الجمعة 24 كانون الثاني , 2025 11:34

ما بعد غزة: جنين والضفة الغربية في مرمى النيران "الإسرائيلية"

آليات إسرائيلية في الضفة الغربية

لم تكن النكسة الإسرائيلية وليدة اتفاق وقف إطلاق النار؛ بل كانت الحرب على غزة مشهدًا مأساويًا للجيش "الإسرائيلي" الذي افتقر إلى أي أهداف واضحة. حربٌ تميزت بالعشوائية، دمار بلا نتائج، وقتل بلا غايات، حتى اعترف المحللون الإسرائيليون بأن الجيش انتقل من فشل إلى آخر. هذه الإخفاقات شكلت صدمة في معسكر "الصهيونية الدينية"، الذي ظهر متحدًا في البداية ولكنه سرعان ما تفسخ تحت وطأة الضغوط السياسية والعسكرية.

وسط هذه الانقسامات، تحولت الأنظار إلى الضفة الغربية، حيث بدأ الاحتلال بتنفيذ خطط لتعويض فشله في غزة. مدينة جنين، رمز المقاومة في شمال الضفة، باتت هدفًا لحملة عسكرية جديدة تحت شعار "السور الحديدي". هذه العملية لا تعكس فقط رغبة نتنياهو وسموتريتش في استعادة الهيبة المفقودة، بل أيضًا محاولة لاستخدام الضفة كورقة سياسية لتهدئة الغضب الداخلي في "إسرائيل".

في المقابل، تستعد جماعات "المعبد" المتطرفة لتصعيد أكبر في القدس، حيث يسعى بن غفير لتعزيز شعبيته بين أنصار "الصهيونية الدينية". مشروع بناء كنيس داخل المسجد الأقصى، الذي كان يُنظر إليه كهدف بعيد المدى، بات يُطرح اليوم كخطوة قريبة قد تُنفذ في أي لحظة. اللفافة التوراتية التي أُودعت مؤخرًا في مستوطنة "موديعين عيليت" ليست سوى إشارة واضحة إلى النوايا القادمة: تهويد الأقصى تحت ذريعة "الحق الديني".

جنين: الساحة التي لا تهدأ

قبل أكثر من شهر، أطلقت السلطة الفلسطينية عملية أمنية وصفت بأنها "الأوسع منذ سنوات" داخل مخيم جنين، أحد رموز المقاومة الفلسطينية. تصريحات قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية كانت حاسمة في تبرير هذه الخطوة؛ إذ تحدثوا عن "الخارجين عن القانون" و"الأجندات الخارجية"، وذهبوا إلى حد وصف المقاتلين بـ"الإرهابيين". هذا الخطاب، الذي لم يكن جديدًا في سياق المواجهة بين السلطة والمقاومة، أعاد للأذهان الاتهامات "الإسرائيلية" الموجهة لفصائل مثل حماس والجهاد الإسلامي، وكأن هناك تطابقًا في اللغة والمصطلحات.

لكن هل يعقل أن تتحول السلطة، التي وُجدت بالأساس لتمثيل تطلعات الشعب الفلسطيني، إلى أداة لقمع مقاوميه؟ ما الذي دفع السلطة لتُقدِم على خطوة كهذه في توقيت حساس، حيث تشهد الضفة الغربية حالة من الغليان المتزايد بعد العدوان "الإسرائيلي" الأخير على غزة؟

إن المعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على الوعي الفلسطيني. الصمود الأسطوري في غزة يجب أن يمتد إلى الضفة والقدس، فكل دقيقة تأخير تفتح المجال أمام الاحتلال لتعزيز مخططاته. المطلوب ليس فقط المقاومة الشعبية، بل أيضًا استعادة الوحدة الفلسطينية في مواجهة عدو يسعى لتقسيم الأرض والإنسان. حيث أن كل ذلك يجري في ظل صمت دولي مطبق، بل وتواطؤ ودعم أميركي واضح مع الاحتلال. إدارة ترامب، شأنها شأن الإدارات السابقة، تغض الطرف عن الجرائم الإسرائيلية وتدعم استمرارها سياسيًا وعسكريًا. هل هذا كله تمهيدًا لصفقة القرن التي وعد بها ترامب منذ ولايته السابقة ويعود بالتخطيط لها بشكل آخر؟

السور الحديدي: مخطط إسرائيلي بمساعدة السلطة الفلسطينية؟

عملية جنين الأخيرة لا يمكن فهمها بمعزل عن استراتيجية الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية. ما أُطلق عليه "السور الحديدي" ليس مجرد اسم لعملية عسكرية؛ بل هو تعبير عن نهج "إسرائيلي" طويل الأمد قائم على تقويض المقاومة الفلسطينية في كافة أشكالها. الاحتلال، الذي أطلق يد السلطة الفلسطينية في جنين، يبدو وكأنه وجد في أجهزتها الأمنية أداة لتحقيق أهدافه دون الحاجة للتدخل المباشر في وقتها.

