لا تزال عملية الوعد الصادق، التي نفذتها القوات المسلحة في الجمهورية الإسلامية في إيران ضد الكيان المؤقت، في الـ 14 من نيسان / أبريل 2024، رداً على استشهاد اللواء زاهدي ورفاقه وعلى استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا، تحوي الكثير من الأسرار والرسائل المبطّنة، التي تحتاج الى الوقت كي تُكشف وتُبيّن أمام الجماهير العربية والإسلامية والدولية، بعدما عرفها وفهمها جيداً المعسكر الغربي بقيادة أمريكا ومن خلفه كيان الاحتلال.
وفي هذا السياق، استضاف موقع الخنادق الباحث السياسي الدكتور بلال اللقيس، لكي نستشف منه بعض رسائل هذه العملية، وتداعياتها على مسار معركة طوفان الأقصى، وهذا نص الحوار:
السؤال الأول: كيف غيّرت عملية الوعد الصادق من المعادلات الإقليمية والدولية، خاصة على صعيد الصراع مع أمريكا والكيان المؤقت؟
أولاً، السلام عليكم ورحمة الله. وأبارك جهودكم في موقع الخنادق التي دائماً تؤكد لنا الدقة والعلمية والمشاركة والإسهام النوعيين في هذا الصراع، من موقعكم الإعلامي.
نحن عادةً في محور المقاومة، أحياناً نقوم بخطوات طبيعتها عميقة جداً، وأثارها بعيدة، ويحاول الإعلام المعادي أخذ محور النقاش من قضايا كبرى، الى قضايا جزئية. فيُبهّت ويُغيّب حجم وآثار وتداعيات المحطات المفصلية والأساسية.
طبعاً من المهم والعظيم جداً اليوم، التحدّث عن الشهداء والتضحيات والصمود وغيره من الأمور. ولكن حدث مثل عملية الـ 7 من تشرين الأول (عملية طوفان الأقصى)، لم يأخذ حقه في النقاش المعمّق: لماذا فشل الغرب ومعه الإسرائيلي، بكل ما يمتلكونه من أدوات استعلام واستخبار وإحاطة ومعلومات، من أن يكتشفوا أو يتصدوا أو يستشرفوا حصول هكذا الحدث؟
وبالتالي لم تكن المفاجأة فقط أمنية وعسكرية، بل كانت أيضاً في أنهم عجزوا عن قراءة العقل المقاوم في غزة. إذن فإن الأمر أبعد من الاستعلام الأمني.
وأذكر مثالاً آخراً، لإني اعتبره موازياً بلحاظ حجمه وآثاره وتداعياته، وهو ما حصل في الـ 14 من نيسان / أبريل (عملية الوعد الصادق)، الضربة الإيرانية التي حصلت رداً على القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في سوريا.
وأظن أيضاً، أن من أولى الأمور التي يُستحق أن تُقرأ قبل أن نتحدث بالتداعيات: كيف أن إسرائيل والغرب من خلفها – لأني اعتقد أن القرار الإسرائيلي أتى بتنسيق ما مع جزء أو كلّ من الإدارة الأمريكية وهذا الأمر يحتاج الى نقاش لاحق – لم يتوقعوا نتيجة تراكم وتصور فهمهم للجمهورية الإسلامية في إيران، أن بإمكان الإسرائيلي استكمال مسار الـ 45 عاماً الماضية؟
وإذا به يُفاجئ، أن إيران قامت بردّ بهذه الطريقة المذلّة لإسرائيل وأمام أعين الناس وعلى مرأى من العالم. وتبيّن أن إيران مقتدرة والكثير من الأمور التي سنتحدث عنها بعد قليل.
هنا نستنتج أن الغرب عموماً وإسرائيل على وجه الخصوص، قبل أن نتحدث عن معطى أمني أو عسكري، هي لا تقرأ محور المقاومة بطريقة صحيحة.
