يشكل مفهوم المذهبية الدينية Sectarianism توصيفاً لانتماء الفرد لـ"ثقافة فرعية دينية" في إطار الانتماء إلى دين معيّن، وهو ما يترتب عليه "هوية" ثقافية وسياسية واجتماعية تميزه عن غيره داخل الجماعة الدينية الكبرى نفسها، وتكاد هذه الظاهرة، المذهبية، أن تشكل قاسماً مشتركاً بين كافة الأديان، بل إن المذهبية الدينية الواحدة قد تتجزأ إلى هويات فرعية، وقد تتصارع أحياناً فيما بينها وبضراوة أشد من صراعها مع من هو خارجها، ويميل قدر من الباحثين إلى حصر أسباب الحروب الداخلية في الأديان، بين المذاهب، في عاملين هما: تباين المنظومة المعرفية في فهم النص الديني بحكم المستوى الفكري، وبحكم الإرث الثقافي الموروث قبل الانتماء الجمعي لدين معين من ناحية، أو نتيجة توظيف النخب في كل مذهب للتباين لتوسيع دائرة نفوذ هذه النخب استناداً لمتغيرات داخلية، سياسية أو اجتماعية، في المجتمع الديني أو متغيرات خارجية خصوصاً من المجتمعات المغايرة من ناحية ثانية. تطرح هذه المادة عنوان "المذهبية الدينية في النزاعات الدولية: حالة محور المقاومة" ويمكنكم تحميلها بشكل كامل في أسفل المقتطف الذي يتحدث عن طوفان الأقصى بين المذهبية الدينية والرؤية الاستراتيجية للصراع.
طوفان الأقصى بين المذهبية الدينية والرؤية الاستراتيجية للصراع
ترأس الرئيس الراحل لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وهو من خلفية إخوان مسلمين السنّة، أول وفد رسمي أجنبي يزور طهران بعد انتصار الثورة في 17/2/1979، وشكَّل قطع العلاقات الإيرانية الإسرائيلية وإغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران وتحويلها لسفارة فلسطينية في 18/2/1979، أي بعد أسبوع من انتصار الثورة وتوليها السلطة في إيران وبعد يوم واحد من زيارة عرفات، مؤشرَ تَحَولٍ عميق في العلاقة الإسرائيلية الإيرانية، وهو التوجه الذي غذَّته معارضة إيران لأي تطبيع عربي للعلاقة مع "إسرائيل"، مما دفع بعض الدول العربية للتواري خلف ستار المذهبية.
ولم يكن موقف إيران منفصلاً عن علاقات سابقة بين قوى الثورة الإيرانية وبين التنظيمات الفلسطينية قبل انتصار الثورة الإيرانية، ناهيك عن العلاقة بين مصر الناصرية والمعارضة الإيرانية في فترة الشاهShah خصوصاً مع ثورة محمد مصدق Mohammad Mosaddegh وغيرها، ولم يكن البعد المذهبي ذا تأثير في مضامين هذه العلاقات، بل كان التقارب السياسي بعيداً عن الانتماء المذهبي.
ومع تنامي التيار الديني في المقاومة الفلسطينية بعد انتصار الثورة الإيرانية، عملت إيران على دعم هذا التيار لا سيّما بعد قيام الانتفاضة الأولى، وشكلت دعوة إيران لوفد من حماس للمشاركة في مؤتمر لدعم القضية الفلسطينية في طهران سنة 1990 بداية لتطور العلاقات التي شابها بعض التوتر في فترة الربيع العربي على خلفية الأزمة السورية، كما أن العلاقة بين إيران وحركة الجهاد الإسلامي تطورت بفعل التخلي العربي عن المساندة للمقاومة الفلسطينية كما يقول رئيس حركة الجهاد.
ما سبق يستوجب من الطرفين العربي والإيراني فصل الخلاف الفقهي عن المشترك السياسي، وابتداع معادلة أخلاقية لإدارة الخلاف الفقهي تكون مساندة للمشترك السياسي بين الطرفين.
من جانب آخر، لا بدّ من الإشارة إلى أن إيران اعتمدت استراتيجية محددة حددتها وثيقة "رؤية 2025" والتي شارك في صياغتها عدد كبير من الخبراء والمؤسسات الإيرانية سنة 2003، وتستهدف الرؤية تحقيق إيران مكانة إقليمية متقدمة في غرب آسيا استناداً للتطور العلمي والاقتصادي مع اتساق الرؤية مع النص الدستوري، منع النفوذ الأجنبي وتصفية الإمبريالية، فقرة 5 المادة 3، واعتبار الأمة الإسلامية أمة واحدة المادة 11، وهو ما يعني أن المقومات المركزية للسياسة الخارجية هي مقومات تقنية واقتصادية من جانب، ومقومات عقائدية جامعة لا مذهبية، وهي مقومات استقرت تدريجياً في التوجه الإيراني الخارجي بعد انتهاء مرحلة الحمى الثورية في بداية الثورة.
أما العلاقة الصراعية لإيران مع "إسرائيل" فتستند إلى تناقضات جوهرية أسهمت في التقارب بين الجناح الديني في التنظيمات الفلسطينية وبين إيران بعيداً عن النزعة المذهبية:
- الإرث التاريخي لصورة اليهودي السلبية في الذهن الإسلامي، وهي صورة مشتركة بين السنة والشيعة.
- اعتبار "إسرائيل" قوة تَحْولُ دون تحقيق إيران المكانة الإقليمية المنشودة، وهو أمر يتسق مع اعتبار الحركات الفلسطينية "إسرائيل" قوة استعمارية طارئة على المنطقة.
- العلاقة الأمريكية الإسرائيلية التي تعدّها إيران مصدر تهديد لطموحها الإقليمي، واعتبار الحركات الفلسطينية الدعم الأمريكي لـ"إسرائيل" حاجزاً أساسياً يحول دون التحرر الفلسطيني.
- إن القلق الإيراني من تناغم دول التطبيع العربي مع الولايات المتحدة و"إسرائيل" من ناحية، ومعاداة هذه الأنظمة للإرادة الشعبية العربية بحق التيار الإسلامي في التمثيل السياسي "الفعلي" في السلطة من ناحية ثانية، أوجد فرصة لتقارب المتضرريّن من التقارب الإسرائيلي العربي.
واتساقاً مع ما سبق، فليس من مصلحة إيران إثارة البعد المذهبي، وقد دلّت دراسة لنا استخدمنا فيها منهج تحليل المضمون لعيّنة من خطابات المرشد الإيراني علي خامنئي لمدة عام، 12 خطاباً، ولافتتاحيات صحيفتين إيرانيتين أحدهما بالإنجليزية، وهي طهران تايمز Tehran Times، وأخرى بالعربية، صحيفة الوفاق، خلال ثلاث سنوات على النتائج التالية:
- خطابات خامنئي: تكرر مفهوم الوحدة الإسلامية في هذه الخطابات بمعدل 76.3% في الخطابات، مقابل 19.8% للبعد المذهبي، و3.7% للثنائية القومية، عرب وفرس.
- تكرر موضوع فلسطين في افتتاحيات صحيفة طهران تايمز بنسبة 61.9%، بينما ظهر مفهوم سنة/ شيعة بمعدل 32%، وعرب/ فرس بمعدل 4.5%، أما في صحيفة الوفاق فكانت النسبة لتكرار الموضوع الفلسطيني 77.9%، بينما كان التكرار للبعد المذهبي 4.5%، وللبعد القومي عرب/ فرس 7.1%.
فإذا أضفنا لذلك مؤشر عدد المظاهرات المساندة لفلسطين بعد انطلاق طوفان الأقصى على المستوى العالمي، سنجد النتائج التالية:
- تحتل إيران المرتبة الخامسة عالمياً في عدد المظاهرات التي قامت فيها لمساندة طوفان الأقصى، حيث بلغت حتى نهاية آب/ أغسطس ما مجموعه 1,032 مظاهرة، وهي تحتل المرتبة الرابعة في العالم الإسلامي بعد كل من اليمن والمغرب وتركيا.
- تطابق تصويت إيران مع مطالب المقاومة في التصويت على جميع مشاريع أو قرارات أو طلبات تعديل على صياغات القرارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة United Nations General Assembly بنسبة 100%، عارضت خلال الفترة من 27/10/2023 إلى 12/12/2023 ما مجموعه ثلاثة مشاريع قرارات أو تعديلات، وأيدت قراراً واحداً، وامتنعت عن التصويت عن مشروع قرار واحد.
- يؤكد قادة حركات المقاومة والدراسات الأكاديمية والتقارير الإعلامية المختلفة أن إيران تشكل الحليف والداعم المادي والمعنوي الأكثر أهمية للمقاومة الفلسطينية، وخصوصاً لجناحها الديني "السني"، كما أن العديد من الحركات السياسية الدينية العربية في دول عربية متعددة، أو من النخب السياسية الدينية على صلة وثيقة مع إيران.
الخلاصة:
لعل التمعن في إدارة "إسرائيل" لشبكة علاقاتها الدولية يستحق التأمل، فهي دولة لها علاقات وثيقة مع أغلب العالم المسيحي، بمذاهبه العديدة، كما أنها أحد مصادر التسليح الأولى للهند، الهندوسية، والفلبين، الكاثوليكية، وأذربيجان، الشيعية، بل إن مبيعاتها العسكرية لدول اتفاقات أبراهام العربية ارتفعت خلال الفترة 2021–2023 بمعدل 17%، وكانت قبل الطوفان الشريك التجاري الأول في الشرق الأوسط لتركيا، السنية، وتحظى بعلاقات متقدمة مع اليابان، الشنتوية/ البوذية، وهو ما يشير إلى أن المتغير الرئيسي في إدارة العلاقات الدولية ليس البعد "المذهبي" بل المنظور الواقعي القائم على "المصلحة القومية"، وتوظيف البعد المذهبي سياسياً لصالح تعظيم مصلحتها القومية وتضييق المجال الحيوي لحركة خصومها وخصوصاً إيران.
إن الموقف الرسمي العربي، في أغلبيته، من إيران ليس إلا توظيفاً "مذهبياً" لغرض سياسي يتمحور حول صدّ أي قوى تغيير للأنظمة السياسية، خصوصاً الوراثية منها والتي ترى أن أمن الأنظمة يعلو على أولوية أمن المجتمع وأمن الدولة. وهو ما يستوجب بناء العلاقات العربية الإيرانية وخصوصاً من جانب محور المقاومة على أساس التحوّل العقلاني التدريجي نحو المنظور غير الصفري، وتغليب المشترك على المتعارض في إدارة هذه العلاقات، على ألا تمسّ هذه القاعدة الغاية الاستراتيجية، التحرر من الاستعمار الاستيطاني.
يمكنكم تحميل الدراسة من هنا
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: أ. د. وليد عبد الحي