة المقاومة على مواجهة القوات "الإسرائيلية" مباشرة، حيث وفّرت معلومات استخباراتية دقيقة مكنتها من إلحاق خسائر فادحة وإجبار الاحتلال على تغيير تكتيكاته. صحيفة “معاريف” الإسرائيلية أكدت أن الجيش اضطر لتبديل أساليب القتال في بيت حانون بعد هذه العمليات، مشيرة إلى أنها شكلت ضربة موجعة للواء ناحال، ما استدعى استبداله بلواء آخر.
أزمة جيش الاحتلال: استنزاف مستمر
الهزائم المتتالية في غزة، لا سيما شمالها، كشفت عن أزمة استراتيجية يعاني منها جيش الاحتلال. لواء ناحال، الذي يضم كتائب النخبة مثل 931 و932 و934، تكبد خسائر جسيمة، ما استدعى استبداله للتخفيف من وطأة الضغط العسكري. لكن المقاومة، عبر استغلال البيئة الجغرافية المعقدة، تمكنت من استنزاف قوات الاحتلال بكمائن مبتكرة وعمليات تفخيخ محكمة.
جيش الاحتلال يعاني أيضاً من نقص في الخبرة القتالية المطلوبة لحرب العصابات في غزة. بيئة القطاع المغلقة والتكتيكات الإبداعية للمقاومة جعلت القوات "الإسرائيلية" عرضة لكمائن مركبة، وفقدانها للسيطرة على الميدان النهاري يؤكد أن العمليات الليلية لن تكون حلاً سهلاً كما يروّج له.
الخسائر الإسرائيلية: أرقام ثقيلة
طوال الحرب التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اعترف الاحتلال بمقتل 835 جندياً وإصابة الآلاف، بينهم مئات من الحالات التي تعاني إعاقات دائمة. هذه الأرقام تبيّن عمق الأزمة التي تواجهها إسرائيل، حيث يرزح جيشها تحت وطأة معركة طويلة الأمد لم يكن مهيأً لها لا نفسياً ولا عسكرياً.
المقاومة ومعادلة الردع الجديدة
ما يجري في غزة اليوم يتجاوز الدفاع عن الأرض إلى فرض معادلة ردع جديدة على الاحتلال. المقاومة لا تعتمد فقط على تكتيكاتها العسكرية المبتكرة، بل نجحت أيضاً في التأثير النفسي على الجبهة الداخلية "الإسرائيلية". كل ضربة جديدة تساهم في تقويض صورة الجيش الإسرائيلي كقوة لا تُقهر، وتعزز في المقابل صمود الشعب الفلسطيني وثقته في قدرات مقاومته.
غزة تُعيد تشكيل الصراع
الحرب على غزة ليست مجرد معركة عسكرية؛ إنها اختبار للإرادة السياسية والاستراتيجية بين قوة احتلال تعتمد على التفوق العسكري، وشعب يؤمن بحقه في التحرر. المقاومة، بأساليبها النوعية ومرونتها الميدانية، أظهرت أن الاحتلال الإسرائيلي ليس عصياً على الاستنزاف. ما كان يفترض أن يكون حملة عسكرية سريعة تحول إلى كابوس طويل الأمد لتل أبيب، مع سؤال كبير يلوح في الأفق: كيف يمكن لجيش يدّعي التفوق أن يهزم شعباً لا يملك إلا إرادته؟
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]