قبيل العملية بيوم واحد، طلبت "إسرائيل" رسميًا من الأجهزة الأمنية الفلسطينية الانسحاب من بعض المناطق، لتمنحها "الحرية" في إدارة المشهد. وهذا ما يفتح الباب أمام أسئلة جوهرية: هل كان هذا التنسيق نتيجة ضغوط "إسرائيلية"، أم أن السلطة الفلسطينية ترى في المقاومة المسلحة تهديدًا لمشروعها السياسي القائم على المفاوضات؟

منذ سنوات، تتعامل المؤسسة الأمنية "الإسرائيلية" مع السلطة الفلسطينية بوصفها "شريكًا أمنيًا". تصريحات المسؤولين "الإسرائيليين"، التي تؤكد دعمهم للسلطة، تكشف بوضوح عن التوجه نحو تعزيز دورها في "ضبط الأمن" ومنع تصاعد الهجمات. بل إن الجيش "الإسرائيلي" امتنع عمدًا عن التدخل في مخيم جنين منذ بدء العملية، في محاولة لإعطاء السلطة مساحة لإثبات قدرتها على "إدارة الفوضى".

لكن المفارقة الكبرى تكمن في التناقض "الإسرائيلي" الداخلي. ففي الوقت الذي يدعم فيه الجيش "الإسرائيلي" تعزيز السلطة وتزويدها بالمعدات والأسلحة، يهاجم وزراء من اليمين المتطرف هذا التوجه، معتبرين أن السلطة جزء من المشكلة لا الحل. هذا التناقض يعكس الانقسامات العميقة داخل إسرائيل حول طريقة التعامل مع الضفة الغربية، ويؤكد أن الاحتلال لا ينظر إلى السلطة كحليف حقيقي، بل كأداة مرحلية لخدمة أجنداته.

المقاومة في جنين: إرث نضالي متجدد

جنين ليست حديثة العهد في مواجهة الاحتلال. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي خلال الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الإنجليز، كانت هذه المدينة ومحيطها رمزًا للتحدي. وفي عام 2002، خلال عملية "السور الواقي"، تحولت جنين إلى أيقونة للصمود، حيث واجه مخيمها عدوانًا إسرائيليًا واسعًا أسفر عن تدمير أجزاء كبيرة منه.

واليوم، تحمل المقاومة في جنين إرثًا تراكم عبر عقود من النضال، تطور في أساليبه وتكيّف مع طبيعة المواجهة. من الكمائن المحكمة إلى الاستفادة من الطبيعة الجغرافية والمناطق المأهولة، أثبتت المقاومة قدرتها على مجابهة جيش الاحتلال الذي حاول مرارًا تحييدها دون جدوى.

إستراتيجية الاحتلال: تقسيم وعزل

منذ بداية العملية العسكرية الحالية، يتبع الاحتلال الإسرائيلي إستراتيجية تستهدف قلب موازين القوة لصالحه. عبر السيطرة على الطرق الرئيسية وعزل المخيم عن محيطه، يسعى الاحتلال إلى خنق المقاومة وحصرها في بقعة صغيرة يسهل السيطرة عليها. لكنه يدرك جيدًا أن مخيم جنين ليس مجرد جغرافيا، بل هو مساحة للمقاومة والتحدي، يمتد تأثيرها إلى مناطق أخرى في شمال الضفة الغربية، مثل برقين وعرابة وفحمة.

إلى جانب ذلك، حاول الاحتلال تنفيذ خطة ميدانية لإخلاء المخيم من سكانه. تهجير أكثر من ألفي عائلة ليس مجرد إجراء عسكري؛ بل هو جزء من مخطط أوسع لتفريغ الأرض من أصحابها وتفكيك الحاضنة الشعبية التي تمثل العمق الإستراتيجي للمقاومة. ومع ذلك، فشلت محاولات الفصل والعزل في منع المقاومين من تنفيذ عمليات نوعية، مما أثبت عجز الجيش الإسرائيلي عن فرض هيمنته الميدانية.

المقاومة: التكيف والإبداع في المواجهة

ما يميز مقاومة جنين اليوم هو قدرتها على الاستفادة من التجارب السابقة. من جباليا وبيت حانون في غزة، استلهم المقاومون في جنين تكتيكات قتالية تتناسب مع طبيعة المعركة في المناطق المأهولة بالسكان. ورغم افتقارهم إلى عمق جغرافي يسمح بالتراجع أو المناورة كما هو الحال في غزة، فإنهم أثبتوا أنهم قادرون على إدارة معركة استنزاف طويلة الأمد.

ظهور "سرية قباطية" التابعة لسرايا القدس في المعركة يكشف عن مستوى عالٍ من التنظيم والاستعداد لدى المقاومة. في جنين، يدرك المقاومون أنهم أمام خيارين لا ثالث لهما: الاستشهاد أو الانتصار. وهذا الإيمان العميق بعدالة قضيتهم، وعلى تصميمهم الذي لا يهتز، يمنحهم تفوقًا نفسيًا وأخلاقيًا في مواجهة جيش مدجج بالسلاح.

العملية العسكرية وأهداف الاحتلال السياسية

لا يمكن قراءة ما يجري في جنين بمعزل عن الأهداف السياسية بعيدة المدى للاحتلال الإسرائيلي. فالعملية العسكرية ليست مجرد رد فعل على العمليات المقاومة، بل هي جزء من إستراتيجية أوسع تهدف إلى قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية.

توقيت العملية ليس عشوائيًا. إسرائيل تحاول استغلال ما تسميه "النافذة الإستراتيجية" الناتجة عن وقف إطلاق النار في غزة ولبنان، لتركيز جهودها على الضفة الغربية. لكن رغم حجم القوة المستخدمة والإسناد الجوي المكثف، فإن المعركة في جنين كشفت عن عجز الاحتلال عن تحقيق انتصار حاسم. الانتشار الجغرافي للمقاومة في مختلف أنحاء محافظة جنين جعل من الصعب على الجيش الإسرائيلي فرض سيطرته الكاملة.

جنين: معركة الرموز

ما يجري في جنين اليوم ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل هو صراع على الرمزية. بالنسبة للفلسطينيين، تمثل جنين عنوانًا للصمود والمقاومة. أما بالنسبة للاحتلال، فهي عقبة أمام مشروعه الاستيطاني في الضفة الغربية. لهذا، فإن المعركة الدائرة تتجاوز حدودها المكانية لتشكل نقطة ارتكاز في الصراع مع الاحتلال.

الخبرة التراكمية للمقاومة في جنين، من ثورة 1936 إلى اليوم، تؤكد أن الشعب الفلسطيني قادر على مواجهة أعتى القوى العسكرية بإمكانات متواضعة، طالما امتلك الإرادة والإيمان بعدالة قضيته. وفي الوقت الذي يحاول فيه الاحتلال توظيف السلطة الفلسطينية كأداة لضبط الأوضاع في الضفة، تزداد عزلة السلطة في الشارع الفلسطيني، الذي بات يرى في المقاومة الخيار الوحيد لمواجهة الاحتلال.

وهذا ما أكده الناطق الرسمي باسم كتائب القسام أبو عبيده، حيث قال "جنين هي شقيقة الروح لغزة في البطولة والصمود"، حيث أنه لا يطلق تصريحًا عابرًا أو مجرد جملة خطابية. بل يختزل في كلماته جوهرًا عميقًا يُبرز وحدة الساحات الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، ويفتح باب التحليل على مصراعيه لفهم الاستراتيجية الجامعة التي باتت المقاومة تنتهجها بين غزة والضفة الغربية، حيث لم يعد الفصل الجغرافي عائقًا أمام ترابط العمل المقاوم.

إن وصف جنين بـ"شقيقة الروح لغزة" هو إقرار بوحدة التجربة، من حيث البطولة والصمود، ولكنه أيضًا إشارة إلى تطابق العدو ذاته الذي يستهدف روح المقاومة، سواء في أزقة غزة أو في حواري جنين. وكأنما أراد أبو عبيدة أن يضع المعركة الحالية في جنين ضمن سياق أكبر، حيث لا تنفصل عن معركة الإرادة الفلسطينية التي تُخاض على كامل تراب الأرض المحتلة، في وجه مشروع صهيوني يسعى إلى تقطيع أوصال هذا الشعب جغرافيًا وسياسيًا.

جنين لن تسقط

منذ عقود، يحاول الاحتلال كسر إرادة جنين، لكنه يفشل مرة بعد أخرى. مخيم جنين ليس مجرد مساحة جغرافية؛ بل هو رمز للكرامة الوطنية والتحدي الفلسطيني. وفي كل مرة تُشعل فيها المواجهة، تثبت جنين أن القوة الحقيقية لا تُقاس بعدد الجنود أو الطائرات، بل بمدى الإيمان بالحق والقدرة على الصمود.

المعركة في جنين لن تُحسم بالرصاص وحده، لأنها معركة روح وذاكرة وإرادة. ومهما حاول الاحتلال فرض سيطرته، سيبقى صوت المقاومة أقوى، وستظل جنين شوكة في حلق المشروع الصهيوني، وصرخة نضالية تلهم الفلسطينيين أينما كانوا.


الكاتب:

محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور