الثلاثاء 13 آب , 2024 03:03

خطاب نتنياهو بذكرى جابوتنسكي.. التشديد على التاريخ والجغرافيا

خطاب نتنياهو بذكرى جابوتنسكي

في العام 2005، أي قبل 19 عاماً فقط، شرّع الكنيست الصهيوني في شهر مارس/آذار، قانوناً سمّي باسم "قانون زئيف جابوتنسكي- إحياء ذكراه ومسيرته"، ومنذ ذلك التاريخ، يحيي الكيان المؤقت في الثالث من أب/أغسطس، ذكرى وفاة القيادي في الحركة الصهيونية زئيف فلاديمير جابوتنسكي، الذي ولد في أوكرانيا في 17 أكتوبر 1880 ومات في أميركا في3 أغسطس 1940، عن عمر ستين عاماً، قضى معظمها في التنظير لإقامة دولة صهيونية لا تكتفي بأرض فلسطين فقط، بل تمتدّ إلى الأردن وصحراء سوريا، لتكون ما بين النهرين.

رأى جابوتنسكي أن توجّه الحركة الصهيونية في بداياتها اتّسم باللين، لذلك كانت سياساته تؤسس للعنف السلوكي في التعاطي مع كل ما يقف بوجه تحقيق المشروع الصهيوني، وعلى وجه الخصوص مع الفلسطينيين، حيث كان يشجّع على ارتكاب المجازر بحقهم بهدف اقتلاعهم من الأرض، وكان من الداعمين للاعتداءات على الفلسطينيين حين عمل في تكوين كتائب الهاغاناه التي قادها بنفسه لقمع المظاهرات العربية في القدس عام 1920، وتبنى سياسة الردع النشيط ضد العرب لإرغامهم على الاعتراف بالوجود اليهودي، مرواً بالمجازر التي وقعت لاحقا في دير ياسين وغيرها.

شجّع جابوتنسكي الهجرة غير الشرعية لليهود نحو فلسطين ابتداء من العام 1932. وفي الأربعينيات، اقترح إقامة "الحائط الحديدي" وهو توصيف معنوي، يعتبر أن أية تجربة استيطانية استعمارية لا بد أن تواجه بمقاومة السكان الأصليين، فلا يوجد شعب يتنازل طواعية عن أرضه لشعب آخر، وأن حلّ هذه الإشكالية هو أن يقيم المستوطنون الصهاينة حائطاً حديدياً حول أنفسهم ويستمرون في البطش بالسكان الأصليين إلى أن يسلّموا بأنه لا مفر من التنازل واقتسام الأرض مع الكتلة البشرية الوافدة. هذه الفكرة هي نفسها التي تبنّاها بيغن فيما بعد، ثم شارون عندما قال: "إن ما لا يؤخذ بالقوة يؤخذ بمزيد من القوة"، ثم حزب الليكود، وكل المتطرّفين حالياً وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو الذي يرتبط (عضويا) بجابوتنسكي، بسبب العلاقة الوثيقة التي كانت قائمة بينه وبين والد نتنياهو الذي عمل معه وتأثّر به كثيراً، فتأثر الابن (بنيامين نتنياهو) بالأب والمنظّر الدموي.

الاحتفال الأخير

عصر يوم الأحد 3آب/أغسطس، وقف نتنياهو في تل أبيب، متكلّما في الحفل المخصّص لإحياء ذكرى وفاة جابوتنسكي، بحضور حشدٍ من المتابعين على رأسهم رئيس الكيان، وعلى رأسه "الكيباه" أو القلنسوة اليهودية(التي ترمز  إلى الالتزام الديني عند معتمرها) فاطلق مواقف سياسية معتادة، لكن الجديد في خطابه غير المطوّل، كان التشديد على دور التاريخ والجغرافيا، لترسيخ عقيدة ثابتة حول أحقيّة الصهاينة بأرض فلسطين، وهذه قضية سياسية وقانونية وعقائدية وحضارية، استحضرها نتنياهو في توظيفِهِ للمناسبة، فقال غاضباً محتدّا: "يقولون إنه لا يوجد لنا حق قانوني هناك، أي وقاحة هذه؟ هذه أرض إسرائيل التي صلّى فيها أباؤنا منذ آلاف السنين وإليها عدنا وهي أرضنا وبلادنا". ولعلّ هذا القول يشي بالمخاوف التي تبعث على القلق الداخلي والمخفي عند نتنياهو، فلولا أنه لم يستشعر إحكام الطوق على كيانه، لما قال ذلك. هذا الخوف يتفلّت من بين كلمات نتنياهو كلما تحدّث عن المحكمة الجنائية أولاً، وعن حملات التنديد بالإجرام الصهيوني التي شهدها العالم كله بعد 7 أكتوبر ثانياً، وعن تهمة الإبادة التي صارت مؤخراً لغة جزءٍ كبير من العالم والإعلام ثالثاُ.

