الإثنين 03 شباط , 2025 03:05

معركة السرديات: كيف صنع حزب الله نصره بينما يختلق العدو وهم انتصاره؟

مشاهد انتصار في لبنان

في الصراعات الكبرى، لا تنتهي الحرب مع وقف إطلاق النار، بل تبدأ مرحلة أكثر تعقيدًا: حرب الروايات. لا يهم من أطلق الرصاصة الأخيرة، ولا من سيطر على التلال في نهاية المطاف، بل ما يهم هو من يستطيع إقناع شعبه-وربما العالم-بأن ما حدث كان نصرًا أو على الأقل ليس هزيمة. هذا هو الصراع الذي تخوضه "إسرائيل" وحزب الله بعد المواجهة الأخيرة في لبنان.

فمن الذي انتصر؟ هل "إسرائيل" التي أعلنت الحرب وسعت لتحقيق أهدافها؟ أم حزب الله الذي صمد، لكنه تكبد خسائر كبيرة؟ للإجابة، لا بد من تحليل الحرب وفق الشروط والأهداف الاستراتيجية التي وضعها كل طرف لنفسه.

نتنياهو: رواية النصر بين الوهم والواقع

في السياسة، لا يتعلق الأمر فقط بالحقيقة، بل بكيفية تسويقها. وبينما كانت "إسرائيل" تخرج من حربها مع حزب الله، لم يكن أمام قادتها سوى تقديم "رواية انتصار"، حتى لو كانت الوقائع العسكرية والسياسية تعكس صورة مغايرة تمامًا.

بنيامين نتنياهو، السياسي المخضرم الذي بُنيت مسيرته على الخطاب القومي والوعود الكبيرة، لم يكن ليترك الفرصة تمرّ دون إعلان النصر. وقف أمام "الإسرائيليين" ليؤكد أن الجيش "الإسرائيلي" "ألحق ضربة قاصمة بحزب الله"، وأن الحرب حققت أهدافها.

لكن وسط هذا الخطاب الصاخب، كان هناك واقع آخر يفرض نفسه: حزب الله لم يُهزم، ولم يتم ردعه، و"إسرائيل" لم تحقق أيًا من أهدافها الاستراتيجية.

نتنياهو: محاولة بائسة لبيع انتصار غير موجود

منذ 7 أكتوبر، وجد نتنياهو نفسه في أصعب موقف سياسي في حياته. لأول مرة، لم يعد "السياسي الذي لا يُقهر"، بل زعيمًا محاصرًا، يواجه غضبًا داخليًا غير مسبوق، وضغطًا دوليًا متزايدًا، وأزمة ثقة حتى داخل حكومته. لذلك، لم يكن أمامه خيار سوى بيع رواية النصر، حتى لو لم تكن مدعومة بالحقائق.

نتنياهو تحدث عن "ضربات ساحقة لقدرات حزب الله"، لكن التقارير العسكرية "الإسرائيلية" نفسها كانت تقول العكس. وسائل الإعلام "الإسرائيلية"، من هآرتس إلى القناة 12، أقرت بأن حزب الله لا يزال يحتفظ بقدراته الصاروخية، وبأنه مستعد لاستمرار القتال. رئيس الاستخبارات العسكرية السابق عاموس مالكا قالها بصراحة: "لا يمكننا إزالة تهديد صواريخ حزب الله”. إذن، عن أي انتصار يتحدث نتنياهو؟

حين أعلن كاتس انتصار "إسرائيل"، لم يكن بحاجة إلى معارضة علنية من أحد، فقد كانت تعابير هرتسي هاليفي كافية لقول كل شيء. رجل جلس طوال أشهر الحرب في قلب غرفة العمليات، وشاهد التقارير اليومية، وراقب كيف فقدت "إسرائيل" القدرة على تحقيق أهدافها. لم يكن بحاجة للكلام كانت لغة الجسد أكثر بلاغة من كلماته فقط نظرة واحدة مليئة بالذهول تكفي لإيصال الرسالة: هذا ليس انتصارًا، بل محاولة يائسة لرسم صورة غير واقعية للنتائج.

كل هذه المعطيات جعلت القيادة "الإسرائيلية" أمام معضلة: كيف يمكن تسويق الحرب على أنها انتصار، بينما المستوطنون في الشمال يعيشون في الملاجئ، وحزب الله كان يطلق الصواريخ بشكل يومي؟ فما هي الأهداف التي تحققت في هذه الحرب مع لبنان؟

"إسرائيل": أهداف لم تتحقق، وردع لم يُستَعد

عندما بدأت المواجهة مع حزب الله، وضعت القيادة "الإسرائيلية" مجموعة من الأهداف الاستراتيجية، يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور رئيسية:

- إعادة الردع: أرادت "إسرائيل" أن تجعل حزب الله يدفع ثمنًا باهظًا يجعله مترددًا في أي مواجهة مستقبلية.

