لم تكن الجمهورية الإسلامية في إيران يومًا إلا نصيرًا شجاعًا وعقلانيًّا متناسبًا ومناسبًا للمستضعفين والمظلومين في العالم، لكن مع استفحال حرب الإبادة التي قادها الغرب بيد إسرائيليّة في غزّة، وكجزء من تلك الحملة العدوانيّة، تعدّدت المواقف التي تشكّك في جبهة المقاومة وموقع إيران منها، وضخّت لأجل ذلك آلاف الأنباء والشائعات في الشاشات والفضائيّات والأقلام المأجورة. وأخذت تروّج أن إيران تخلّت عن غزّة، بل اتهمتها بتوريطها، وبأنه لا يأتي من إيران سوى الشعارات الإيديولوجيّة التي لا تمت إلى الواقع بشيء.
ثم تتالت السرديات التي تحكي هزيمة جبهة المقاومة، وبالتالي خسارة إيران لرهاناتها وتحديدًا بعد الضربات التي حصدت قيادات عليا وميدانيّة مؤثّرة في حركات المقاومة، وبعد إسقاط سوريا من معادلة العلاقة التاريخيّة الاستراتيجيّة مع إيران منذ انتصار ثورتها والوقوف إلى جانبها في مكافحتها الحرب العراقيّة، وما تمثّله سوريا في موقعها الممانع وبوصفها شريان الإمداد الطبيعي بين دول وقوى المقاومة في المنطقة؛ ولم يبق على لسان "أحمد الشرع" إلا التوجّس من إيران وسلوكها.
وقيل إن إيران خسرت البحر المتوسط وأخذت تلملم كلّ أذيال الخيبة بعد أن خسرت كل استثماراتها في دعم دول وحركات المقاومة لترتد إلى حدودها وتتحسّس رأسها من القفزة الأميركية الإسرائيلية التركية إلى الأمام في سوريا، وتحسين شروط إعادة إنتاج السلطة في لبنان بما ينسجم والهوى الأميركي-السعودي، وقد ترافق ذلك مع إعادة تعويم النعرات المذهبيّة، مما أوحى بتراجع عقارب طهران الى الوراء.
السلاح الأمضى للمقاومة؟
إلا أن انتهاء جولتي القتال الأكبر والأطول مدى والأعمق خطورة في تاريخ الصراع بوجه العدو الإسرائيلي أي طوفان الأقصى وما استتبعه من حرب عالمية على غزة، ومعركة أولي البأس في جنوب لبنان، وما رافق هذه الحرب الممتدة من إسناد يمني وعراقي ولبنانيّ مضافا إلى عمليّتيّ الوعد الصادق الإيرانيّة (١) و (٢) وتلك المؤجلة رقم (٣)؛ إن انتهاء هاتين الجولتين ومعهما الإسناد ومع العودة المظفّرة لمجتمع المقاومة إلى أرضهم وديارهم المهدّمة ومواجهتهم باللحم العاري رصاص الاحتلال والعدوان الإسرائيليّ، عاد ليرسم المشهد الاستراتيجي انطلاقًا من السلاح الأمضى لقوى المقاومة وهو مجتمعها الحاضن الشجاع والأبي والصابر والصامد والوفيّ.
وبهذه العودة المظفّرة للشعوب المتسلّحة برداء الكرامة، عادت "طهران" الداعمة للشعوب وخياراتها في المقاومة، عادت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة أرسخ تجذّرًا في عدالة قضيّتها وصوابية منهجها، وغدت أقوى أملًا في حصاد تاريخ العطاء والتضحية من خلال العودة الشعبيّة الصلبة على ضفّتي غزة والجنوب اللبناني وما تكتنفه من وعي وبصيرة وصبر وإرادة، وروح تنجز المعجزات وتستخدم الأدوات ولا يسقط من يدها السلاح.
فالمقاومة التي حرّرت أرض جنوب لبنان عام ٢٠٠٠ بعد اجتياح عام ١٩٨٢، مستغرقة ثمانية عشر عامًا، لتكتب فصول التحرير الثاني بعد العام 1985، ها هي تصمد صمودًا إعجازيًّا وأسطوريًّا كبيرًا بمدة مضاعفة عمّا صمدت به عام ٢٠٠٦، ولا تحتاج أكثر من ستين يومًا لتعيد مشهديّة تحرير ال٢٠٠٠، في تكثيف للزمن يكشف عن مدى تقدّم المقاومة في الصمود والقتال، وعن مدى تطوّر مجتمع المقاومة في تلقين العدو دروس الحسم والثبات وانقلاب السحر على الساحر.
وكما قال الإمام الخامنئي: "اليوم، سُحقت كلّ المعادلات السياسيّة والحسابات الماديّة أمام الشعب المؤمن والمخلص في جنوبي لبنان، الذي لم يَعْبَأ بالجيش الصهيوني الغاصب، وحمل روحه إلى الميدان بإيثار وثقة بالوعد الإلهي".
والخلاصة المفيدة، أن طهران عادت أكثر اضطلاعًا بقضيّتها المركزيّة أي "نصرة فلسطين" ومؤشّري العودة أي الزحف المبارك لأهل غزة إلى ديارهم مع استعراض القوّة والانضباط والتنظيم لفصائل المقاومة الفلسطينيّة، لا سيّما حركة المقامة الإسلاميّة حماس وحركة الجهاد الإسلاميّ، أثناء صفقة تبادل الأسرى؛ وهذا الزحف الكربلائي الواثق لأهل "جبل عامل" يؤدّون صلاة العهد مع روح سيد شهداء الأمّة السيد حسن نصرالله أن طريق المقاومة ماضٍ إلى مقصده، وأن الشهداء على طريق القدس، محفوظة وصيّتهم وأمانة دمائهم.
وبذلك يسيّج الجنوب اللبنانيّ العلاقة بالجمهورية الإسلامية بأنبل الوفاء والتضحية لأجل عقيدة المقاومة وتصديرها وبثّ وجوه الكرامة الإنسانية في العالم بعزّة وإباء واقتدار.
إن العودة الشعبيّة الساحرة في فلسطين ولبنان هي الكلمة الفصل التي تذهل أهل الساسة في العالم، وتؤكّد بأن "طهران" إنّما تقف على أرض صلبة لا تهزّها أماني الاستكبار، وبأمضى الأسلحة روحًا وتأثيرًا أي أشرف الناس تبقى "طهران" عاصمة الكرامة والمقاومة نبضًا زاخرًا بكل مبادئها ومنهجها، وهو أخطر مفاعل تكويني في تحقيق الأهداف الثورية الكبرى التي لا تقف عند حصار أو عقوبات، مما يجعلها أقرب أملًا وأصدق إحرازًا من أي وقت مضى، وتبقى للسواعد الفتيّة للشباب الغيور في سوريا تحدّث أخبارها فتتبارك الإرادات في بيت المقدس وأكنافه، ولو كرهت أمريكا، بينما تتفاقم معضلات المأزق الوجوديّ للكيان الإسرائيليّ المؤقّت.