واسمح لي أن استشهد استشهاداً ثالثاً، هو الساحة اليمنية. عندما أعلنت المقاومة والشعب اليمني والدولة اليمنية، أنها سوف تساند غزة، وأنها هيأت نفسها لخطوات تصعيدية. أيضاً تعاطى الأمريكي في الفترة الأولى مع الموضوع بمقاربة أمنية، أي أنه سوف يقوم بضرب أماكن منصات الصواريخ. واكتشف مع مرور الوقت بأن هذه العملية غير مجدية، ومقاربته كانت خاسرة، وأن اليمن يمتلك إمكانات وقدرات تتجاوز البحر الأحمر ثم البحر العربي ثم المحيط الهندي، والآن سيثبت أنه يمتلك قدرات للتأثير في البحر الأبيض المتوسط.
إذا ما قصدته بالقول، هو المفاجأة في طبيعة العدو، في عقل العدو. أي عدو أمريكا وإسرائيل: محور المقاومة.
نحن كالكثير من موضوعاتنا الأساسية والخطيرة والعميقة، الإعلام المختلف لا يتيح مساحة للتعمّق فيها، لأن ذلك سيؤدي الى زيادة أزمة الشارع عند العدو الصهيوني أو أزمة المجتمعات في الغرب في نظرتها لذاتها ونظرتها للآخر. لذلك هم يُغيّبون هكذا قضايا، ويركّزون على ما يحبون التركيز عليه، مثل المواضيع التي تضيء على نقاط قوتهم، أو المواضيع التي تضيء على نقاط ضعفنا، ولا يعكسون المشهد.
بناءً عليه، أريد التحدث بدقائق سريعة بعض الأمور حول تداعيات وآثار عملية الـ 14 من نيسان، لأنني اعتقد في الفهم السياسي، بأنها تشكّل مفصلاً، وما قبله غير ما بعده، في جميع القضايا السياسية في منطقتنا بل وأجزم فيما هو أبعد من منطقتنا أيضاً.
هناك 3 نقاط أحبّ ان اتحدّث حولها، وقبله أوّد أن أوجّه مقدمة أو رسالة صغيرة: دائماً السياسة مسارات، وليس كبسولة. أي عندما تقوم جهة ما، خاصة جهة ذا إرادة ورؤية، عندما تقوم بفعل، فإنه ليس فعلأ فردياً وحيداً لا يتكرر، الأمر ليس كذلك.
فهي عندما تقوم بفعل، من المفترض أن هذه الجهة عندها إرادة وصاحبة مشروع، إن كانت هذه الجهة نحن أم الأمريكان أم الصين ام الروس، يعني أي جهة أو قوة من القوى الفاعلة والمؤثرة، التي تحرك في المشهد العالمي، تقوم بفعلٍ أو خطوة كجزء من رؤيا غير معزول عنها.
وبالتالي إذا راقبنا اليوم، كل أداء محور المقاومة، ولنأخذ مقاومة لبنان كنموذج. عندما كانت المقاومة اللبنانية تقوم بخطوة، كان البعض يفهم هذه الخطوة بمعزل عن غيرها، ثم يتفاجأ بأنها تأتي في سياق متّصل لشيء سيأتي لاحقاً، ومرتبطة بشيء سابق.
وهكذا شاهدنا مسار بناء الاقتدار في ساحة مقاومة لبنان، ثم في غزة، فالعراق واليمن وسوريا، والأخطر والأكبر في إيران، وفي كثير من الساحات العربية مثل البحرين ودول خليجية شعوبها بدأت تتحرك.
ما قصدته بالقول، أنه دائماً إذا أردت أن تقرأ محور المقاومة، فإنه ليس من المطلوب أن تقرأ النتيجة الآنية (ممازحاً: أي أنصح الأعداء)، بل أن تقرأ الإرادة والنيّة. فمتى ما وُجد هذا العنصران، فإن الكثير من الأمور يمكن أن تُعالج، مهما صعبت على المستوى العملي والعملياتي. فمثلاً، منذ بداية إطلاق اليمن الصواريخ نحو مدينة إيلات أي أم الرشراش، لم تستطع الصواريخ الوصول (بسبب منظومات الاعتراض الأمريكية وغيرها). وأنا أتذكر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته انه قال، بأن الصواريخ الآن لم تصل، لكن طالما بأن اليمن مصمّم وطالما بأن السيد عبد الملك الحوثي مصمّم، وطالما أن هناك إرادة شعبية وجماهيرية مصمّمة، فإن هذه الصواريخ والطائرات المسيّرة ستصل في الأيام المقبلة حتماً. وهذا ما يحصل فعلاً هذه الأيام.