- تفكيك قدرات الحزب الصاروخية: استهدفت تدمير البنية التحتية الصاروخية للحزب لمنع تهديد الجليل والشمال "الإسرائيلي".

- إعادة الاستقرار للشمال: كان الهدف الأكبر يتمثل في ضمان عودة المستوطنين إلى مناطقهم بأمان، ما يعني إنهاء تهديد حزب الله على الجبهة الشمالية.

ماذا تحقق؟

- إعادة الردع؟ لا. رغم قصف البنى التحتية لحزب الله واغتيال عدد من قادته، فإن الحزب استمر في إطلاق الصواريخ حتى اللحظة الأخيرة من القتال، وأثبت أنه قادر على القتال لوقت غير محدود.

- تفكيك القدرات الصاروخية؟ لا. بحسب الاعترافات "الإسرائيلية" نفسها، لا يزال حزب الله قادرًا على إطلاق مئات الصواريخ يوميًا، ما يعني أن إسرائيل لم تنجح في تحييد هذا التهديد.

- إعادة الاستقرار للشمال؟ لا. أكثر من 60 ألف مستوطن لا يزالون غير مستعدين للعودة، وهو ما يعتبر فشلًا استراتيجيًا كبيرًا.

النتيجة من منظور "إسرائيل"

وفقًا لنظرية "الحرب المحدودة"، فإن الجيش "الإسرائيلي" لم يتمكن من تحقيق أهدافه دون الدخول في حرب شاملة، وهو ما كان يتجنبه. وبالتالي، رغم الخسائر التي ألحقها بحزب الله، لم يستطع فرض إرادته الاستراتيجية.

المحصلة؟ فشل استراتيجي، وضياع لمفهوم "الردع"، واعتراف داخلي بأن حزب الله خرج من المعركة أكثر ثقة بنفسه.

حزب الله: كيف يصنع انتصارًا من الدمار؟

في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا تبدو الصورة معقدة: حزب الله احتفل بما اعتبره "نصرًا جديدًا في معركة الردع"، والمقاومة حاضرة أكثر من أي وقت مضى. الشيخ نعيم قاسم، أمين عام حزب الله، كان واضحًا: "لم نتحدث عن نصر مطلق، فهذه معركة فيها أرباح وخسائر. لكن المقاومة مرفوعة الرأس، وجمهورها كذلك".

حزب الله لم يكتفِ بإعلان الانتصار، بل حرص على تأطيره ضمن سياق أوسع، معتبرًا أن هذه الحرب جاءت لتعزز معادلة الردع ضد "إسرائيل"، وتؤكد أن الحزب قادر على خوض مواجهة طويلة دون أن يُكسر.

عودة النازحين إلى الجنوب كانت مشهدًا رمزيًا شديد الأهمية في هذه السردية. رغم الدمار، عاد الأهالي إلى قراهم قبل انسحاب الجيش "الإسرائيلي" بالكامل، رافعين أعلام الحزب وصور أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله، في مشهد يعيد إلى الأذهان مشهد العودة بعد حرب 2006.

الرسالة التي حاول الحزب ترسيخها واضحة: "إسرائيل لا تستطيع البقاء في أرضنا، وإذا عادت الحرب فستكون التضحيات طريقًا جديدًا للتحرير".

حزب الله: المعركة كامتداد لسياسة الاستنزاف

أهداف حزب الله المعلنة

على النقيض من "إسرائيل"، لم يكن لدى حزب الله هدف عسكري كلاسيكي مثل احتلال أرض أو تدمير جيش، بل كان لديه أهداف أكثر مرونة:

- منع إسرائيل من تغيير قواعد الاشتباك: أي إبقاء الوضع كما هو دون فرض معادلة جديدة.

- الصمود في وجه الهجوم "الإسرائيلي": أي إبقاء الجبهة اللبنانية نشطة دون أن يُجبر على وقف إطلاق النار بشروط "إسرائيلية".

- تعزيز الردع: أي إثبات أن أي حرب مستقبلية ستكون أكثر تكلفة "لإسرائيل".

ماذا تحقق؟

- منع تغيير قواعد الاشتباك؟ نعم. حزب الله لم يسمح "لإسرائيل" بفرض أي معادلة جديدة على الصراع.

- الصمود؟ نعم. رغم الضربات "الإسرائيلية"، لم يُهزم الحزب، وظل قادرًا على القتال حتى وقف إطلاق النار.

- تعزيز الردع؟ جزئيًا. صحيح أن "إسرائيل" لم تحقق أهدافها، لكن حزب الله تكبد خسائر كبيرة، ما يعني أن الحرب لم تكن مجانية له.

النتيجة من منظور حزب الله:

بحسب نظرية "الاستنزاف الاستراتيجي"، فإن النجاح لا يكون بتحقيق نصر ساحق، بل بإفشال أهداف العدو وإبقائه في حالة من عدم الاستقرار. حزب الله لم يسحق "إسرائيل"، لكنه منعها من تحقيق ما أرادت، وبالتالي يمكن اعتباره ناجحًا استراتيجيًا.

حرب السرديات: من يملك القصة الأقوى؟

كل طرف في هذه الحرب يحاول تسويق روايته، لكن الواقع يقول إن "إسرائيل" تواجه تحديًا في إقناع مجتمعها بأنها انتصرت. ففي زمن الإعلام المفتوح، لا يمكن إخفاء الحقائق: الجيش لم يسحق حزب الله، والمستوطنون لم يعودوا، والاقتصاد الإسرائيلي يتعرض لضغط هائل بسبب استمرار التوترات الأمنية.

على الجانب الآخر، حزب الله لا يحتاج إلى إقناع جمهوره بأنه انتصر، لأن الأمر أصبح بديهيًا في بيئته الحاضنة. الرواية التي يقدمها ترتكز على معادلة واضحة: "إسرائيل" أرادت تغيير الواقع، لكنها فشلت. أرادت سحق المقاومة، لكنها لا تزال قوية. وأرادت فرض معادلة جديدة، لكنها خرجت من الحرب أضعف.

التحليل الاستراتيجي: من المنتصر؟

وفق شروط "إسرائيل": خسارة استراتيجية

- "إسرائيل" فشلت في تحقيق أهدافها الرئيسية، رغم تفوقها العسكري.

- لم تستطع فرض شروطها على حزب الله.

- لم تحقق الأمان لمستوطنيها في الشمال.

- خسرت الردع الذي كانت تحاول استعادته.

وفق شروط حزب الله: نجاح استراتيجي مع خسائر

- الحزب لم يُهزم رغم التفوق العسكري "الإسرائيلي.

- نجح في منع "إسرائيل" من تغيير قواعد الاشتباك.

- أظهر أن لديه القدرة على القتال لفترات طويلة دون أن يُكسر.

- لكنه تكبد خسائر كبيرة، بما في ذلك فقدان قادته، ما قد يؤثر على قدراته مستقبلاً.

النظرية العسكرية المناسبة: "نصر بالنقاط" لا "ضربة قاضية"

إذا أردنا تحليل هذه الحرب وفق النظريات العسكرية، يمكن القول إن حزب الله حقق "نصرًا بالنقاط"، أي أنه لم يسحق العدو، لكنه تفوق عليه في تحقيق أهدافه.

"إسرائيل"، من جانبها، لم تنهزم عسكريًا، لكنها خسرت استراتيجيًا لأنها لم تحقق أهدافها رغم قوتها العسكرية الهائلة.

بعبارة أخرى:

- "إسرائيل" دخلت الحرب وهي تعتقد أنها تستطيع تحقيق نصر واضح، لكنها خرجت منها من دون أي إنجاز استراتيجي حقيقي.

- حزب الله لم يكن يبحث عن انتصار مطلق، بل عن إفشال الأهداف الإسرائيلية، وقد نجح في ذلك.

ماذا بعد؟

ما بعد هذه الحرب ليس مجرد حساب للخسائر والمكاسب، بل إعادة تقييم شاملة لمعادلات القوة في المنطقة. فبينما حاولت "إسرائيل" فرض نصر افتراضي لتغطية إخفاقاتها الاستراتيجية، خرج حزب الله من المعركة محققًا أهدافه في منع تغيير قواعد الاشتباك وإثبات قدرته على الصمود. لكن هذه النتيجة لا تعني أن المواجهة انتهت، بل إنها فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع، حيث باتت "إسرائيل" تدرك أنها لم تعد قادرة على فرض إرادتها بالقوة وحدها، فيما يدرك حزب الله أن استمرار المواجهة يأتي بتكاليف باهظة.

السؤال الأهم اليوم ليس "من انتصر؟" بل "ماذا بعد؟". "فإسرائيل" تواجه أزمة داخلية متفاقمة، وتحديات أمنية غير مسبوقة، فيما يجد حزب الله نفسه أمام معركة طويلة الأمد تتطلب تكتيكًا مدروسًا للحفاظ على مكاسبه. في ظل هذه المعادلة، يبدو أن المواجهة الكبرى ليست سوى مسألة وقت، والسؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت ستقع، بل متى وأين ستكون شرارتها الأولى؟


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور