في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 فيما كانت المنطقة منشغلة بالحديث عن وقف إطلاق النار في لبنان، وانتهاء العدوان الإسرائيلي الذي تُوج بنصر للمقاومة، وفيما كان العالم يترقب تغيير وجه منطقة الشرق الأوسط كما أعلن نتنياهو من بوابة لبنان كانت غرفة العمليات الأميركية الإسرائيلية المشتركة بالتنسيق مع التركي ودول إقليمية تحضر لأمر كبير في سياق هذا التغيير لكن من بوابة دمشق، إنها سوريا والهدف إسقاط النظام واستبداله بنظام آخر بتدخل تركي.
قبل بدء عملية إسقاط النظام والاندفاعة العسكرية للمقاتلين باتجاه حلب، كان الإماراتيون وقبلهم القطريون أبلغوا الرئيس السابق بشار الأسد برسائل التهديد الأميركية، وانهم بصدد الإطاحة به، وأمامه مهلة 24 ساعة إذا لم يستجب للطلبات الأميركية، وأهمها:
- فك الارتباط مع إيران وحلفائها وإخراجهم من سوريا.
- بدء الحوار مع المعارضة المسلحة لتشكيل حكومة جامعة.
-إعادة 4 مليون نازح سوري من تركيا.
-إعطاء طريق ام 5 التجاري الشهير لتركيا.
- تنفيذ بنود مخرجات مفاوضات استانة كاملة.
الأسد رفض رسالة التهديد الأميركية التي حملها الإماراتيون اليه، وأصر على مواقفه ولاءاته، فهو لم يقبل فك الارتباط مع إيران ومحور المقاومة سنوات طويلة وتحمل الأكلاف والأثمان، ولن يتخلى الآن، وما تزال الحاجة قائمة لوجودهم، ورفض تنفيذ بنود اتفاقات استانه قبل خروج الاحتلال التركي من الأراضي السورية، كما أنه لن يسلم سوريا للجماعات المسلحة المرتبطة بأجندات إقليمية ودولية. هكذا كان يعبر الأسد عن موقفه لزواره الخليجيين.
في هذه الأوقات كانت التقارير الاستخباراتية من الميدان من قبل الإيرانيين والروس وحلفاء سوريا تصل تباعاً (وقبل حوالي شهرين) الى قصر المهاجرين في دمشق تفيد بأن الفصائل المسلحة في إدلب تتحضر لتنفيذ هجوم كبير نحو حلب والمدن الكبرى. والذي بدأ فعلياً ب 27 تشرين الثاني / نوفمبر.
الأسد في موسكو طالباً المساعدة لكن!
في اليوم الثاني لبدء هجوم هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة على حلب أي 28 تشرين الثاني غادر الأسد الى روسيا على الفور في زيارة مفاجئة وغير معلنة، طالباً المساعدة الا انه لم يسمع ما يسره هذه المرة في موسكو وكان الجواب صادماً له، حيث نصحه وزير الخارجية سيرغي لافروف أولاً بتنفيذ مخرجات اتفاق استانه والحوار مع المعارضة، وثانياً، والأهم أن روسيا غير قادرة على تقديم المساعدة والدعم العسكري للنظام لا سيما انه ثبت لديهم ان الجيش السوري لم يُظهر أي رغبة في قتال الجماعات المسلحة المندفعة نحو حلب، فيما تشير المعلومات الى ضغوط كبيرة مارستها الإدارة الأميركية على الكرملين.
الجيش السوري منهك وضعيف بفعل الحصار الأميركي والضربات الإسرائيلية
تؤكد المعلومات وشهود عيان والتقارير الأمنية التي وصلت للروس والإيرانيين حصول خيانات لدى بعض قادة الفيالق وضباط الجيش السوري، وانه تم شراؤهم بأموال تركية، ووعود من الجماعات المسلحة بمنحهم العفو وإعطائهم المناصب والأموال، وتلقوا اتصالات هاتفية في اللحظات الحرجة لترك مواقعهم، بل وقاموا بفتح ثغرات للمسلحين للدخول والالتفاف في كافة الجبهات.