لذا عندما ننظر الى محور المقاومة، فإنه يجب على عدوّه، وأظنه يفكر هكذا، بأن لا ينظر الى النتائج السريعة والمباشرة، بل أن ينظر الى النوايا. باعتبار أن المحور يقوم مشروعه على نهج الاقتدار، وعلى إرادة وعزم قويين، في مواجهة مشروع الهيمنة الغربية، وبالذات مواجهة أداته الفعّالة سابقاً وغير الفعّالة حالياً: إسرائيل.
وعليه، فإن السياسة ليست كبسولة بل هي مسارات. وبالعودة الى المثل اليمني، عندما قام بخطوته الأولى في البحر الأحمر، تحدث الكثير من المحللين على أنها خطوة أولى، وسنجد اليمن بعد فترة في البحر المتوسط. البعض رفض هذا الكلام. لكننا اليوم نجد بأن اليمن صار في البحر المتوسط. ومن الممكن أيضاً أن نجد اليمن في أماكن أخرى، بل ونجد ساحات أخرى لمحور المقاومة في أماكن أخرى.
إذاً المسار مفتوح والعقل المقاوم وعقل المحور، يقارب الأمور بمديات بعيدة ووفق رؤية ووفق تصورات، والأهم هو وجود النية والإرادة.
سابقة عملية 14 نيسان
إذا أتينا الى سابقة – وقد أسميتها كذلك كي لا نبيّن بأنها منعزلة – أن إيران بعد 45 سنة، تقرّر القيام بهذا الفعل، فإن هذا بيعني بأن هنالك أمر جديد.
فكما تعلم هناك رأيان، الأول يقول بأن إيران أقدمت على هذا الفعل، بسبب أن أرضها هي التي تم الاعتداء عليها أي القنصلية، ولو أن القنصلية لم تضرب لم تكن إيران لتقوم بهذا الفعل. وهناك رأي يقول بأن إيران قامت بهذا الفعل، مستفيدةّ من أن قنصليتها قد تم الاعتداء عليها، وبالتالي كان الاعتداء الإسرائيلي على قنصليتها بمثابة ذريعة، وإيران تنتظر ذريعة قانونية لكي تقوم بالفعل.
هذا النقاش مهم جداً، وأظن بأن رئيس الجمهورية الإسلامية السيد إبراهيم رئيسي فد أجاب عنه في خطابه الأخير عندما قال: إن قيامنا بهذا الفعلـ ارتبط بشكل أساسي بغزة وبما يجري فيها وبالاعتداء عليها.
وعليه أصبحت القنصلية ذريعة قانونية، وهذا ما يعرفه الجميع. من أن محور المقاومة دائماً ما يتعاطى بهذه الخلفية. وهو دائماً ما يلحظ البعد القانوني في التعاطي في صراعه، لأنه يسعى الى توسيع دائرة شرعية ومشروعية صراعه. وهو يعلم بأن أعداؤه في مكان ما، لا يحترموا قانونية، فضلاً عن عدم امتلاكهم لأي شرعية.
لذلك أثبت الإيراني من خلال تنفيذ هذه العملية 3 أمور، وكأنه يقول من خلالها بأن هذه 3 رسائل يمكن أن تبنوا عليها في الفترة المقبلة:
الرسالة الأولى، أن الذي قام بهذه السابقة، يمكن في لحظة ما، وانطلاقا من معطيات وظروف ما، خصوصاً بأنه قال بأنه إذا هدّدت إيران في مصالحها، وبقيت المفردة الأخيرة عنواناً مطاطاً، وهو تقصد ذلك ليترك لنفسه أريحية الفعل. وبالتالي إذا كنت يا إسرائيلي في الفترات الماضية تعتبر أن إيران، يمكن أن تقوم بكل الأعمال وتُضرّ بها وبمصالحها، وأنها لن تقوم بالردّ على ذلك علناً. فتستطيع تهديد مصالح إيران وقيمها، أي الثورة الإسلامية وألا أستطيع أن أحددها. فإيران تقول اليوم بأنّ الأمن بالنسبة لها اليوم، ليس أمن الأرض، باعتبار السفارة أو القنصلية، إنما أمن مصالح أو أمن قيم. وعليه في أي لحظة قد تتحرك إيران تحت عنوان أن الإسرائيلي استهدف أمن القيم الإيرانية، أو استهدف أمن المصالح الإيرانية. إذاً هذا أدخل الإسرائيلي بتقييد في طريقة تفكيره، إن ما حصل سابقة يمكن أن تتكرر في أي لحظة. فهل أنك يا إسرائيلي تستطيع أن تواجه؟ لا، ولأكون صريحاً معك، فإن الإسرائيلي يستطيع تنفيذ ضربة أمنية في إيران، أن يرسل صاروخاً إليها. لكنه لا يستطيع أن يقول: أنا بعد 3 ساعات سأقوم وأضرب إيران وانظروا اليها والى طهران. لا يستطيع أن يفعل ذلك، وهو أضعف من أن يقوم بذلك، فهو بحاجة إلى أمريكا، ونقاس أمريكا في وارد آخر.
لذلك هنا بُنيت قاعدة مركزية، أن الإمام الخامنئي حفظه الله – هنا سأقوم بالتشبيه – نزع عباءته ورماها فوق المنطقة وقوى المقاومة ومحورها ومصالح إيران في المنطقة، وهذا نوع من الخطوط الحمراء، في لحظة من اللحظات، وفي مكان من الأمكنة، لا يمكن للإسرائيلي التعاطي مع الموضوع كما كان يتعاطى سابقاً، وقد يُفاجئ برد فعل إيران. وأنا لا أقول هنا بأن إيران ستردّ على الإسرائيلي في كل لحظة، لكن سيحسب الإسرائيلي عندها حسابات مختلفة.
النقطة الثانية (الرسالة الثانية)، التي أفترضها أيضاً جوهرية ومركزية، هو أن هذه الضربة أسست لمعنى استراتيجي عميق جداً جداً. فما هو؟
خلال العقود الماضية، بُنيت النظرية الأمريكية في المنطقة – بغض النظر حزب جمهوري أم ديمقراطي – أن النظام الأمني الإقليمي محوريته إسرائيل. وبالتالي إسرائيل القوية والمقتدرة، هي التي تستطيع أن تؤمن هذا النظام الأمني الإقليمي. وعندها حينما تأتي الدول العربية لكي تطبّع مع إسرائيل، باعتبار أن لدى الأخيرة قدرة القيام بمهمات الحماية، كونها الدولة المقتدرة. لذلك الرسالة الإيرانية هذه النظرية للعقود الماضية، وأسست لشيء مختلف. فهي قالت للدول العربية: إسرائيل غير قادرة على حماية نفسها، حتى مع وجود 6 دول تعاونت معها من بينهم دول غربية وعربية، الذين كانوا بجانبها لحماية ردعها السلبي، وبالرغم من ذلك لم تستطع أن تحمي نفسها. فبالتالي كيف يمكن أن تحمي الآخرين؟ أيضاًهي قالت إذا كانت إسرائيل تحتاج إلى مجموعة هذه الدول لحماية نفسها، فمن يحتاج إلى آخر يصبح مقيداً. إذن إسرائيل مقيدة. ونتذكر قول الإمام علي (ع): "احتج إلى من شئت تكن أسيره".
إذن إسرائيل أسيرة لكل هذه الدول في الدفاع عن نفسها، إذن هي مقيدة حتى بلحاظ الدفاع عن نفسها، فكيف يمكن أن تكون إذا كانت تريد القيام بفعل هجومي أو ردع هجومي؟ ستحتاج إلى مزيد من الدول وبالتالي ستكون مقيدة أكثر وهذا ما دفع البعض في التحليل إلى القول أن إسرائيل بعد 14 نيسان لم تعد قادرة على خوض ردع بالمعنى الهجومي، أي لم تعد قادرة على خوض حروب كبرى بالمعنى الهجومي لبناء وقائع ومعطيات بالميدان! هذا وضع خطير جداً.
ومن هو البديل الأقدر على صياغ التصور لنظام أمني إقليمي بعيدا عن إسرائيل وبعيدا عن الأنظمة الغربية؟ كأن إيران تقول: أنا البديل المؤتمن والقادر والمقتدر للقيام بذلك. وأذهب أكثر من ذلك لأقول أنا قادرة بالتعاون مع الأنظمة الإقليمية، ومبادرتي لخلق نظام أمني إقليمي بعيدا عن أمريكا وبعيدا عن إسرائيل، نعم هي مبادرة فعلية ونحن قادرون على ذلك.
وقد مدت إيران يد التعاون مباشرة بعد ضربة 14 نيسان لتثبت هذا المعنى. إذاً هذا الأمر أوجد تغييراً في الخريطة.
وإذا أضفنا لإيران حلفائها في البحر الأحمر، هم يرسلون رسائل أشد خطورة. وبالتالي لا إمكانية لأمن دون التعاون بين هذه المنظومة، واليمن إحدى الدول في هذه المنظومة.
وعليه نستطيع أن نتحدث اليوم، أننا لم نعد أمام منظومة عربية فقط تلك التي تسعى إلى تطبيع، بل نحن أيضاً أمام منظومة عربية أخرى، فيها اليمن فيها العراق فيها سوريا فيها لبنان وفيها فلسطين. وهذه المنظومة العربية بالتعاون مع إيران وبالتعاون مع بقية القوى التي تريد يمكن أن تنشئ نظاما أمنيا إقليميا يحقق للجميع مصالحه الاقتصادية والسياسية ومختلف المصالح الأخرى. وهذا تحوّل كبير في الرؤية للمنطقة أسست له ضربة 14 نيسان.
وثالثاً، وضعت 14 نيسان إيران لمن يحب ولمن لا يحب ويبغض، على المسرح الدولي وليس فقط على المسرح الإقليمي. أصبحت إيران لماذا لأنها نفذت العملية بإرادتها المستقلة وبقرارها المستقل، ودون الاعتماد على أي من الوسائل والتقنيات للدول الأخرى إن كانت روسيا أو الصين أم غيرها.
إذن إيران أثبتت في مكان ما أنها لاعب أطول أو أعلى أو أكبر من اللاعبين الإقليميين، لا سيما إسرائيل، وأنها جزء من بوابة المسرح الدولي واللعبة الدولية. وبالتالي اليوم يمكن أن نتحدث بعد 14 نيسان أصبحنا فعلا أمام صيغة أو رؤية أو تصور لعالم مختلف من بوابة الصراع مع إسرائيل والمعركة مع إسرائيل.
أختم: 14 نيسان تممت مسار طويل، ولكن محطة 7 تشرين الأول امتداداً لـ 14 نيسان ماذا قالت؟ قالت إن إسرائيل بعد أكثر من 7 أشهر الآن وصلنا الى الشهر الثامن عمليا، تفشل في اجتثاث المقاومة في غزة على مساحة 360 كم مربع، وترتد كل هذه الأثار والنتائج السلبية على إسرائيل من العالم إلى الإقليم إلى داخل الكيان الصهيوني. فكيف لإسرائيل أن تخوض معارك مع قوى أقوى أو أقدر عسكرياً من حالة غزة، أو مع دول تمتلك من العمق الاستراتيجي والإمكانات؟
وإذا ظن الإسرائيلي في مكان ما أنه بقي لديه عنصر وحيد يمكن أن يستفيد منه، وهو السلاح النووي. لأنه دائماً ما يُبقي هذا السلاح في جعبته ويتركه لمواجهة قوى كبرى أو قوى عظمى إقليميا أو ربما مؤثرة دولياً. فإيران منذ أكثر من شهر، بدأ الكثير من منظريها السياسيين والاستراتيجيين والمفكرين، يتحدثون ويراسلون المرجعية الدينية، بأهمية إعادة النظر في رؤيتنا لمسألة امتلاك القنبلة النووية، لأن الإسرائيلي كلما يضعف ويصبح في بيت اليك، وتتهشم بنيته وردعه، يبدأ التفكير بطريقة لا تمت إلى العقلانية بصلة. علينا أن نكون متحضرين وجاهزين، لأن الحجر لا يردعه إلا الحجر، والنووي لا يردعه إلا النووي. وهذا آخر ما سمعناه من السيد كمال خرازي مستشار الإمام الخامنئي.
إذن أيضاً إيران ترسل رسالة جدية لكل من يفكر أن يخرج عن السلاح التقليدي، في لحظة من اللحظات إذا وجدت أن هناك إرادة جدية عند إسرائيل أو عند الأمريكي أو عند الغرب، فهي قادرة بأيام قليلة أن تعيد خلط الأوراق.
إذن فليتعاطى الجميع من الآن فصاعداً مع محور المقاومة ومع إيران بالذات، أنها إحدى أهم الفواعل الدولية والتي من خلالها فعلاً، يمكن أن نستشرف عالماً متعدد بالكلمة الدقيقة للمعنى، وليس عالماً بلون واحد لكن بدرجات. الذي يضفي على العالم الجديد، معنى مختلف وقيمة مختلفة، هو محور التحرر، والذي في قلبه وفي بنيته وفي سنامه: محور المقاومة.
السؤال الثاني: إذن كيف ستؤثر تداعيات عملية الوعد الصادق على معركة طوفان الأقصى؟
بعد الضربة الإيرانية، نحن نرى أن كل موقف قوى المقاومة أصبح أكثر قوة وجرأة لماذا؟ لأنه في الحقيقة، شئنا أم أبينا، المفاوض الفلسطيني وهو يفاوض، هو ينظر إلى الساحات من خلفه وينظر إلى غزة داخلياً وينظر إلى العالم، فيرى أنه اليوم يفاوض عن محور المقاومة. ومحور المقاومة قال له أنت المفاوض عني. وبالتالي نحن كلنا خلفك ولن نتخلى عنك هذه نقطة مهمة جداً. وعندما رأى إيران أنها تسدد هذه الضربة بهذا الحجم، وعندما رأى أن حزب الله في لبنان والمقاومة وحركة أمل وكل القوى يتقدمون ويحضروا بهذه الطريقة من الحضور، ونرى فعالية جبهة الجنوب في الأشهر الأخيرة بات لها تأثير عميق بالكيان الصهيوني. وعندما رأى اليمن يتحرك وعندما رأى العراق أكثر قدرة وحضوراً. إذن أصبح هو في الموقع التفاوضي أفضل. بالإضافة عندما رأى الإسرائيلي في تخبط، والمشهد العالمي ومشهد الجامعات ومشهد الأمريكي المحير. كل هذا أدى الى تقوية موقف المفاوض الفلسطيني. وفي المقدمة بالتأكيد مقاومته وصمود شعبه، والعناصر الباقية كلّها قوّت من موقع التفاوض.
فبالتالي رأينا المفاوض الفلسطيني ليس جاهزا للتنازل عن أي قضية من القضايا التي يعتبرها خطاً أحمراً. ورأينا أن الذي تنازل في التفاوض الأخير، عما سماها خطوطاً حمراء، هو الإسرائيلي والأمريكي.
إذن نحن أمام انقلاب في المشهد عربيا وإقليميا، كنا عربيا نخسر المعركة وأحيانا إذا ربحنا المعركة نخسر التفاوض. اليوم بتنا نربح المعركة ونبدع في التفاوض.
إذن المشهد اليوم كله مختلف، وأنا مزحت منذ عدة أيام مع بعض الأخوة، فقلت لهم: سبحان الله أيام زمان كان الإسرائيلي يتهم القوى الشعبية والقوى المقاومة، أنها هي التي تقاتل بالقرب من المدنيين، أو تخرج من البيوت المدنية. أمّا اليوم نرى الإسرائيلي في شمال فلسطين هو الذي يلبس ثياباً مدنية، عسكره وضباطه هم الذين يتخذون البيوت المدنية مقرات لهم.
إذن حتى هذه الصورة جميلة، بأنه أصبح هو في موقع الضعيف، وهو في موقع الذي يلجأ ويختبئ بين المدنيين، خوفا من أن يواجه. هذا كله جيد، وهذا يؤكد حجم الأزمة الموجودة بإسرائيل.
فما قصدت قوله، اذهب إلى التفاوض تجد المفاوض الإسرائيلي الذي لا يعرف نقاطه الحمراء ويتراجع أو المفاوض الغربي. إذا ذهبت اليوم إلى الموضوع العسكري، تجد أن يد المقاومة عسكريا هي الأقوى، وهذا ما نراه اليوم بغزة ونراه بجنوب لبنان ونراه بكل الساحات. بات أمراً واضحاً، بأنه (الإسرائيلي) لا يستطيع فعل شيء، إلا قتل الناس. هو ليس لديه القدرة على أن يُنجز شيئا آخر.
كل هذا مهم بالحسابات وبالرؤية، طبعا لمن يريد أن يرى ولمن يثق بنفسه وبمجتمعه، أما الذي هو أصلا مسلوب الإرادة والرؤية، فإنه لا يستطيع أن يرى هذه الأمور.
وإذا نظرنا اليوم إلى محور المقاومة كيف هي حالته؟ المفاوض الفلسطيني في موقع قوي، يعتبر أن أخطر ما واجهه قد واجهه، وكل ما هو آت هو أقل خطورة وأقل تأثير وأقل وأقل. ومجتمعه يقول نحن خلف المقاومة خلف قيادة المقاومة بل أستطيع أن أقول أكثر من ذلك ربما حماس قبل 7 تشرين الأول كان حضورها في البيئة الفلسطينية أقل بكثير مما هو اليوم في الشارع الفلسطيني. اليوم حماس تتصدر هي والجهاد وقوى المقاومة، يتصدرون الحضور في الشارع الفلسطيني والتأييد الفلسطيني. يعني جاء الإسرائيلي للتخلص من 2000-3000 مقاوم نفذوا العملية، فصار اليوم بمواجهة 30-40 ألف الذين يقاومونه بالمباشر، ثم بمواجهة 34 مليون من الشعب الفلسطيني، الذي صار كلّه مع حماس والجهاد والمقاومة. إذن هو حاول إنجاز جزئي فخسر معطى كلّي.
وبالتالي نحن اليوم أمام مسار، سيكون فيه إضافة للثبات، لأنه بات واضحاً بأن الإسرائيلي لن يذهب نحو حروب كبرى ولا يستطيع ذلك. وبداخل فلسطين، لا يستطيع الذهاب أيضاً نحو حروب كبرى في رفح، لأنه يوجد هناك حسابات الأمريكية تكتيكي مختلفة.
فإذن الإسرائيلي سيذهب نحو معارك محدودة هنا وهناك (أي في غزة ولبنان)، للضغط بغية التفاوض وكيلا يوقف المعركة. اليوم الإسرائيلي لا يستطيع إيقاف المعركة، لأن إيقافها يعني سؤال السياسة، وسؤال السياسة لا إجابة عليه لدى الإسرائيلي ولا الأمريكي. وبالتالي هو يريد تمديد المعركة باحتمال كبير حتى الانتخابات الأمريكية، ريثما يرى من هو الوافد الجديد في البيت الأبيض.
خلال هذه الفترة عمليا، ماذا سيفعل محور المقاومة. سيقوم محور المقارنة بمزيد من الضغط المدروس والمتدرج والمؤذي للكيان الصهيوني. انظر اليوم ماذا يحصل في جنوب لبنان. كل يوم يواجه الإسرائيلي اسلحة جديدة، أو يتعرض لضربة نوعية جديدة. وقد يقول لي البعض، بأن الإسرائيلي أيضا يستهدف قيادات ميدانية للمقاومة وهم يستشهدوا. أقول هذا ليس شيء جديد، وهذا شيء طبيعي أن يرتقي لنا شهداء في المعركة وهذا ما حصل طوال فترة المقاومة، لكن الجديد هو أن الإسرائيلي يُقتل له أناس، وأن الإسرائيلي يُستهدف، وأن الإسرائيلي يُؤلم ويُوجّع. الجديد اليوم هو أن الإسرائيلي في مأزق، تاريخيا نحن الشعوب العربية من كنا دائماً في المأزق. لذا يجب أن تنظر من المنظورين، حتى تتوازن نظرتك للقضايا. اليوم الإسرائيلي في المأزق سياسيا، وهو أيضاً في المأزق العسكري، وهو الذي في المأزق الأمني. وتلاحقه قوى المقاومة، ونراهم (أي الإسرائيليون) أنهم أصبحوا مثل العصافير أو مثل الأرانب بصدق. والله ليست حرباً نفسية، الإسرائيليين باتوا اليوم كالأرانب، وقوى المقاومة تلاحقهم عملياً.
وبالأمس (خلال الذكرى السنوية الثامنة لاستشهاد القائد الجهادي الكبير مصطفى بدر الدين)، قال السيد حسن نصر الله قال بأننا نراهم من الداخل وليس من جهتنا. وشاهدنا أيضاً موضوع المنطاد، ورأينا المهزلة التي يعيش فيها الإسرائيلي اليوم.
وفي الفترات المقبلة سيرى الإسرائيلي المزيد من المفاجآت، تحت السقف الضمني المفهوم في هذه المعركة، بأنه لا يوجد حرب كبرى. ولكن سيرى المزيد من المفاجآت التي يترهقه وتعمق أزمته وتعمق أزمة الشارع والمستوطنين، بقدرة الجيش الإسرائيلي على حمايتهم.
انطلاقاً من المعركة التي تجري اليوم في جنوبي لبنان وشمالي فلسطين، سيكتشف الشارع الإسرائيلي لا سيما المستوطنين، كلّ المستوطنين في الشمال وفي عمق الكيان: "أننا إذا أردنا العودة، سنعود لكن القلق حقيقي. وفي أي لحظة ممكن أن تتحول هذه الطاقة بالقوة الى طاقة بالفعل، وبالتالي نكون أمام مصير وجودي مهدّد".
ما يحدث في جنوبي لبنان يعمق هذه الإشكالية، وهم يسألون: "إذا نحن لسنا موجودين، وفقط الجيش الإسرائيلي موجود، والجيش ضائع. فكيف إذا كنّا نحن أيضاً موجودين، وجميع المعطيات اختلفت؟".
لذلك أنا أعتقد أن ما فعله حزب الله والمقاومة في لبنان، عمّق نفس السؤال الوجودي الذي أحدثه ما حصل في السابع من تشرين الأول (أي عملية طوفان الأقصى)، مع فارق أنه بالقوة، وربما يكون في يوم من الأيام بالفعل.
وهذا أمرٌ خطيرٌ جداً، ولا يوجد لدى إسرائيل إجابات، ولا يمكن أن توجد ضمانات وهذا مستحيل.
لذلك أقول، ما يحدث في لبنان هو أمر مهم جداً للجبهة داخل فلسطين. وما يحدث في اليمن بالغ الأهمية، خصوصاً عندما نرى في الفترة المقبلة، أن البحر الأبيض المتوسط والمصالح الإسرائيلية فيه مهدّدة. كيف سيواجه الإسرائيلي هذا الفعل؟
أعتقد محور المقاومة في الأشهر المقبلة، لديه الكثير من نقاط الضغط التي سيتدرج فيها بذكاء وحنكة. وكلما اقتربت الانتخابات الأمريكية، كلما أصبح الأمريكي أكثر انشغالاً بذاته. وإزاء ضعف وشلل في التقرير الميداني فضلاً عن التقرير السياسي. وكلّما كانت إسرائيل حينها أضعف. أظن أنها ستكون بين خيارين سيئ وأسوأ. إما أن تتوقف الآن وهذا ما يعدّ الخيار الأسوأ عند نتنياهو، وإما أن تستمر وهو ربما أمرٌ سيئ، ولكن لن يكون هناك أفق لاستمرارها. ستبقى إسرائيل كما دودة القز في شرنقتها حتى تخنق ذاتها وتنهي نفسها.
هذا هو مسار إسرائيل اليوم، وأيّ كلام غير هذا، يكون خارج فهم سياق المسرح العالمي والمسرح الإقليمي والمعادلات والتوازنات التي وجدت.