استراتيجيات الخطاب عند نتنياهو

في النقاط التالية أبرز استراتيجيات نتنياهو المعتمدة في خطابه السياسي الأخير في 3 آب 2024:

- التركيز الدائم على التاريخ والجغرافيا: تحدث نتنياهو بتفصيل عن الملامح الجغرافية: غزة، خان يونس، دير البلح، ورفح، ذاكرا جبل إفرايم، الذي نادراً ما يتكرر ذكره على الألسنة، وهو الأرض الجبلية الواقِعة في القسم الأوسط من فلسطين الغربية، و"إفرايم" كلمة عبرية معناها "الأثمار المضاعفة" وقال للجمهور إن هذه الأماكن يعمل فيها اليوم "جنودنا الأبطال" ثم استحضر التاريخ إلى جانب الجغرافيا ومزجه بها فقال إن هذه الأرض "عمل فيها أبطال القوة الصهيونية في بداية الحرب العالمية".

- الدفع المعنوي وإظهار المديح والثناء والتقدير للجنود ولأفعالهم ومنجزاتهم، "أثارت إعجابي إنجازات جنودنا، ورأيت عملياتهم الصعبة فوق الأرض وتحت الأرض" والهدف من هذا الدفع المعنوي، هو الرد على الأصوات الإسرائيلية التي تتحدث عن "وهن الجيش وإنهاكه" بعد 200 و300 يوم من الاستنزاف لقدراته القتالية والنفسية

- يعمل نتنياهو على التحليل السياسي والتاريخي لأحداث جرت قبل مائة عام ويربطها ببعضها محلّلاً (من يفعلها اليوم من سياسيّي الكيان؟) فهو قال "أعتقد أن جابوتنسكي كان في جبال إفرايم ورفح، التي تطرّق إليها كنقطة مفتاح للحلول مع مصر، والسيطرة عليها للدفاع عن إسرائيل من الجنوب، للوصول ولحماية إسرائيل أمام الجيش العثماني". يتوخّى نتنياهو هنا، استعراض معلوماته التاريخية حول الفترة التي سبقت تأسيس الكيان الإسرائيلي المؤقت، وبالتالي، يهدف لتقديم نفسه كممثّلٍ للهوية اليهودية والصهيونية، وكقائد ٍيستلهم معالم النهج الذي رسمه مؤسّسو الكيان، بل أكثر من ذلك، يقدّم نفسه كوريثٍ لهؤلاء المؤسّسين، (من خلال هذا الانتماء التاريخي والسياسي والإيديولوجي) وهو ما يتلاءم مع شخصيته، وما يميّزه عن باقي القيادات الإسرائيلية الحالية التي لا تملك المستوى نفسه من الانتماء (والامتداد) التاريخي والإيديولوجي والسياسي.

