كان الإنتاج الدوري لاستراتيجية الأمن القومي بمثابة طقوس أميركية منذ عام 1986، عندما ألزم قانون غولدووتر-نيكولز الرئيس بتقديم تقرير سنوي إلى الكونغرس. من الناحية النظرية، من المفترض أن يؤدي وضع هذه الاستراتيجيات إلى جعل البلاد أكثر أمانًا. لكن الاعتماد المتزايد على "تصدير القوة" لتأمين المصالح أنتج ما يشبه منظومة معقدة من الالتزامات الأمنية تجاه الحلفاء على امتداد العالم، وهو ما تسبب بدوره بما وصلت الولايات المتحدة إليه اليوم، في أزمة مركّبة في الشرق الأوسط تحديداً، الذي يشهد توسعاً في الجبهات وبشكل غير مسبوق. اذ أن تأمين الممرات الملاحية في البحرين الأحمر والعربي والدعم المتطرف لكيان الاحتلال إضافة للمناورة في كل من لبنان والعراق وسوريا لمنع التصعيد إلى جانب أوكرانيا وتايوان دون الحديث عن السودان وغيرها، أخرج إلى دائرة الضوء ما حاولت واشنطن ان تخفيه لسنوات: عجز الإدارة الأميركية في تحقيق سياسة خارجية متوازنة وارتفاع التكاليف التي تفرض المساءلة الداخلية وتغذي مسار التعددية القطبية.
طيلة السنوات الماضية، حاولت واشنطن تخفيف "الأعباء العسكرية" لها في المنطقة، بوضع حد للتدخل العسكري المباشر في كثير من الدول. لكن الرغبة الأميركية في تحقيق التوازن بين تثبيت النفوذ وترسيخ الهيمنة وتطورها من جهة وتخفيف التكاليف البشرية والمالية إلى حدها الأدنى، باءت بالفشل لو أنها لم تعترف رسمياً بذلك.
قدم بعض المنظرين لضرورة تحقيق التوزان، انتقادات واسعة لتخفيف التواجد العسكري. ومن بين أكثر هذه الانتقادات أهمية، ديناميكيات التحالف غير الصحية، والتدخلات العسكرية الفاشلة، او كما جرى في أفغانستان على سبيل المثال لا الحصر.
ويقول عالم السياسة والعلاقات الدولية الأميركي، جون ميرشايمر، أن المعضلة التي تواجه "القوى العظمى" في تبنيها أي السيناريوهات في حروبها، هي صعوبة تنبؤ الأحداث. وهذا ما يأخذ النقاش إلى ما يجري في البحرين الأحمر والعربي نتيجة العمليات العسكرية اليمنية ربطاً بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كمثال فاعل حالياً على مدى فشل المراهنات والتنبؤ بحصر المواجهة داخل الجغرافيا الفلسطينية.
المعضلة الأخرى التي تواجه الإدارة الأميركية في تحقيق أهدافها بردع القوات المسلحة اليمنية من تنفيذ هجماتها، هي القاعدة العسكرية القائمة على مبدأ عامل السيطرة على الميدان بين المهاجم والمُدافع.
خلال 9 سنوات من الحرب على اليمن، جرب التحالف بقيادة السعودية مختلف أنواع الضربات الجويّة للقضاء على القدرات العسكرية، خاصة الصاروخية منها، التي كانت تصل إلى عمق المملكة وعلى بنيتها التحتية الاستراتيجية كمحطة أرامكو. ولو أنها نجحت بالفعل، لما كانت صنعاء اليوم تمتلك ترسانة صاروخية تكفي للمضي قدماً بإغلاق الملاحة البحرية أمام السفن المتجهة إلى كيان الاحتلال -لوقت غير معلوم- وتوسيع دائرة الاستهداف لتشمل السفن الأميركية والبريطانية التي تجاوز عددها الـ 4 سفن، رغم الضربات الجوية المتزايدة، والتي قد يرتفع منسوبها مع اعلان دول الاتحاد الأوروبي الرغبة في المشاركة "بعملية الردع" المزعومة.
ويشرح الأكاديمي والعالم السياسي الأميركي روبرت جيرفيس، النظرية الميدانية التي تفسر عدم القدرة على حسم معركة ما من البحر. يقول "من حيث الهجوم والدفاع، يحول الماء توازن الهجوم والدفاع لصالح الدفاع. إن القيود الكبيرة على عدد القوات وكمية القوة النارية التي يمكن لدولة ما أن تستخدمها في عملية برمائية ضد دولة أخرى تجعل من الصعب للغاية التغلب على مدافع مستعد على الأرض". ويضيف خلال معالجته للمعضلة الأمنية: أي شيء يزيد من مساحة الأرض التي يجب على المهاجم عبورها، أو يعيق تقدمه عبرها، أو يجعله أكثر عرضة للخطر أثناء العبور، يزيد من الميزة المتراكمة للدفاع".
من ناحية أخرى، فإن السيطرة اليمنيّة على امتداد البر، يعطيها حرية أكبر في العمل العسكري، خاصة اذا كانت الأهداف بحرية، اذ انها غير مقيدة بضرورة تنفيذ عملياتها بالقرب من السواحل، بل ان قدراتها العسكرية التي كشف عنها خلال الحرب -قبل الدخول في مرحلة خفض التصعيد- ثم بإغلاق البحرين جزئياً، قادرة على التحرك في العمق أيضاً. وهذا ما يفتح باباً آخر للنقاش: اذا كانت الضربات الجوية والبحرية الأميركية البريطانية غير قادرة على وقف العمليات اليمنيّة، هل تلجأ إلى قوات برية تزيد من التكاليف لتحقيق مكاسب غير مضمونة؟