الخميس 01 شباط , 2024 01:52

آفاق العصر الأمريكي

يقول مؤلّف هذا الكتاب، الدكتور جمال سند السويدي، إن تناوله للنظام العالمي الجديد يتّخذ طابعاً مُغايراً لما سبق طرحه من قبل. فبرغم وجود خطوط اتفاق عامة حول مكانة الولايات المتحدة الأمريكية ودورها في هذا النظام، فإن الجدل العالمي حول ظاهرة مثل العولمة لا يزال محتدماً بين المُنظّرين والباحثين ورجال الأعمال حول طبيعتها وتأثيراتها وأبعادها، وكذلك حول سُبل تعظيم مردودها.

وفي السياق يتناول المؤلّف بعض تأثيرات هذه الظاهرة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وكيف أنها تمثّل منعطفاً حيوياً من المنعطفات التاريخية في مسار العلاقات الدولية، باعتبار أن العولمة أحد أبرز المؤثّرات الحيوية في بُنية النظام العالمي الجديد. وتبقى العولمة سمة أساسية لآفاق العصر الأمريكي الذي تُرسم ملامحه في الحقبة التاريخية الراهنة.

في مدخل الكتاب (الضخم)، والذي يُعدّ مرجعاً صالحاً في أي وقت لتحليل ومتابعة الاستراتيجيات الأميركية حيال دول وشعوب العالم، خصوصاً في ظل بدء مرحلة تبلور نظام عالمي تعدّدي جديد، قد تكون الولايات المتحدة أحد أقطابه فحسب، وذلك بفعل الممانعة العالمية، الآخذة في الاتساع والتعمّق والتأسيس، للهيمنة الأمريكية المتوحّشة (من قِبل الصين وروسيا والبرازيل والهند وإيران وتركيا وغيرها من الدول الصاعدة)، بموازاة المقاومة المباشرة لهذه الهيمنة في منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط) على وجه التحديد.

لقد ركّز المؤلّف على الأطروحة المركزية التي تبنّاها، وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية تُعدّ القطب المهيمن على النظام العالمي الجديد، مع وجود قوى كبرى مثل: الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا واليابان ودول صاعدة مثل الهند والبرازيل، وفقاً لمعايير عالمية تمّ على أساسها اقتراح هيكلية القوى في النظام العالمي الجديد، ومن أهمها: التعليم والثقافة والاقتصاد والتقنيّة، والقدرة العسكرية، والطاقة، والنقل.

في الفصل الأول: النظام العالمي الجديد: المفاهيم والسمات، تناول السويدي مفاهيم النظام العالمي الجديد كمدخل أساسي للوقوف على الأطر المختلفة لهذا النظام، وتحديد ماهيّته وأبعاده وطبيعة بُنيته والتفاعل بين وحداته، والفروق الفاصلة بينه وبين النظام الدولي، ومفهوم الفاعل الكوني والقوّة العظمى، وصولاً إلى تحديد سمات النظام العالمي الجديد، ومنها: المجتمع المدني العالمي والعولمة والصراع الحضاري والأيديولوجي في النظام العالمي الجديد وتداعياته على منظومة المجتمع الدولي، وجدليّة العلاقة بين العولمة وسيادة الدولة؛ مع مناقشة نظرية نهاية التاريخ والصراع بين الإسلام والغرب، وانتشار الصراعات العِرقية والطائفية والمذهبية، إلى تنامي التيّارات والأيديولوجيات المتطرفة، وخاصة ظهور اليمين الأمريكي؛ إضافة إلى تحليل دور الولايات المتحدة كقطب أحاديّ على قمّة النظام العالمي الجديد، ودولة رائدة في مجال البحوث والتطوير والتعليم العالي وأنشطة ريادة الأعمال، وتحالفها مع أكبر كيانين يماثلانها تقريباً من حيث نصيب الفرد من الدخل المحلي الإجمالي، وهما الاتحاد الأوروبي واليابان. ولذلك يصعب القول إننا نعيش في "عالم ما بعد العصر الأمريكي"؛ بل إننا نشهد أو نستشرف "آفاق العصر الأمريكي"، ولكن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تواجه مشكلاتها الداخلية، مثل الديون والصراع السياسي والحفاظ على تطوير نوعية التعليم الثانوي.

