الأربعاء 22 كانون الثاني , 2025 01:29

انقسام الداخل "الإسرائيلي": هل تطيح صفقة غزة بمستقبل نتنياهو السياسي؟

ترامب ونتنياهو على يمين الصورة واليمين المتطرف الإسرائيلي على اليسار

جاءت صفقة وقف إطلاق النار في قطاع غزة كنتاج لتداخل معقد من العوامل السياسية والاجتماعية والعسكرية، تحركها أيديولوجيات متصارعة وحسابات براغماتية. هذه الصفقة، التي تم التوصل إليها تحت ضغوط متعددة، تعكس تحولات عميقة في المشهد "الإسرائيلي" والدولي، وتكشف عن أخطاء استراتيجية فادحة ارتكبها رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، الذي وجد نفسه محاصرًا بين تطلعات اليمين المتطرف وواقع سياسي متغير.

الضغوط الدولية: ترامب وبايدن وجهان لعملة واحدة

أحد العوامل الرئيسية التي دفعت نحو الصفقة كان الضغط الذي مارسه الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب على نتنياهو لقبول الاتفاق. المفارقة هنا أن ترامب، الذي كان يُنظر إليه من قبل اليمين الإسرائيلي كـ"منقذ"، فرض على نتنياهو نفس المقترح الذي قدمه الرئيس جو بايدن في مايو/أيار 2024، والذي كان نتنياهو قد ماطل في التوقيع عليه آنذاك. هذا التحول في موقف ترامب، من داعم لليمين "الإسرائيلي" إلى مُلزم له بقبول شروط قد لا تتفق مع أيديولوجيته، كشف عن هشاشة الرهان "الإسرائيلي" على الولاء الأمريكي غير المشروط.

ترامب، الذي كان يُعتقد أنه سيكون حليفًا لا يتزعزع لليمين "الإسرائيلي"، بدا وكأنه يضع مصالحه السياسية الأوسع فوق تحالفات الأيديولوجيا. وهذا ما أثار خيبة أمل كبيرة في صفوف اليمين "الإسرائيلي"، الذي بدأ يتحول من وصف ترامب بـ"المنقذ" إلى التشكيك في كل وعوده وسياساته. هذه الخيبة تعكس صراعًا أعمق بين الواقعية السياسية والأحلام الأيديولوجية، حيث يجد اليمين نفسه مضطرًا لمواجهة حقيقة أن الحلفاء الخارجيين قد لا يشاركونه دائمًا نفس الأولويات.

تحول المجتمع "الإسرائيلي": من الحرب إلى الأسرى

العامل الثاني الذي ساهم في دفع الصفقة كان التحول الجذري في موقف المجتمع "الإسرائيلي" تجاه الحرب. في السابق، كان هناك إجماع على ضرورة استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها المعلنة، ولكن هذا الإجماع بدأ يتآكل بعد سلسلة من الأحداث أدت إلى تحول في الرأي العام "الإسرائيلي"، الذي أصبح يؤيد وقف الحرب من أجل إطلاق سراح الأسرى "الإسرائيليين"، حتى لو كان الثمن وقف العمليات العسكرية.

هذا التحول يعكس تغيرًا في أولويات المجتمع "الإسرائيلي"، الذي بدأ يرى في استمرار الحرب عبئًا ثقيلًا لا يحقق الأهداف المرجوة منه، بل يزيد من الخسائر البشرية والمادية. فشل العملية العسكرية في شمال قطاع غزة، والتي كانت تُعتبر آخر ورقة ضغط على حركة حماس، كشف عن محدودية الخيارات العسكرية وعزز الدعوات لوقف الحرب.

أخطاء نتنياهو الاستراتيجية: رهانات خاسرة

في إطار التحليل السياسي الذي يتجاوز سطح الأحداث ليكشف البُنى العميقة للقوة والدوافع الكامنة وراء القرارات السياسية، يمكن النظر إلى الأخطاء الاستراتيجية الثلاثة التي ارتكبها بنيامين نتنياهو باعتبارها ليست مجرد إخفاقات سياسية أو عسكرية، بل تعبيراً عن ديناميات أكبر تُظهر حدود السلطة "الإسرائيلية" في مواجهة التحديات المحلية والدولية.

الخطأ الأول: رفض مقترح بايدن - بين الحسابات الخاطئة والتبعية الهيكلية

قرار نتنياهو برفض مقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن لوقف إطلاق النار في مايو/أيار 2024 لم يكن مجرد خطأ تكتيكي، بل يكشف عن دينامية أعمق لتبعية "إسرائيل" للولايات المتحدة، ممزوجة بتصورات مضللة عن استقلالية القرار "الإسرائيلي". في هذه اللحظة، اعتقد نتنياهو أن "إسرائيل" قادرة على الاستفادة من استقطاب سياسي في الولايات المتحدة عبر الاعتماد على عودة ترامب إلى السلطة. لكن هذا الرهان لم يكن مدروساً، إذ تجاهل حقيقة أن المصالح الأمريكية طويلة الأمد لا تتطابق بالضرورة مع طموحات اليمين "الإسرائيلي". بايدن، الذي كان يسعى إلى إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في الشرق الأوسط، رأى في استمرار الحرب تهديداً لاستقرار المنطقة، وهو ما لم يدركه نتنياهو.

