إن انتصار المقاومة الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى - بعيداً عن تشكيك الانبطاحيين والانهزاميين وبعض العملاء في منطقتنا- واضح وجلي ولا يحتاج الى الكثير من البحث عن أدلة، أو حتى إنشاء مقالات ودراسات تجيب عن ذلك. لأن المعادلة أبسط من ذلك بكثير، فيكفي المقارنة بين ما وضعه الكيان المؤقت من أهداف ما قبل المعركة وما بين نتائجها، حتى يتيقّن البعض من هذا الانتصار ومدى أهميته، رغم ما تم تقديمه من تضحيات سواء في قطاع غزة أم حتى في جبهات الإسناد في محور المقاومة.
وينطلق هذا المقال الذي نشره موقع مجلة "the Spectator" البريطانية، للكاتب الإسرائيلي جوناثان سباير، ليؤكّد على حقيقة انتصار المقاومة في غزة، عبر القول بأن حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين - حماس، استطاعت استغلال نقاط ضعف إسرائيل، فتمكنت بالنهاية من خلال صفقة تبادل الأسرى – وضمنياً اتفاق وقف إطلاق النار – من تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في بقائها من خلال أخذ الأسرى.
النص المترجم:
عندما شنت حماس حربها على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2023، فعلت ذلك على أساس تحليل واضح للمجتمع الإسرائيلي، والذي كانت تأمل من خلاله تحقيق أهدافها. ونظراً لطبيعة ومدى مذبحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان من الواضح تماماً للحركة الإسلامية الفلسطينية أن رد إسرائيل سيكون السعي إلى تدمير نظام الحكم الذي أقامته حماس في غزة منذ عام 2007. لكن قادة حماس كانوا يأملون في تجنب هذه النتيجة من خلال أخذ رهائن إسرائيليين. وان يتبع ذلك عملية مساومة تستبدل فيها حماس حياة الرهائن باستمرار حكمها في غزة.
إن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تنفذه حكومة إسرائيل وحكام غزة السابقون والمستقبليون، يشير إلى أن حماس ربما حققت هدفها. فمنذ البداية حددت إسرائيل هدفها في الحرب على أنه هدف مزدوج: هزيمة حماس وإعادة الرهائن. ولكن كان من الواضح طوال الوقت أن هذين الهدفين متناقضان، ما لم تحدد إسرائيل الجزء "الإنقاذي" من نيتها، بأنه يتألف فقط من محاولات الإنقاذ بالقوة. وبمجرد بدء عملية التفاوض بشأن الرهائن، كان من الطبيعي أن يتم تقليص الجهود الرامية إلى تدمير حماس. وهذا يرجع إلى حقيقة بسيطة مفادها أنه من المستحيل التفاوض مع أي شخص أو مجموعة من الناس وفي نفس الوقت السعي إلى قتلهم. وكان من الواضح دائماً أنه في مرحلة معينة لابد من اتخاذ خيار. وكانت حماس وحلفاؤها مقتنعين طوال الوقت بأن إسرائيل سوف تختار رهائنها في نهاية المطاف بدلاً من النصر. ويبدو أن قناعتهم أثبتت صحتها.
إن حماس تقف الآن على أعتاب إعادة بناء حكمها على غزة، وإعادة فرض سيطرتها على القطاع (على افتراض استمرار اتفاق وقف إطلاق النار بعد المرحلة الأولى، وهو ما قد لا يحدث).
إن الاختيار الذي يواجه إسرائيل كان واضحاً. وقرارها واضح. والسؤال المهم المتبقي هو لماذا. لماذا اختارت الدولة اليهودية مرة أخرى الموافقة على تبادل غير متوازن للأسرى، والذي سوف يتضمن إطلاق سراح مئات الأفراد المدانين بقتل الإسرائيليين، وغالباً بأكثر الطرق وحشية ؟ فمن المقرر إطلاق سراح 1904 فلسطينيين في المرحلة الأولى، في مقابل 33 رهينة إسرائيلية.
ومن الجدير بالذكر أن عمليات التبادل من هذا النوع ليست من القواعد التي ترجع إلى الأيام الأولى لإسرائيل. ففي سنواتها الأولى، اشتهرت إسرائيل بموقفها الواضح المتمثل في عدم التفاوض مع الإرهابيين. لقد تم تنفيذ أول عملية تبادل كبرى وغير متوازنة على نطاق واسع في عام 1985. وقد شملت إطلاق سراح 1150 سجيناً أمنياً فلسطينياً في مقابل ثلاثة جنود من جيش الدفاع الإسرائيلي وقعوا في أيدي العدو. وقد مهد هذا التبادل، المعروف في إسرائيل باسم "اتفاق جبريل"، الطريق لكل ما أعقبه.
ولكن التبادل الحالي يختلف عن غيره من التبادلات، حيث قد يمثل المرة الأولى التي يحقق فيها عدو لإسرائيل هدفاً سياسياً واستراتيجياً واضحاً (بقاء حكم حماس في غزة) نتيجة لأخذ الرهائن. أما التبادلات السابقة، على الرغم من كونها من جانب واحد، فقد حصلت ببساطة على حرية أعداد كبيرة من الفلسطينيين المدانين بقتل إسرائيليين، بدلاً من ضمان أهداف إضافية كما هو الحال الآن.
لماذا إذن؟ لماذا الاتفاق على مثل هذه الصفقات السخيفة على ما يبدو؟
المجتمع الإسرائيلي صغير، ويتمتع بمستوى عال من التماسك الاجتماعي من نوع خاص. والإسرائيليون ليسوا غرباء عن بعضهم البعض، ولا يشعرون بأنهم غرباء. إن التصورات القوية للهوية الوطنية والطائفية والدينية، إلى جانب الخبرات المشتركة في الصراع، تساهم في تعزيز الشعور القوي بالمصير المشترك بين سكان إسرائيل اليهود، وبدرجة أقل بين سكانها غير اليهود. وهذا يؤدي إلى مستويات عالية من التضامن والالتزام المتبادل التي كانت واضحة للغاية على مدى الأشهر الأربعة عشر الماضية من الحرب. ولكن من المفارقات أن هذا يؤدي أيضاً إلى تبادل الأسرى الذي لا معنى له من الناحية الاستراتيجية على الإطلاق، ويمكّن الأعداء من تحقيق أهدافهم، ولأسباب واضحة يشجع على المزيد من احتجاز الرهائن.
إذن هل كانت إسرائيل قبل عام 1985 أقل تماسكاً، وأقل اهتماماً ببعضها البعض؟ والإجابة، بكل وضوح، هي لا. ولكن قبل عام 1985، كانت إسرائيل تمتلك ثقافة سياسية أقل تعددية وديمقراطية. وكانت تحافظ على روح تؤمن بأن فكرة أن القادة سوف يزودون الجمهور بما "يحتاجه" بدلاً مما "يريد" كانت تحظى بقدر كبير من القبول. ولكن هذا لم يعد هو الحال، وإن كان يبدو فيما يتصل بالاتفاق الحالي أن نتنياهو كان يسعى قبله إلى تحقيق شيء على هذا النحو. ويبدو أن الضغوط من جانب الإدارة الأميركية الجديدة، وليس الضغوط العامة الإسرائيلية، كانت العامل الأخير الذي أجبره على ذلك. ويرى أعداء إسرائيل الإسلاميون أن هذا الاهتمام اليائس من جانب المواطنين الإسرائيليين بإنقاذ أرواح مواطنيهم يشكل نقطة ضعف أساسية ينبغي استغلالها. وفي فهمهم لهذا الأمر، فإنهم منخرطون في حرب طويلة تهدف إلى التآكل البطيء لإسرائيل ثم انهيارها في نهاية المطاف. وهم يعتزمون الاستفادة من هذا الاهتمام الإسرائيلي من أجل منع القدس من السعي إلى تحقيق نصر حاسم. وفي سياقات أخرى، قد نشهد حركات إسلامية تستفيد من ضعف المجتمعات الغربية وافتقارها إلى التماسك. وربما نجد أمثلة على ذلك في أجزاء من أوروبا اليوم. وفي حالة إسرائيل، يسعى أعداؤها الإسلاميون إلى الاستفادة من المعايير الاجتماعية الإسرائيلية الإيجابية في أغلب جوانبها، وينجحون في ذلك أحياناً: مستوى عال من الاهتمام المتبادل والالتزام، والشعور المشترك بالمصير والهوية، وما إلى ذلك. إن النتيجة النهائية للصفقة الحالية سوف تكون إقناع أعداء إسرائيل بأنهم على المسار الصحيح، وأن حماس كانت محقة في أنها سوف تحقق هدفها الاستراتيجي المتمثل في بقاء النظام من خلال أخذ الرهائن. وهذا يذكرنا بكلمات الشاعر ييتس، التي كتبت لسياق مختلف تمام الاختلاف: "ماذا لو أربكهم الحب الزائد حتى ماتوا؟". وتعتزم حماس وحلفاؤها ضمان حدوث هذا.
الكاتب: غرفة التحرير