- يعمد كذلك إلى التحليل النفسي للسلوكيات والدوافع "جابوتنسكي كان يعرف أهمية الجنود في الجيش، وفهم نفسية الجنود والتحديات التي يواجهونها، من أجل ذلك بالذات أراد رفع معنوياتهم، وإشعال نار الانتصار فيهم، وكل ما كتبه عن رفح يتعلّق بالشعور بالفخر. وحين زرت الجيش قبل أسابيع في رفح، شعرت بالفخر نفسه". هذا هو توظيف الأحداث الذي لا يوفّره نتنياهو أبداً، فحتى زيارة المواقع العسكرية يحوّلها إلى مناسبة للنيل من خصومه، (من وزير الدفاع وقيادات الجيش وكل الذين يخالفون طروحاته ومواقفه) كأنه يقول للجميع أنا الموجود في كل الجبهات، أنا على خطوط التماس مع الجنود، أنا الأقرب منكم والأكثر حضوراً، والشعور بالفخر ملازم لي أينما حللت، فأنا صاحب الإنجازات والانتصارات.

- الإعلان بلا مواربة وبكل وضوح، عن العقيدة القتالية والعسكرية العنيفة، التي يؤمن بها نتنياهو ويتبنّاها وينفّذها بشكل مضاعف، حين عبّر بالقول "كان جابوتنسكي يفهم الواقع، إن لم نردّ على أعدائنا الضربة بضربتين، فسنكون كالخراف التي تذهب إلى المذبح".

- الصهيونية المحاربة: وصف نتنياهو جابوتنسكي بأنه "أبو الصهيونية المحاربِة"، نلاحظ هنا تعمّد استخدام هذا التوصيف. إذ جعل من كلمة المحارِبة توصيفاً مقصوداً للصهيونية الحقيقية بنظره، في إشارة إلى المتخاذلين، من غير المحاربين وغير المؤيدين لقرارات الحرب.

- تبنّي عقيدة الجدار الفولاذي أو الحائط الحديدي: خاطب نتنياهو رئيس الكيان مذكّرا وملفتاً: "سيدي الرئيس، إن مبدأ الحائط الفولاذي يوجب أن يكون هناك وجود قويّ لجيشنا بوجه أعدائنا وأنه لا يمكنهم قلعنا من أرضنا".  

- الجرأة والوقاحة في المطالبة بالأرض الفلسطينية كحقٍ صهيوني، سمّاه "حقنا في أرض إسرائيل، وحقّ إسرائيل في الضفة الغربية والقدس الشرقية، يقولون إنه لا يوجد لنا حق قانوني هناك، أي وقاحة هذه؟  هذه أرض إسرائيل التي صلّى فيها أباؤنا منذ آلاف السنين وإليها عدنا وهذه هي أرضنا وبلادنا". وفي هذا القول يتجلّى ارتباط نتنياهو بالمشروع اليميني الذي لا يعترف بأي حقّ للفلسطينيين لإقامة دولتهم على أرضهم.

- التضليل والكذب لحماية الكيان من الضعف "القدوم إلى البلاد من المهجر لا يتوقف حتى أثناء الحرب. آلاف اليهود من العالم يستمرون بالقدوم إلى هنا..." تغافل نتنياهو هنا عن الحقائق التي تتحدث عن تزايد "الهجرة العكسية اليهودية"، حيث تحدّث الإعلام الإسرائيلي عن آلاف الإسرائيليين الذين غادروا الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ بداية الحرب. بتاريخ 23/6/2024 كشف موقع "كالكاليست" الإسرائيلي، عن اتساع ظاهرة سفر جنود الاحتياط إلى الخارج خلال فترة الخدمة النشطة. وفي 27 حزيران/يونيو الماضي كتب تاني غولدشتاين في موقع تايمز أوف إسرائيل "يبدو أن الفجوة لصالح عدد المغادرين أكبر من ذلك ووصلت إلى نحو 550 ألفا".

ختاماً، تحدّث نتنياهو بحماسة عن "البوصلة التي لم يفقدها" المجتمع الإسرائيلي في الكيان المؤقت، وهذه البوصلة حددها بـ: البيت/ الأرض/ الحرية/ والأمل، لكنه، للمفارقة، لم يلتفت إلى حقيقة ما يحصل اليوم في الكيان المؤقت، حيث بيوت الإسرائيليين لم تعد آمنة، والأرض في الشمال محرّمة عليهم، والحرية غير متاحة في ظل الحرب، أما الأمل فمعدوم ومبعد حالياً، وبهذا تكون الحدود الأربع لبوصلته غير صحيحة بالمطلق.





روزنامة المحور