الأربعاء 08 كانون الثاني , 2025 02:08

الأُحاديّة والمركزيّة وما بعدهما في النظام الدولي

دراسة الأُحاديّة والمركزيّة وما بعدهما في النظام الدولي

تتراجع محوريّة الدولة في النظام العالمي وتتغيّر موازين القوى بين أقطابه، وهذه الجدليّة تعبّر عن نفسها بوضوح في الحروب الجديدة التي ينخرط فيها الغرب الواسع في أوكرانيا وفلسطين المحتلة ويستعد لما يماثلها في أماكن أخرى. فاللاعبون ما دون الدولة وما فوقها باتوا يقرّرون أكثر من الدول نفسها مسار الأمور ويفرضون إيقاعهم على الوقائع والأحداث.

نقدم إليكم هذه الدراسة الصادرة عن "المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق" بقلم الدكتور عبد الحليم فضل الله. يمكنكم تحميلها بشكل كامل أسفل مدخل الدراسة أدناه.

مدخل

قبل قرن من ذلك أو أكثر، اكتسبت الدولة الأمّة مكانة راسخة في العلاقات بين الأمم وفي قيام المؤسسات والمنظمات العالميّة أو اندثارها وفي نشر العقائد والأفكار السياسية وتخطّي المشكلات. فالحلّ المنشود للمشكلة اليهوديّة في أوروبا، مثلًا، كان في إقامة كيان لهم يلبّي المصالح الغربية ويفي بموجبات القبض على الإرث الاستعماري للإمبراطوريات الآفلة، وبذلك جرى تحويل قضيّة أقليّات ما دون الدولة إلى قصة تقرير مصير مزعوم في مستوى دولة. وغير بعيد من ذلك، لكن في سياق معاكس، تحوّلت الدولة العثمانيّة من إمبراطوريّة/ أمّة متعددة الأديان والإثنيات إلى كيانات قوميّة، نجح بعضها في أن يكون دولة كتركيا، فيما خسر العرب رهانهم على بريطانيا في تحقيق طموحهم القومي، وذهب الفرنسيون بعيدًا بمحاولتهم دون نجاح تقسيم سورية إلى دويلات إثنية وطائفيّة مزعومة.

كانت الدولة أيضًا، بانضمامها إلى اتفاقات ومعاهدات متعددة الأطراف، ركيزة التنظيم الاقتصادي والحقوقي للعالم ولقضايا الأمن والسلم بين البلدان. وساهمت الأفكار والآيديولوجيّات في تغيير العالم وتشكيله. لقد فعلت الأفكار فعلها في التاريخ السياسي العالمي ولم يكن ذلك ممكنًا لولا اعتناق أنظمة ودول لعقائد سياسيّة مستقاة منها، كما في الثورتين الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر والبلشفية في بداية القرن العشرين، وفي قيام المعسكر الشيوعي الذي تقاسم النفوذ العالمي مع الدول الغربية زهاء خمسة عقود، وكذلك في "الروحانية السياسية" التي صعدت مع انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وعبّرت عن توق دول الجنوب إلى التحرر من هيمنة الشمال انطلاقًا من قيم الجنوب الذاتية وتصوّراته الخاصة للعالم. وعلينا أن نتذكر أيضًا كيف أثّرت أفكار كينز مثلًا في إسباغ المشروعية العلميّة على تدخّل الدولة في العديد من الاقتصادات الرأسمالية، وكيف استفادت الدول الغربية من أفكار فريدمان وهايك وغيرهما في تعميم الوصفة النيوليبرالية المتمثلة في بنود إجماع واشنطن، فضلًا عن نظريّات التنمية التي فرضت نفسها على الدول والمؤسّسات العالمية في الربع الثالث من القرن الماضي وبعض القوميّات أخذت صبغة دينيّة بما يتلاءم مع نظام سياسي طائفي (مثل الأرمن الكاثوليك أو الأرثوذوكس في لبنان).

لكن استقرار النظام العالمي يفترض أن تحظى دوله بالمشروعيّة التاريخية، وأن تخضع للقانون (قانون دولي) ولقيود جيوسياسيّة وموازين قوى (تحدّ من قدرتها على استعمال القوّة وتلزمها باحترام القيم العالميّة المشتركة. والاستثناءات من ذلك كانت حاضرة دائمًا، كالفصل والتمييز العنصريين في جنوب إفريقيا (حتى عام 1994) والولايات المتحدة الأميركيّة (حتى عام 1964) والحروب الاستعماريّة الدامية (الجزائر حتى عام 1962 وفيتنا م حتى 1975 ...). أما "إسرائيل" فكانت حالة استثناء كامل، بالنظر إلى خصوصيّة تأسيسها وتفوّقها النوعي المكفول على كل الجوار، وهويتها المؤسطَرة والملتبسة بين الدين والقومية، واستعمالها البربري والمتكرّر وغير المحدود للعنف، وحماية الغرب لها من المساءلة والعقاب.


المصدر: المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق

الكاتب: الدكتور عبد الحليم فضل الله




روزنامة المحور