كان الجيش السوري يعاني من وضع مأساوي غير مسبوق بسبب آثار قانون قيصر والعقوبات الأميركية القاسية ضد سوريا وشعبها وجيشها وقادتها، حتى بات ضعيفاً جائعاً مقارنة بالمسلحين الذين يتقاضون رواتب أضعاف رواتب جنود الجيش وضباطه ويعيشون حياة كريمة يغدق عليهم التركي بالأموال، وأنواع الدعم المادي والحياتي من وقود ومواد غذائية وطبابة ودواء وغيرها.
عاد الأسد من موسكو الى دمشق خالي الوفاض هذه المرة، فالحليف الاستراتيجي روسيا غير قادر على تقديم المزيد من المساعدة العسكرية، والجيش السوري لا يريد القتال، والشقيق العربي والخليجي الذي تلقى منه وعودا بالدعم وإعادة الاعمار وغيرها كان حاملاً لرسائل الموت والإنذار الأخير للإطاحة به، ولم يعد أمام الأسد من خيار الا الجمهورية الإسلامية، إيران التي عمل النظام السوري خلال السنوات الأخيرة على مسار تقليص حضورها وحضور مستشاريها العسكريين، والحد من نفوذها، وهذا المسار كان الدور المطلوب من دمشق تنفيذه لإرضاء دول عربية وخليجية كانت وعدت بمساعدة النظام السوري في إعادة الإعمار ورفع الحصار وغير ذلك، هذه الوعود اكد الإمام السيد علي الخامنئي اثناء استقباله الأسد في طهران قبل نحو 6 أشهر أنها وعود فارغة لن يفوا بها. لكن على من تقرع مزاميرك يا داوود!
كان الأسد يسعى لمسك العصا من الوسط فهو لم يتخلى عن إيران ومحور المقاومة مقدراً مساعدتهم له في الأيام الصعبة، الا أنه لم ينصت لنصائحهم المتكررة له، وأهمها:
- الحوار مع المعارضة والفصائل المسلحة، إذ تؤكد مصادر خاصة للخنادق أن إيران مدّت الجسور، وفتحت قنوات اتصال مع أطياف من المعارضة المسلحة في إدلب لا سيما هيئة تحرير الشام بهدف تقريب وجهات النظر، واقناعها الدخول في حوار مع النظام، وقد أُبلغ الأسد بذلك.
-إجراء إصلاحات في النظام، وتفاهمات مع أطياف الشعب السوري والمعارضة المسلحة.
- تنفيذ مخرجات اتفاقات استانة التي رعتها إيران وروسيا وتركيا.
- ترميم قدرات الجيش السوري وبنيته المهترئة، حيث كان الجميع (حلفاء سوريا) يرى ان الجيش غير مؤهل وحده للقتال، ولا يمتلك التجهيز العسكري اللازم، بسبب العقوبات والحصار والضغوط الأميركية والإسرائيلية، فضربات جيش الاحتلال لم تتوقف لاستهداف مفاصل القدرة فيه من مراكز بحوث وتطوير وتصنيع عسكري وغيرها، وكان يتعرض لضغوط نفسية كبيرة ولم يعد لديه حافزية القتال، ولم تعمل الإدارة السياسية في النظام على ترميم قدراته وهيكليته، وتعزيز مقومات قوته وصموده، ولم تنصت لنصائح الحلفاء بضرورة معالجة هذه المعضلة، كما انه كان جيشاً فاسداً مرتشياً، ولم يتعلم من دروس الماضي.
-عدم الرهان على الوعود العربية مع الحث على مواصلة سياسة الانفتاح على العالم العربي، والعمل على عودة سوريا الى لعب دورها العربي والإقليمي. وتؤكد المصادر ان طهران كانت تشجع وتدفع دمشق للحوار مع العرب ودول الخليج، لكن العرب نفسهم الذين تآمروا عليه عام 2011 وأغدقوا عليه بالوعود الاقتصادية والمالية منذ عدة سنوات وقفوا الآن متفرجين او مشاركين في الإطاحة به.
لماذا رفض الأسد نصائح الإيرانيين؟
أمام هذه التطورات الدراماتيكية المتسارعة، بعث الامام الخامنئي كبير مستشاريه الدكتور علي لاريجاني الى دمشق والتقى الأسد، مؤكداً له ان إيران كانت وما تزال مع سوريا وشعبها، مكرراً أمامه المعلومات الاستخباراتية من الميدان (كان الإيرانيون أبلغوا الجيش السوري والأسد قبل شهرين من الهجوم بهذه المعلومات) التي تؤكد ان التحضيرات واسعة للهجوم بدعم أميركي ورعاية تركية، ونصحه بالعودة الى مخرجات استانة، وتنفيذها كطريق للخروج من الأزمة حسب مصادر الخنادق.
وفي اليوم التالي قام وزير الدفاع الإيراني نصير زادة بزيارة إلى دمشق وقال لدى وصوله "بناء على توصيات قائد الثورة الإسلامية مستعدون لتقديم كل وسائل الدعم الى سورية الصديقة"، الزيارة تزامنت أيضا مع تهديدات إسرائيلية مباشرة باغتيال بشار الأسد.
بعد أيام وصل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى دمشق والتقى الأسد حيث كشف عراقجي عن فحوى هذه الزيارة في مقابلة تلفزيونية قال فيها: " من الناحية الميدانية والمعلوماتية الأمنية في بلدنا وفي سوريا نحن على علم تام بالتحركات في ادلب وتلك المناطق، وانه تم نقل جميع هذه المعلومات ذات الصلة الى الحكومة والجيش السوري"، وأضاف ان "الأسد كان متفاجئا واشتكى من سلوك جيشه، وعدم وجود حافز لديه للقتال". موضحاً ان ما كان مفاجئاً للسوريين هو عجز الجيش السوري الذي يعاني من ضغوط شديدة، وسرعة التطورات الحاصلة.
عراقجي أعلن بوضوح للمسؤولين السوريين ان إيران مستعدة للمساعدة لكن إذا طلبت سوريا ذلك، فهي لن تقاتل نيابة عن أحد، ولن تتدخل بدون هذا الطلب، وهذا ما أشار اليه الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله في احدى مقابلاته التلفزيونية ان "وجود روسيا وإيران وحزب الله في سوريا بدون طلب رسمي من دمشق سيتحول الى قوة احتلال"، الا ان الأسد نتيجة الأحداث الدراماتيكية المتسارعة ظهر حائراً غير قادر على اتخاذ هذا القرار. وظن انه قادر على الصمود والتحصن في دمشق عدة أشهر من خلال طوق فرضته الفرقة الرابعة في الجيش بقيادة ماهر الأسد حول العاصمة، الا أنه سرعان ما تبين ان الفرقة الرابعة هي أيضا ليس لديها حافزية القتال، وتهاوت دفاعاتها. فيما الإصلاحات التي بدأها النظام اقتضت تموضع ما بقي من مقاتلي حزب الله والقوى الحليفة خارج دمشق.
يوم السبت السابع من كانون الأول ديسمبر، اليوم الأخير للرئيس في قصر المهاجرين، اجتمع الأسد مع عدد من الضباط، وحثهم على القتال، وان الدعم الروسي قادم، الا انه ادرك في قرارة نفسه ان اللعبة انتهت، وانه ينبغي عليه التنحي، وقد ارسل لمستشارته بثينة شعبان للحضور الى قصر المهاجرين بهدف كتابة خطاب التنحي، لكن الأحداث المتسارعة وتهاوي الدفاعات السورية السريع في الجبهات وما سمعه من خيانة في ضباط الجيش دفعه لاتخاذ قرار جريء بالرحيل وعدم الخروج بخطاب التنحي أمام السوريين، فاتصل بمندوب الرئيس الروسي فلادمير بوتين الخاص الموجود في دمشق لترتيب عملية الهروب وهو الشخص الوحيد الذي يثق به وكانت مهمته الأساسية صلة الوصل المباشرة بين الأسد وبوتين. لم يخبر الأسد عن قراره هذا أحدا من المقربين لا مدير مكتبه ولا فريق عمله ومستشاريه، حتى أخيه ماهر الأسد الذي لجأ الى العراق لم يكن على علم بالتنحي، وتؤكد المصادر أنه ليل السبت (فجر الأحد) حضرت طائرة هليكوبتر روسية أقلّت الأسد وعائلته من قصر المهاجرين الى قاعدة حميميم شرق مدينة اللاذقية، ومنها الى العاصمة الروسية موسكو. لينتهي بهذا الحدث النظام السوري القديم بعد حكم دام أكثر من 53 عاماً.
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير موقع الخنادق الالكتروني.