في خضم السجال المتصاعد داخل الأوساط السياسية والعسكرية والإعلامية الإسرائيلية، حول أولوية صفقة تبادل أسرى على حساب الانسحاب من محور فيلادلفيا، أو البقاء فيه، والمُخاطرة بحياة من تبقّى من الأسرى، خصوصاً بعد مقتل 6 أسرى إسرائيليين، واشتعال أكبر مظاهرة بتاريخ الكيان، تتباين الآراء بشكل حاد بين مؤيد لأولوية "إعادة المختطفين"، وبين من يقدّم قضية الأمن القومي كقيمة استراتيجية وجودية عليا؛ ومن هذه الزاوية تبلورت معادلة: محور فيلادلفيا أم حياة الأسرى، ومعها تشعّب النقاش الإسرائيلي العام بشأن هذا المحور وقيمته الاستراتيجية والأمنية.
"محور فيلادلفيا" المعروف أيضاً باسم "محور صلاح الدين" هو شريط حدودي لا يتجاوز عرضه مئات الأمتار، يمتد بطول 14.5 كيلومتر من البحر المتوسط حتى معبر كرم أبو سالم على الأراضي الفلسطينية بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة. ويعدّ منطقة عازلة بموجب "اتفاقية كامب ديفيد" الموقّعة بين القاهرة وتل أبيب عام 1979.
يقود رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو المعسكر المؤيّد للبقاء في فيلادلفيا، باعتباره ضرورة أمنية - استراتيجية، فيما تتبنّى الأحزاب المصنّفة كوسط - يسار، موقفاً معارضاً، يعتبر تحرير الأسرى أولوية قصوى، وينسجم موقفها مع موقف المؤسسة الأمنية والعسكرية، حيث لا يعدّ احتلاله-برأيهم -أمراً حاسماً في المعادلة الاستراتيجية. ويتهم هؤلاء، نتنياهو، بأنه يستخدم محور فيلادلفيا، كذريعة لتعطيل صفقة التبادل والحفاظ على سلطته ومنصبه في رئاسة الوزراء ورؤيته في استمرار الحرب.
مؤيّدو احتلال فيلادلفيا: أولوية الأمن
تتمحور وجهة نظر هذا الفريق حول فكرة قطع "شريان الحياة" الذي تعتمد عليه حركة حماس في قطاع غزة؛ ويقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على رأس المُنظِّرين لاحتلال محور فيلادلفيا عسكرياً، سواء في إطار صفقة تبادل أسرى مع حركة حماس أو من دونها؛ ويرى نتنياهو- حسبما تُوضِح سرديته- أن البقاء في فيلادلفيا (وهو أحد أهم عقبات التوصّل إلى اتفاق) يمثّل ضرورة استراتيجية- وجودية لإسرائيل، وأنه في سبيل تجنّب "مذبحة" ثانية باليهود، كالتي حصلت في السابع من تشرين الأوّل، فلا مناص من قطع "شريان حياة" حركة حماس عبر الحضور العسكري الإسرائيلي في المحور.
في خطابه يوم 2 أيلول/ سبتمبر 2024 أشار نتنياهو في البداية إلى حاجته للوقت كي يتحدّث عن خط فيلادلفيا إذ شكّل المحور دعامة خطابِهِ الأخير، وعلّق عليه أهمية استراتيجية كبيرة، فهو "أنبوب الأوكسيجين لحماس الذي يحتاجه محور الشر"، ولذلك "يجب أن نتمسك به".
يمثّل خط فيلادلفيا خطورة وتهديداً كبيرين من وجهة نظر نتنياهو، ولا يوافقه كثيرون على هذا التهديد، أو لا يملكون درجة الحساسية نفسها تجاهه، لأن نتنياهو ذكّر الجميع بأنه يرفع الصرخة بشأنه منذ 20 عاما! "لقد قلت ذلك قبل 20 عاماً حين أعلن شارون الانسحاب في نهاية عام 2003... إذا لم يكن هذا المحور معنا، فسيكون هناك تسليح، ولهذا السبب أُصر على وجودنا في محور فيلادلفيا".
