في 23 أيلول/سبتمبر 2024، بدأت القوات الجوية والبرية الإسرائيلية مرحلة جديدة من الحرب على لبنان، في مواجهة حزب الله في معركة أسمتها المقاومة "معركة أولي البأس"، وعلى الرغم من البطش الإسرائيلي الذي مارسه سلاح الجو على الأراضي اللبنانية، بدعم عسكري أميركي وغربي واسع النطاق، تمكّنت المقاومة من الصمود، تحت قيادة أعادة هيكلة نفسها بوقت قياسي، واستعادة زمام المبادرة خصوصاً بالالتحام البري في القرى الحدودية، ومنعت الاحتلال من الاستيلاء على قرية جنوبية واحدة بشكل كامل، وكبّدته خسائر فادحة.
لكن بعد انتهاء الحرب كيف نحدد من المنتصر ومن المهزوم وما هو مفهوم النصر أصلاً؟
النصر في الحرب لا يتحدد بالضرورة فقط موضوعياً وفقاً لمعايير قابلة للقياس، مثل الخسائر العسكرية والأراضي التي تم الاستيلاء عليها أو تحريرها، بالإضافة إلى الوصول إلى الأهداف المرسومة للحرب. ورغم أهمية هذه المعايير واعتبارها ركيزة أساسية، فإن النصر أيضاً مسألة تتعلق بإدراك الأطراف المشاركة، فيُرجع البعض مفهوم النصر في الأساس إلى فكرة مفادها أن النصر في الحرب هو تقدير ذاتي للموقف ولا يلغي بأنه حقيقة يمكن قياسها موضوعياً.
والحرب نشاط سياسي، وبالتالي فإن تحديد النصر مسألة سياسية. فضلاً عن ذلك فإن الأطراف المتحاربة تستطيع أن تحدد بشكل مستقل ما تعتقد أنه نتيجة الحرب. وعلى هذا فإن السؤال "من الذي انتصر؟" لا ينبغي أن يسفر من وجهة نظر سياسية عن إجابة متفق عليها بالإجماع.
إن ما يزيد الأمور تعقيداً هو أن تصور النصر قد يختلف على المستويات التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية للحرب. فبوسع الأطراف المتحاربة أن تحقق انتصارات على المستويات الثلاثة دون أن تكون مرتبطة ببعضها البعض. وعلى النقيض من الانتصارات الاستراتيجية، يمكن تحديد الانتصارات التكتيكية والعملياتية بسهولة نسبية وموضوعية من خلال معايير قابلة للقياس. ولكن المستوى الاستراتيجي هو على وجه التحديد المستوى الذي يحدد عنده الفوز أو الخسارة في الحروب، وحيث يتم تحديد مدى استدامة النتيجة وفقاً لما إذا كانت الأسباب السياسية للحرب قد عولجت بشكل حاسم، ووصل أحد الأطراف إلى مبتغاه السياسي من عملياته العسكرية. في هذا السياق، نستذكر وصف وزير التراث الإسرائيلي عيميحاي إلياهو، في صحيفة معاريف، نتيجة الحرب على لبنان بالقول "هذا ليس نصراً، فالنصر يعني الاحتلال (لجنوب لبنان)، يعني استسلام حزب الله. وحزب الله لم يستسلم، وهذا الاتفاق ليس جيداً. ودولة إسرائيل ذهبت إليه تحت الإكراه".
ويقول الكاتب الروسي بيتر أكوبوف قال "لقد تمكنت إسرائيل من قتل قادة هذا التنظيم، لكنها لم تستطع سحقه أو الاستيلاء على الجزء الجنوبي من لبنان. وكان هذا على وجه التحديد هو الهدف الرئيسي للغزو الإسرائيلي، ولكنه لم يكن ممكناً في البداية".
تفيد هذه الكتابات أن الكيان لم يستطع أن يحقق انتصار إستراتيجي موضوعي على حزب الله، ولم تستطع القيادة السياسية تحقيق الأهداف المرسومة للغزو الإسرائيلي، وعندما فشلت الجهود العسكرية توجهت هذه القيادة نحو تسوية وقف إطلاق النار.
أما على الصعيد الوعي بالنصر، فيعتبر البعض بأن النصر في الحرب هو في الأساس مسألة تقدير ذاتي محدد زمنياً للموقف السياسي بعد انتهاء الأعمال العدائية. وبالنسبة للنخبة السياسية والعسكرية في أي بلد فإن تصور السكان يشكل أهمية بالغة. ذلك أن السكان قادرون على تكوين رأي حول نتيجة الحرب من تلقاء أنفسهم استناداً إلى المعلومات المتاحة. ولكن النخبة السياسية والعسكرية قادرة أيضاً على الاستفادة من النجاحات العسكرية أو التطورات السياسية لإقناع سكانها بشكل نشط ورمزي بأن تقديرهم للموقف السياسي يرقى إلى مستوى النصر. وعلى هذا فإن النصر الاستراتيجي قد يكون نتيجة ذاتية للرأي العام السائد على نطاق واسع وليس نتيجة موضوعية لتحليل الانتصارات العسكرية أو الظروف السياسية المواتية. وهذا يوضّح مدى أهمية العمليات الإعلامية في تحقيق النصر الاستراتيجي.
وإذا أخذنا هذه النقطة بعين الاعتبار، على الصعيد الشعبي لبيئة المقاومة أظهرت ردود أفعال الجمهور المقاوم شعوراً بتحقيق النصر والتمسّك بخيار المقاومة، بالاستناد إلى عوامل معنوية ومادية، كالبعد الغيبي بالنصر، ومنع الاحتلال من التمركز في الأراضي اللبنانية بعد جهد عسكري قابله ثبات والإصرار على الصمود وحماية الأرض، بالإضافة إلى تأثير العمليات العسكرية للمقاومة على الداخل الإسرائيلي، من خسائر اقتصادية واجتماعية وبشرية فضلاً عن تفاقم أزمة سكان الشمال.
في المقابل أظهر استطلاع رأي بثته القناة 13 الإسرائيلية أن أغلبية كبيرة من المجتمع الإسرائيلي تعتقد أن إسرائيل لم تهزم حزب الله. ورأى 60.8% من المستطلعة آراؤهم أن إسرائيل لم تحقق النصر على حزب الله، فيما يعتقد 25.8% فقط أن إسرائيل انتصرت، و13.4% غير متأكدين. من المهم الإشارة في هذا الصدد، أن الرأي العام الإسرائيلي الذي اعتاد على مفهوم نصر يرتكز على احتلال أراضي العدو، نتيجة أسباب تاريخية تتعلق بفكرة الاستيطان ومصادرة الأراضي والتوسع العسكري.
من خلال ما سبق، استطاع حزب الله الانتصار على العدو الإسرائيلي في "معركة أولي البأس"، لكن التحدي الحالي يتمثّل في استثمار هذا النصر، وإعادة ترميم خسائر الحرب المادية، ومشروع إعادة الإعمار، وتفعيل السياسات العامة داخل الدولة اللبنانية، وإعادة بناء القدرات العسكرية... ورعاية بيئة المقاومة الشريكة في صناعة نصره التاريخي.
الكاتب: غرفة التحرير