منذ إعلان وقف إطلاق النار في غزة ودخول التهدئة المعلنة حيز التنفيذ، سارع أهل غزة للعودة لمناطقهم وبيوتهم التي هجّرهم منها جيش الاحتلال الإسرائيلي بالقتل والتدمير، عاد الكثيرون ليجدوا منازلهم كومة من الحجارة إن حالفهم الحظ واستطاعوا تمييز معالمها أو حتى معالم الأحياء والطرقات التي ولدوا وعاشوا فيها منذ أجيال.
لقد نفّذ جيش الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أبشع جرائم الإبادة والتطهير العرقي في التاريخ الحديث على الهواء مباشرةً وعلى مرأى ومسمع من العالم بل بمباركة ومشاركة من الولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة الغربية، لقد هدّم جيش الاحتلال عبر القصف والنسف أحياء بكاملها وأصبحت أكوام من الحجارة وأنقاض ممتدة على طول الأفق، وما لم يُسقط ويدمّر طاله الحرق والتخريب في تأكيد مستمر وسعي حثيث لتحقيق التطهير العرقي، حيث أن التطهير والإبادة امتدا لكل مقومات الحياة، فقد أخرج جيش الاحتلال أربعة وثلاثين مستشفى عن الخدمة في أنحاء قطاع غزة المحاصر، وقصف جيش الاحتلال متعمداً وجرف آلاف آبار المياه وعشرات الآلاف من خطوط الصرف الصحي والكهرباء، وفق سياسة ممنهجة تحقق "الإبادة" وتؤكد على نية مبيتة للتطهير العرقي للشعب الفلسطيني.
إلا أن هذه المجازر على بشاعتها لم تكسر إرادة المواطن الغزي المؤمن بعدالة قضيته، وفور حصول الفرصة الأولى التي تمثلت بانسحاب جيش الاحتلال من "محور نتساريم" وفق ما نجحت المقاومة في تحقيقه في مفاوضات المرحلة الأولى عاد الناس أدراجهم للأحياء المنكوبة، وتدفق عشرات الآلاف سيراً على الأقدام فيهم الرجال والنساء والأطفال والكبار والمرضى والمصابون، في مشهد عز وتحدي وإصرار على الثبات في هذه الأرض ورفضاً لمساعي التهجير فعلاً لا قولاً، إلا أن صدمتهم كانت مضاعفة بعدما هالهم حجم التدمير والحرق والإبادة التي تعرض لها شمال غزة والأمر ينطبق على رفح وأماكن أخرى في القطاع، ليصطدموا بشح الإمكانات وقلة المعدات، إضافةً لشح المياه وغياب أي دور مؤثر للعمل الإغاثي وجهود الإيواء من إخوة الدم والعروبة والإسلام وإن وجدت فهي محدودة لا ترقى لمستوى الإبادة، ولسان حالهم يقول ألا يكفي ترك غزة تُدك بالطائرات والمدافع لخمس عشرة شهراً ثم يتبعه هذا الخذلان!
للأسف لم يدخل أي وفد عربي رسمي أو شعبي لغزة المنكوبة ليطلّع على مأساة غزة وأهلها عن كثب، ليطلّعوا ويشاهدوا حجم الجريمة ويقفوا على الإبادة، فالسامع ليس كالمشاهدة، بل لم تدخل المعدات الثقيلة والمواد المطلوبة لإغاثة السكان المنكوبين وإيوائهم.
لقد رفض شعبنا مخططات التهجير بتشبثه بأرضه، وهاهم أهل غزة بمبادرات فردية وحكومية محدودة ولجان الطوارئ الشعبية وبتعاون البلديات والمبادرين قد نجحوا في فتح بعض الطرق وإعادة بعض الآبار للخدمة وقد سُيرت سيارات المياه المحدودة للمناطق المنكوبة وشارك المبادرون بافتتاح بعض المخيمات، إلا أن هذا لا يكفي ولا يسد الحاجة الكبيرة لشعب خرج من الإبادة.
رسالتي ورسالة كل أهل غزة لإخوة الدم والعروبة والإسلام ولأحرار العالم أنّ غزة دفعت ما دفعته من أثمان دفاعاً عن حريتكم جميعاً، ودفاعاً عن مسرى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومقاومةً لآخر احتلال فاشي في العالم، وحقها عليكم إغاثة سكانها وإعادة إعمار بنيانها، هذا المؤمّل والمنتظر من كل حرٍ غيور فلا تتركوا غزة وحدها!
الكاتب: عزات جمال