حاول نتنياهو في خطابه قدر الإمكان -بل بذل جهوداً واضحة- لإقناع الآخرين بما يمثله محور فيلادلفيا من خطورة، على الكيان المؤقت والمجتمع الإسرائيلي، في حال لم يكن تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية المباشرة. وقال "مجرد أن عبرنا هناك لم يتبقً لدينا أي حاجز ضد إدخال الأسلحة ووسائل الحرب وآلات إنتاج الأسلحة وآلات حفر الأنفاق، وكل ذلك تحت رعاية إيران، وتوجيهها وتمويلها، فكل هذه الأشياء التي ترونها هنا دخلت، وأصبحت غزة تهديداً كبيراً لدولة إسرائيل لأنه لم يكن هناك حاجز هنا. هذا ما حدث".
وفي إطار السجال الإعلامي الذي اندلع حول أهمية محور فيلادلفيا بالنسبة لأمن إسرائيل، ينتقد نتنياهو بعض الشخصيات الحكومية، مثل وزير الأمن يوآف غالانت، لعدم التزامها بقرارات "الكابينت" المتعلقة بالمحور، معتبراً أن الانسحاب منه سيمنع جيش الاحتلال الإسرائيلي من العودة إليه بعد 42 يوماً، أي مع بدء المرحلة الثانية من الصفقة، وذلك بسبب الضغوط الدولية والأميركية؛ كما تتضمّن سرديّة نتنياهو "تحذيرات"، من أن حماس تُخطّط لتهريب الأسرى الإسرائيليين والسنوار عبر أنفاق فيلادلفيا، ولا تخلُ سرديّته أيضاً من التخويف من "طوق الخناق" الإيراني لإسرائيل، الذي يُشكّل فيلادلفيا أحد مكوناته، وفقاً له.
مبررات نتنياهو لاحتلال فيلادلفيا، تحظى بتأييد واسع من أوساط اليمين السياسي والإعلامي والشعبي، باستثناء الأحزاب الحريدية، التي أظهرت في مناسبات عديدة تعاطفها مع فكرة التوصّل إلى صفقة تبادل أسرى ولو بثمن وقف الحرب، وتحدّثت تلك الأحزاب من حين لآخر لصالح صفقة التبادل، لكنها، مع ذلك مشغولة بشؤونها الخاصة.
وتجدر الإشارة إلى وجود انقسام داخل حزب الليكود، بشأن معادلة: فيلادلفيا أم الأسرى. وهناك وزراء من الليكود أبدوا موقفاً واضحاً الى جانب تقديم أهمية "إعادة المختطفين"، من أمثال وزير الأمن يوآف غالانت، والوزيران: غيلا غمليئيل، ونير بركات، (وهؤلاء ليسوا بالضرورة ضد احتلال فيلادلفيا).
وعلى هذا المنوال يرى باحثون ومُعلّقون أنّ الانسحاب من محور فيلادلفيا، ولو مؤقتاً، يمثّل خطأً استراتيجياً خطيراً، "يُعرِّض أمن إسرائيل للخطر". ويرى هؤلاء أن فيلادلفيا يشكّل "حاجزاً استراتيجياً يمنع حماس من تهريب الأسلحة وتطوير قدراتها العسكرية"، والانسحاب منه سيمنحها القدرة على إعادة بناء أنفاق التهريب، وتكرار "مذبحة السابع من أكتوبر". ويشدّدون على أن التمسّك بالمحور "كجزء من أمن إسرائيل القومي"، يمثل قيمة أعلى من قيمة إعادة الأسرى الإسرائيليين.
ويستخدم هذا الفريق، مسألة إصرار حركة حماس على الانسحاب من المحور كشرط لأي صفقة تبادل أسرى، كدليل على صحة نظريتهم في وجه خصومهم ممن يؤيدون تقديم أولوية صفقة الأسرى التي تقتضي الانسحاب الإسرائيلي من المحور ووقف الحرب.
معارضو احتلال فيلادلفيا: أولوية "إعادة المُختطفين"
في مقابل وجهة النظر المؤيّدة التي يتبنّاها ويروّج لها، على نحو أساس، اليمين الإسرائيلي، تتبنّى أحزاب الوسط - يسار (مع استثناءات من أحزاب يمينية في المُعارضة)، وجهة النظر المقابلة، التي تضع مسألة "تحرير المختطفين" كأولوية قصوى وكقيمة أخلاقية مقدّسة، ويشكّكون بدوافع واعتبارات نتنياهو، وتجدر الإشارة إلى أنه ليس بالضرورة أن كل مَن يُقدِّم أولوية صفقة التبادل يُعارض حكماً احتلال محور فيلادلفيا. كما أن تعبير "صفقة التبادل" يعني في الأدبيات الإسرائيلية شيئاً واحداً: "إعادة المُختطفين" الإسرائيليين.
وجاء التعبير عن وجهة النظر هذه، على لسان قادة تلك الأحزاب، في أكثر من مناسبة. وتكتسب آراء هؤلاء أهميتها من حقيقة أن بعضهم من أصحاب التاريخ العسكري والأمني، من أمثال بني غانتس وغادي آيزنكوت، اللذيْن لا يوفران مناسبة إلا ويدعوان فيها إلى التوصل إلى صفقة تبادل في أقرب وقت ممكن ولو على حساب الانسحاب من القطاع. وهذا الرأي ينسحب على رئيس المعارضة يائير لابيد.
وينسحب هذا السجال على الحلبة الإعلامية أيضا، حيث يرى خبراء ومُعلّقون، أن الأولوية يجب أن تُعطى الآن لتحرير الأسرى، ويتسلّح هؤلاء برأي المؤسسة الأمنية والعسكرية التي ترى في إعادة الاسرى أولوية على ما عداها، ونُقل عنها، ضمانها إمكانية العودة إلى فيلادلفيا كلما اقتضت الحاجة الأمنية.
ويصف خبراء ومُعلّقون "ادعاءات نتنياهو" بشأن أهمية السيطرة العسكرية على فيلادلفيا بأنها "خديعة"، و"ذريعة" لتعطيل صفقة التبادل، وبالتالي الحفاظ على سلطته، فنتنياهو -برأيهم "لم يعطِ أهمية كبيرة للمحور طوال فترة حكمه الممتدة لـ 14 عاماً".
من هنا يتهم خبراء ومُعلّقون نتنياهو في دوافعه، ويقولون إنها "سياسية- مصلحية"، وليست "استراتيجية- وجودية"، كما يدّعي، ويسأل أكثر من مُعلّق السؤال ذاته: "إذا كان محور فيلادلفيا بهذه الأهمية الاستراتيجية والوجودية لأمن إسرائيل، فلماذا لم يُسارع نتنياهو إلى احتلاله منذ بدء الحرب"؟!
في هذا السياق، كذّب الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك مزاعم رئيس الوزراء بشأن أهمية محور فيلادلفيا، لمنع التهريب المزعوم للأسلحة من خلاله، مستحضراً لقاءاته المتعددة مع رئيس الوزراء والتي أكد فيها بنفسه رفضه وجود الجيش الإسرائيلي هناك. ووصف تسويق نتنياهو لأهميته بأنه "أكبر خدعة منذ تأسيس الدولة، لذر الرماد في عيون الجمهور".
وختم بالقول "إنها خدعة ضخمة. لدى نتنياهو مصلحة واحدة هي السيطرة على الحكومة واستمرارها. إنه يحكم على المختطفين بالإعدام، والأسوأ من ذلك أنه قرر بالفعل أن حرب الاستنزاف الإقليمية ستستمر لفترة طويلة حتى تنهار بلادنا اقتصادياً، وتتدهور علاقاتها الدولية، ويلحق الضرر بالجيش نفسه".
أبعد من ذلك، يعتبر مُعلّقون أن قصة احتلال محور فيلادلفيا، هي مقدّمة لتجديد الاستيطان الإسرائيلي في قطاع غزة، وأن إصرار نتنياهو يأتي من ضغط اليمين الاستيطاني المتطرّف (بن غفير وسموتريتش)، اللذَان يسعيَان إلى تحويل المحور إلى أداة سياسية لتبرير البقاء في غزة.
وعلى صعيد المجتمع الإسرائيلي المنقسم، نتيجة اختلاف رؤى القيادات السياسية الإسرائيلية، وتعبئة الجماهير من خلال الخطابات أو من خلال الحراك في الشارع، أظهر استطلاع رأي (قناة كان) أن 53% من الإسرائيليين (يهوداً وعرباً) يؤيدون الانسحاب من محور فيلادلفيا، في مقابل 29% يعارضون.
الكاتب: حسين شكرون