في الفصل الثاني: العوامل المؤثّرة في بُنية النظام العالمي الجديد، يتناول المؤلّف العوامل المؤثّرة في بُنية النظام العالمي الجديد، ومن ثم طبيعة تكوينه وبُنيته على المستويين الأفقي والرأسي، للوقوف على مدى تأثيره في العلاقات الدولية؛ كما يبحث في كيفية تأثير القوة في بُنية النظام العالمي الجديد، والعوامل الاقتصادية التي تُعدّ المرتكز الرئيسي في هيكلية هذه البنية، والتفوّق العسكري الاستراتيجي، والتقدم العلمي والتقني الذي غيّر أنماط التفكير والتعامل بين البشر والمجتمعات، وألقى بظلاله على المجالات الانسانية كلّها، وأثّر بشكل مباشر في بُنية النظام العالمي الجديد. فمن يمتلك التقدم العلمي والتطور التقني يسيطر على المعرفة؛ ومن يستحوذ على المعرفة يمكنه قيادة المستقبل والسيطرة على العالم.

يتضمّن الفصل الثالث: النظام العالمي: منعطفات تاريخية فارقة، تحليلاً تاريخياً لمحطات فارقة في تاريخ النظام العالمي الجديد، للتعرّف على المفاصل التاريخية التي أثّرت، وربما لا تزال تؤثر، في تشكيل بُنية النظام العالمي الجديد، وصولاً إلى منطلقات هذا النظام وتأثير البعد التاريخي في استشراف مستقبله. وقد جاء منعطف الحرب الباردة ليُلقي بظلاله على النظام العالمي الجديد، حيث أدّى إلى اختلال توازن القوى، وأضحت الأسلحة النووية هي حاكم العلاقات العسكرية بين الدول، وانتشرت الأزمات. ثم جاءت الحرب على العراق عام 1991، لتشكّل منعطفاً جديداً في النظام العالمي الجديد، حيث نجحت القوّة العظمى في إقامة تحالف عسكري دولي من 34 دولة لاستعادة الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، لتظهر قِيمٌ عالمية جديدة تدور حول السلام والاستقرار وحقوق الإنسان والتدخل الإنساني والمسؤولية العالمية عن حماية الدول الصغيرة. ثم كان لانتشار العولمة أثر واضح في النظام العالمي الجديد، وذلك في تطوّر العلاقات ونشر نموذج ثقافي واحد بين الدول، بشكل يعكس تآكل مفهوم سيادة الدولة وانتشار الشبكة العالمية للاتصالات وتنامي القضايا العابرة للحدود.

أما الفصل الرابع: النظام العالمي الجديد: الاقتصاد والتجارة والطاقة، فيتناول دور المال والتجارة والاقتصاد في بُنية النظام العالمي الجديد، حيث يلعب الاقتصاد دوراً أساسياً في تشكيل بُنية النظام، فهو القاطرة التي تدفع باقي قوى القطب الأحادي؛ فالمنظومة المالية العالمية، وما يرتبط بها من صراع العملات ودور المؤسسات المالية العالمية تؤثّر بشكل مباشر في طبيعة إدارة النظام العالمي الجديد، وكذلك التجارة وأبعادها المختلفة وخطوط مرورها العالمية. كما أن النظام الاقتصادي يُعدّ في حدّ ذاته نظاماً عالمياً موازياً للنظام العالمي الجديد على الصعيد السياسي، وكلٌ منهما يتأثر بالآخر ويؤثّر فيه.

في الفصل الخامس: اتجاهات الجمهور حول النظام العالمي الجديد، يقدّم المؤلّف دراسة تفصيلية لنتائج قياسات واستطلاعات الرأي العام لشرائح عُمرية مختلفة من شتّى الجنسيات من السكّان (مواطنين وغير مواطنين) في دولة الإمارات العربية المتحدة حول مدى إدراك الأطر القِيمية والأخلاقية السائدة في النظام العالمي الجديد، وذلك بهدف التعرّف على وجهة نظر الجمهور في طبيعة النظام العالمي الجديد وآليات عمله، ومدى اتساقها مع واقع هذا النظام. فقد برزت أهمية الفرد وتأثيره في النظام العالمي الجديد، في ظل الاهتمام بحقوقه والحفاظ على حريّاته والتمسك باستقلاله بعد أن تمّ اختزال جغرافيا الزمان والمكان عبر الفضاء الإلكتروني، الذي ربط بين الأفراد والمجتمعات والشعوب.

وفي الفصل السادس: النظام العالمي الجديد والتغيّرات البنيوية المتوقعة وتأثيراتها، درس المؤلّف التأثيرات الاستراتيجية المتوقعة على دول العالم في ظل التغيّرات البنيوية المتوقعة في النظام العالمي الجديد، حيث تتأثر كلّ دولة وفق مكانتها ودورها داخل هذا النظام، وما يتوافر لها من إمكانات وقدرات ومصادر ثروة تُسهم بها في ذلك النظام، والذي هو، حسب المؤلّف، ليس إلاّ مجموعة الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجغرافية التي تحكم علاقات المجتمع العالمي، بكلّ مفرداته من دول وشعوب وأفراد ومنظمات للمجتمع المدني.

ومن أهم التغيّرات البنيوية المتوقعة في النظام العالمي الجديد وتأثيراتها أن العالم سوف يصبح قسمين: القسم الأول سيكون حليفاً أو تابعاً للقطب الأوحد أو محايداً، والقسم الآخر سيكون معادلاً مضاداً، يحاول مجاراة النسق المتسارع للقطب الأوحد؛ لكن علاقات الاعتماد المتبادل بين شتّى وحدات القسمين قد تلعب دوراً حاسماً في تحديد طبيعة العلاقات وأنماط التفاعل داخل النظام العالمي الجديد، الذي يتّسم بسمات عديدة مميّزة، ومنها الاعتماد على اقتصاد السوق وقِيم الديمقراطية والليبرالية السياسية، وتمكين الأفراد من ممارسة حريّاتهم والحصول على حقوقهم والمشاركة في صنع القرارات المؤثرة فيهم، ودعم التعدديّة السياسية، والسيادة الشعبية، وعودة التكتّلات الاقتصادية وبروز الدور السياسي لصناديق الثروة السيادية.

وسيصبح البُعد الاقتصادي أكثر تأثيراً في تشكيل العلاقات والسياسات داخل النظام من البُعد السياسي، وستحافظ القوّة العسكرية الأمريكية على تفوّقها على مستوى التوازن الاستراتيجي في النظام العالمي الجديد، والتمسك باستراتيجية عسكرية استباقية ضد مصادر التهديد الرئيسية. وقد يزداد انتشار التسلّح النووي في العالم، ما سيزيد من مساحة عدم الاستقرار العالمي. كما من المتوقع تنامي دور الدين والنزعة القومية والمذهبية والطائفية نتيجة التداخل المتزايد بين المجتمعات مقابل تقصير بعض الدول في القيام بوظائفها الاجتماعية والاقتصادية.

أما أهم آليات التأثير الاستراتيجي المحتملة للنظام العالمي الجديد، فهي: القوّة الصلبة، والقوّة الناعمة، والقوّة الذكية، والمؤسسات والهيئات الدولية، ووسائل الإعلام، وشبكة الإنترنت، وإقامة تكتّلات وتحالفات جديدة، والدبلوماسية الموازية، والحرب بالوكالة، والتدخل العسكري المباشر وغير المباشر..

في الفصل السابع: النظام العالمي الجديد: رؤية مستقبلية، استشراف للنظام العالمي المقبل ومحدّداته وسماته، وذلك وفق رؤية مستقبلية للمدى المتوسط تنطلق من الأوضاع الراهنة، وكل العوامل المؤثرة في تغيّرها.

ومن هنا يرى المؤلّف أن أهم ملامح مستقبل النظام العالمي الجديد، قيام نظام يميل إلى القطبيّة الأحاديّة، وتزايد الاعتماد على التقنيّة والنظم غير التقليدية للإنتاج والتواصل، بالاستفادة من الهندسة الوراثية والاستنساخ وتقنيّة النانو، وتنامي الضغوط على النظام الرأسمالي من أجل تطويره.

وأخيراً، تُسلّط الخاتمة الضوء على العديد من الملاحظات والاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من فصول الكتاب، وأهمّها أن العالم يتّجه إلى موجات من التنافس الشرس بين الاقتصادات؛ فلم يعد الاندماج في الاقتصاد العالمي خياراً انتقائياً يمكن الفكاك منه، بل بات التأقلم مع العولمة في شتّى تجلّياتها ضرورة تزداد درجة إلحاحها بمرور السنوات.

كما تشير الخاتمة إلى أن عولمة القضايا والشؤون الدولية لم تتحقق فقط كنتيجة مباشرة لمصالح فئة معيّنة من الدول، بل إن هناك دافعاً أساسياً موازياً يتمثّل في بروز تحديات عالمية تتطلب تعاوناً دولياً فاعلاً في مواجهتها؛ وتؤكد أيضاً أن الجدل البحثي الدائر حول ماهيّة النظام العالمي الجديد وحقيقة وجوده لا يمثّل شيئاً على أرض الواقع في مواجهة حقيقة الهيمنة الأمريكية على مفاصل هذا النظام وتسليم القوى الكبرى بالدور الأمريكي في هذا الإطار ضمناً أو صراحة.

لكن يرى المؤلّف أنه من السابق لأوانه القول إن صراع الإرادات الدائر بين القوّة العظمى وحلفائها من جهة، والقوى الكبرى من جهة ثانية، سيُفرز إرهاصات نظام عالمي متعدد الأقطاب أو ظهور صيغة لتقاسم القوة والنفوذ بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض القوى الكبرى، ولا سيما أن الحلول العسكرية التي أسهمت في تراجع التأثير الأمريكي بعد ما حدث في كلّ من أفغانستان والعراق، هي ذاتها كانت محور الجدل في الأزمة السورية؛ ما يعني ضمناً أن أي توجّه بخلاف عسكرة الأزمات من شأنه أن يصبّ في سلّة الجانب الأمريكي أيضاً، الذي بات يعتمد القوّة الذكيّة (الجمع بين القوّة الخشنة والقوّة الناعمة في مرحلة معيّنة) لتحقيق مصالحه الاستراتيجية، ولم تعد القوّة الخشنة سبيلاً وحيداً لذلك.

إلّا أن الترتيب الهرمي للنظام العالمي الجديد، والمتمثل في هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على قمّة هذا النظام وعدم استطاعة الصين اللحاق بها، وخلال المدى المنظور على أقل التقديرات، يمكن أن يتأثّر بثلاثة أمور، وفقاً لما يراه عدد من الباحثين، وهي: استمرار الصين في تحقيق النمو الاقتصادي المتميز مع تفادي أي أزمات مالية واقتصادية رئيسية، ونجاح الصين في اللحاق بالولايات المتحدة في سباق الابتكارات والتقنيّات المتقدمة، بحيث تتحوّل من مرحلة التقليد إلى مرحلة الابتكار؛ وأخيراً، فشل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تدعيم علاقاتهما الاقتصادية والتجارية والمالية وفي استبعاد الصين من هذا الإطار التعاوني الدولي.

-المؤلّف: جمال سند السويدي.

-الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.

-الطبعة الأولى: 2014.

 


الكاتب:

حسن صعب

كاتب وباحث سياسي



وسوم مرتبطة

دول ومناطق


روزنامة المحور