الخطأ الثاني: الفشل العسكري في شمال غزة - انعكاس لتحولات داخلية أعمق

العملية العسكرية في شمال غزة، التي أوقعت خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجيش "الإسرائيلي" تجاوزت 55 قتيلاً ومئات الجرحى، تُظهر بوضوح محدودية القوة العسكرية "الإسرائيلية" عندما تواجه ديناميات المقاومة الشعبية في السياقات الحضرية المكتظة. هذه العملية لم تؤدِ فقط إلى تآكل الدعم الشعبي للحرب، بل أعادت تسليط الضوء على التكلفة البشرية للحروب "الإسرائيلية"، التي حاولت الدعاية الرسمية إخفاءها. ما هو أعمق من ذلك أن هذا الفشل يعكس تغيراً في طبيعة الصراع ذاته: إذ أن المقاومة الفلسطينية أصبحت أكثر مرونة وتكيفاً، مستفيدة من دعم شعبي متزايد ومن تحول الرأي العام العالمي ضد السياسات "الإسرائيلية".

الخسائر في الأرواح، والتي حاول الإعلام الإسرائيلي التقليل من أهميتها، فتحت الباب أمام انقسامات داخلية في المجتمع "الإسرائيلي"، الذي أصبح أكثر انقساماً بين من يدعم سياسة "الحسم العسكري" ومن يرى في هذه السياسة خطراً وجودياً على "إسرائيل" ذاتها.

الخطأ الثالث: الرهان على ترامب - قراءة مشوّهة للنظام العالمي

ربما كان الرهان على دونالد ترامب هو الخطأ الأكثر استراتيجية من بين الثلاثة. هذا الرهان يعكس فهماً ضيقاً من قبل نتنياهو للسياسة العالمية، حيث اعتقد أن ترامب، بشعاراته الشعبوية وتأييده الظاهر "لإسرائيل"، سيكون حليفاً دائماً لا يتزعزع. لكن ترامب لم يكن سوى انعكاس لنظام سياسي أمريكي تتحكم فيه مصالح اقتصادية وأولويات جيوسياسية أكبر من مجرد دعم اليمين "الإسرائيلي". في الواقع، كان ترامب يرى في استمرار الحرب في غزة عقبة أمام محاولاته لتقديم "صفقة كبرى" في الشرق الأوسط، وهي صفقة لم تكن تشمل تطلعات نتنياهو التوسعية.

هذا الرهان على شخصية فردية، بغض النظر عن مدى تأثيرها، يُظهر فشلاً منهجياً في إدراك أن الولايات المتحدة كدولة تعمل بناءً على مصالح استراتيجية طويلة الأمد، وليس بناءً على نزوات شخصية لقائد سياسي. نتنياهو، في رهانه هذا، عزز من عزلة "إسرائيل"، ووضعها في مواجهة مباشرة مع التحولات الجيوسياسية الكبرى، بما في ذلك صعود قوى أخرى مثل الصين وروسيا.

بالتالي، السؤال ليس ما إذا كان نتنياهو سيستمر في الحكم أم لا، بل كيف يمكن "لإسرائيل" كدولة أن تتكيّف مع عالم لم تعد فيه القوة وحدها كافية لتأمين المستقبل. هذه الأخطاء قد تكون بداية لانهيار نموذج استمر لعقود، وفتح الباب أمام إعادة تشكيل العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية في إطار جديد كلياً.

الصفقة واصطدامها مع أيديولوجيا اليمين الجديد

تشكل الصفقة اصطدامًا مباشرًا مع منظومة اليمين الجديد في "إسرائيل"، الذي بدأ يتشكل منذ عودة نتنياهو للحكم في العام 2009. هذا اليمين، الذي يعتمد على أفكار مثل رفض الانسحاب من الأراضي المحتلة ورفض صفقات تبادل الأسرى، وجد نفسه في موقف صعب. الصفقة تتعارض مع خطاب اليمين الذي لا يعترف بوجود كيان سياسي فلسطيني، ويعتبر أي انسحاب أو تفاوض مع الفلسطينيين تهديدًا للأمن القومي والمشروع الاستيطاني.

في هذا السياق، يظهر الانقسام داخل اليمين "الإسرائيلي" نفسه. فبينما يهدد بن غفير بالاستقالة من الحكومة إذا تمت المصادقة على الصفقة، يبدو أن سموتريتش وحزب الصهيونية الدينية يميلون للبقاء في الحكومة، معتبرين أن مشروعهم الاستيطاني في الضفة الغربية هو الأولوية القصوى، حتى لو كان ذلك يعني قبول صفقة لا تتفق مع أيديولوجيتهم.

في النهاية، يمكن القول إن هذه الصفقة قد تكون بداية النهاية لمسيرة نتنياهو السياسية. فبينما يحاول تسويق الاتفاق كفرصة إستراتيجية لإسرائيل، يبدو أن الرأي العام "الإسرائيلي" بدأ يفقد الثقة في قيادته. الصفقة، التي قضت على أحلام اليمين الأيديولوجية، قد تكون أيضًا القشة التي قصمت ظهر البعير في مسيرة نتنياهو الطويلة والمليئة بالصراعات.


الكاتب:

محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور