منذ بدايات طوفان الأقصى، يعيد نتنياهو مضامين الخطاب نفسه بلا تعديلات كبيرة أو جوهرية، لكن كلامه في المؤتمر الصحفي في 2 أيلول/ سبتمبر 2024، بعد عشرة شهور على الحرب، حمل مضموناً جديداً شكّل محوراً أو عنواناً لقضية جديدة يعمل عليها سياسياً وفكرياً، اسمها محور فيلادلفيا. فشكّل المحور دعامة خطابه الأخير.
قبل عدة أيام من الخطاب، وبينما كانت المفاوضات عبر الوسطاء تجري مع حركة حماس للوصول إلى صفقة تبادل الأسرى، انعقد اجتماع للحكومة الإسرائيلية مساء الخميس 29 آب/ أغسطس 2024، قام نتنياهو بانتزاع قرار من الحكومة بالبقاء في محور فيلادلفيا، ليعرقل عملياً المفاوضات، بتثبيت إشكالية لم تكن موجودة أصلاً في المسودات السابقة التي وافق عليها نتنياهو نفسه. وقد طرح المفاوضون الإسرائيليون في الدوحة الاحتفاظ بالسيطرة على خمس نقاط مراقبة بعمق 300-400 متر لكل منها. وهذا بخلاف توجه وزير الحرب الإسرائيلي غالانت والمنظومة الأمنية التي ترى ضرورة الانسحاب من فيلادلفيا كجزء من الصفقة، باعتبار أن "الإنجازات" التي تحققت في غزة تسمح بالالتفات للشمال والتركيز عليه.
من الجدير ذكره في هذا الصدد، أن المستوى الأمني والعسكري يضغط على نتنياهو بالتوجه إلى الشمال، لتخفيف الجهد العسكري في غزة، لكنهم لا يرغبون في فتح جبهة واسعة في وجه حزب الله، فتعتبر هذه الورقة هدفها بالتحديد البدء في مسار الانسحاب العسكري من غزة، بغطاء وهمي بضرورة فتح حرب في الجبهة الشمالية.
شروحات مطوّلة حول خط فيلادلفيا
أشار نتنياهو في بداية خطابه إلى حاجته للوقت لكي يتحدّث عن خط فيلادلفيا، "أريد أن أستغرق بضع دقائق لشرح معنى محور فيلادلفيا، وما هو بالضبط، وما يعنيه لأمن إسرائيل، وما أهميته لضمان عدم حدوث حدث آخر مثل 7 أكتوبر" إذ يعلّق عليه أهمية استراتيجية كبيرة، فهو "أنبوب الأوكسيجين لحماس الذي يحتاجه محور الشر"، و"صخرة وجود" للاحتلال ولذلك "يجب أن نتمسك به".
يمثّل خط فيلادلفيا خطورة وتهديداً كبيرين من وجهة نظر نتنياهو، لكن لا يوافقه هذا الرأي كثيرون، أي باعتبار المحور يشكل تهديداً أساسياً، أو لا يملكون درجة الحساسية نفسها تجاهه، لأن نتنياهو ذكّر الجميع بأنه يرفع الصرخة بشأنه منذ 20 عاما! "لقد قلت ذلك قبل 20 عاماً حين أعلن شارون الانسحاب في نهاية عام 2003... إذا لم يكن هذا المحور معناً، فسيكون هناك تسليح، ولهذا السبب أصر على وجودنا في محور فيلادلفيا".
رأي المعارضة الإسرائيلية
لعل زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد اختصر حقيقة الموقف الإسرائيلي بأن ما يهم نتنياهو ليس محور فيلادلفيا، وإنما محور بن غفير - سموتريتش. بمعنى أن موضوع المحور ليس مسألة استراتيجية، مرتبطة بالمصالح العليا والأمن القومي، وإنما هي مسألة تكتيكية مرتبطة ببقاء الحكومة الإسرائيلية واستمرار نتنياهو في منصبه، باعتباره مرتهناً في ذلك للصهيونية الدينية التي يقودها بن غفير وسموتريتش.
وكذلك، بالنسبة لإيهود باراك رئيس الوزراء ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق فإن "فيلادلفيا ليست صخرة وجودنا، بل هي الدوران الأجوف لمقامر قهري [نتنياهو] يقامر بحياة المواطنين الذين تخلى عنهم".
وفي رأي عضو مجلس الحرب آيزنكوت، فإن مسألة استراتيجية محور فيلادلفيا هي ادّعاءٌ غير صحيح، إذ إن هناك حلولاً استخباراتية وتكنولوجية وعملياتية لمنع التهريب، وإنه منذ قام المصريون بإغلاق الأنفاق وبناء الحاجز تحت الأرض "لم تعد هناك أنفاق تُختَرق، ولم يمر أي دبوس".
أما هرئيل القائد السابق للمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال الإسرائيلي فقد دان نتنياهو وقال إنه لا يريد التوصل إلى صفقة لإطلاق المحتجزين لكي تستمر الحرب إلى ما لا نهاية. وقال إن نتنياهو نسف الاتفاق 12 مرة، وإنهم عالقون في غزة، والمقاومة في الضفة تتزايد، والشمال ببساطة مهمل.
أما الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك فقد كذّب مزاعم نتنياهو بشأن أهمية المحور مستحضراً لقاءاته المتعددة مع رئيس الوزراء والتي أكد فيها بنفسه رفضه وجود الجيش الإسرائيلي هناك. ووصف تسويق نتنياهو لأهميته بأنه "أكبر خدعة منذ تأسيس الدولة، لذر الرماد في عيون الجمهور".
بالعودة إلى الخطاب، حاول نتنياهو قدر الإمكان إقناع الآخرين بما يمثله محور فيلادلفيا من خطورة، على الكيان والمجتمع الإسرائيلي، في حال لم يكن تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية المباشرة، "مجرد أن عبرنا هناك لم يتبقً لدينا أي حاجز ضد إدخال الأسلحة ووسائل الحرب وآلات إنتاج الأسلحة وآلات حفر الأنفاق، وكل ذلك تحت رعاية إيران، وتوجيهها وتمويلها، فكل هذه الأشياء التي ترونها هنا دخلت، وأصبحت غزة تهديداً كبيراً لدولة إسرائيل لأنه لم يكن هناك حاجز هنا. هذا ما حدث".
وبغضّ النظر عمّن يوافقه من القيادات الإسرائيلية أو من يعارضه، فإن كلامه عن أهمية محور فيلادلفيا يحمل أبعاداً استراتيجية، نظراً لحيوية المكان وتداخله مع بيئات مصرية وبدوية متعددة، لم يستطع الاحتلال الإسرائيلي أن يطوّعها بشكل كامل. لذلك كرّر نتنياهو الفكرة ذاتها، خلال مؤتمره الصحافي، أكثر من خمس مرات تقريباً، وعاد للقول "إن خروجنا من محور فيلادلفيا كان بمثابة فتح الطريق لدخول الأسلحة وغيرها لحماس، وجعل غزة مصدر تهديد كبير لنا وعندما دخلنا إلى محور فيلادلفيا شعرنا بتغيير لصالحنا في الوضع العسكري". لكن ذلك لا يتعارض مع القول إن نتنياهو يستغل أهمية المحور الاستراتيجية، وإبقائه تحت سيطرته عسكرياً حتى مع تعطّل المفاوضات بسببه، من أجل منصبه السياسي ورغبته باستمرار الحرب.
الكاتب: حسين شكرون