الثلاثاء 07 تشرين ثاني , 2023 03:29

ما لا يطلبه الجمهور

جمهور المقاومة

بدأت ردود الفعل على الخطاب قبله بأيام، وعملت أذرع أمريكية بشكل مسبق على إفراغه باللجوء الى حيلة تبدو متناقضة، من ناحية تم تحريك حملة لبنانية الشكل تطالب بعدم دخول لبنان الى الحرب تماشياً مع الرسالة التي جاءت بها جيرالد فورد، والثانية معاكسة ترفع التوقعات، لا بل تشجع على ضرورة الدخول في الحرب الكبرى...الآن وليس غداً، وهذه الثانية أكثر خبثاً، لأن هدفها احتواء وتسخيف أي موقف أقل من الحرب الكبرى. هكذا وقع جمهور المقاومة بين هاتين النارين، اضيف اليها نار الشوق للسيد، ونار الغضب على جرائم الاحتلال، ونار الكرامة التي تتوق للاقتصاص من العدو وردعه.

وأطل الأمين العام أخيراً، وأدار الصراع ورسم سلماً للتصعيد وللتهدئة، كما بدأ بعد مباركة شهادة المقاومين اللذين ارتقوا على الجبهة اللبنانية بالعنوان الفلسطيني، وفي هذا الجزء أكد على كلام حركة حماس حول تفاصيل الطوفان ومقدماته، واستطاع بإيجاز سد أبواب كثيرة للفتن، وأبواب أخرى للتخاذل. كما أن الأهداف التي رسمها السيد للمرحلة القادمة أظهرت الحرص الشديد على شعبنا في غزة وفي لبنان، بالرغم من سردية "الخذلان" التي روّجت لها أطراف معادية للمقاومة بشكل مبدئي. والأغلب أنه كان يعلم أن هناك من سيصطاد في المياه العكرة ويكرر نغمة "يا وحدنا" التي جرت الفلسطينيين سابقاً الى ويلات اوسلو، وكان بإمكانه أن يكسب شعبية اسطورية في الشارع العربي كله، الا أنه فتح باباً للتهدئة، لو لم يفتحه لكان قد فتح باباً أكبر للعدو لأن يبطش ويدمر بجنون أكبر حال شعوره بأنه قد حشر بالزاوية ولا مجال لديه الا التوحش المطلق.

رفع الخطاب السقف عالياً بالتوجه الى رأس الحية مباشرة، أمريكا الشيطان الأكبر، واستثمر في الخلاف المتصاعد بين كيان العدو والأمريكي في إدارة الحرب وتحديد أهدافها، وعلاوة على تهديد قوى المحور للمصالح الأمريكية، هدد السيد الأساطيل الأمريكية التي جاءت لطمأنة العدو الصهيوني من جبهة الشمال، فطمأن الجميع بأن المقاومة قد أعدّت لها العدة.

محللون كثر علقوا على الخطاب التاريخي والاستراتيجي، ولكن من أهم ما قيل عن استثنائية السيد وخطورته بأنه لم ينجر الى الشعبوية. هنا علامة فارقة لافتة، هناك قادة كثر يخالفون المزاج العام بالكذب عليه. وهناك من يضحون بالمصالح القومية لاكتساب الشعبية. أندر نموذج هو الذي يمثله الحزب وأمينه العام، مصارحة الجماهير بغير ما يحبون. وبالمقابل أن يلتزم الجمهور بكل حب وثقة بخيارات لا تعجبه. هنا علينا قراءة هذه الظاهرة الفريدة للحزب بمنظور تاريخي، فتجنب الخطاب للشعبوية ليس حالة استثنائية لخطاب الجمعة الماضية.

الهدف واضح ومحدد ودقيق

قبل الخوض في التاريخ علينا إلقاء الضوء على الفكر وراء المسلك والمسار الاستثنائي لهذه التجربة الفريدة. بالنظر الى تاريخ الحزب محلياً وإقليمياً سنجد سمة ثابتة، وهي أنه غير ذاتي، بمعنى أنه لا يعمل بهدف كسب النفوذ والشعبية، انما بوصلته الأساس ذات الهدف الواضح والمحدد والدقيق وهي التحرير، تحرير فلسطين وما يتطلبه ذلك من تحرير وتدمير للمشاريع الأمريكية الصهيونية في المنطقة. وهو يسير نحو هذا الهدف بثبات بالرغم من كل الألغام التي تزرع في الطريق. هذا بالتالي يفسر قدرته على احتضان الخصوم واستيعاب الخلافات وحتى الغفران بعيداً عن النفعية والبراغماتية السياسية والتلون وبالتالي ضياع البوصلة. هذا الحزب هو حركة مقاومة لها ذراع سياسي وليس حركة سياسية لها ذراع مقاومة.

" قد كان شتم أُمّي، وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي، ثمّ قتلته في الله " من قصة قتال الامام علي لعمرو بن ود العامري يمكن فهم معنى الإخلاص والوفاء للهدف النهائي وما يتطلبه من بُعد عن الذاتية في مسلك الحزب وبالتالي يلقي الضوء على سمة ثانية في مسيرته، وهي نظرته للمحيط، محيطه اللبناني والإقليمي: ننجو سوية أو نموت فرادى. هذا يفسر مد يده للآخرين باستمرار، الغفران والتسامح، والترفع عن الأذية، وبالتالي بناء التحالفات والسعي المستمر لتوحيد الصفوف وتهميش الخلافات داخل لبنان وفي الإقليم، على مستوى الدول والجماعات، الأمر الذي يجعله وطنياً حتى النخاع أكثر من أي حزب أو حركة في الداخل، وفائق القومية بدوره المحوري في بناء محور مقاوم استراتيجي في عدد من الدول العربية، وإذا نظرنا الى الصورة الأكبر للصراع في المنطقة ضد أمريكا وتوجهه شرقاً وانحيازه للشعوب المضطهدة فمن المؤكد أن الحزب يعمل كحركة تحرر أممية.

عشق وانضباط

ألغام وأفخاخ كثيرة وضعت في الدرب منذ البدايات، ولكن لنبدأ بالانتصار الكبير عام 2000 حين طلب الأمين العام من بيئته عدم التعرض للعملاء ولو حتى بكف، وترك الموضوع للقضاء. لا يمكننا تخيل ضبط النفس المهول المطلوب ممن تعرض للتعذيب والتنكيل على يد العملاء كي لا يتعرض لهم بعد الانتصار ودحر المحتل. من المؤكد أنه كأسٌ مرٌ الا أن بيئة التزمت به بانضباط ولو على كره. ولليوم نرى تبعات هذا الخيار على لبنان ككل ولتفرغ الحزب لمراكمة القوة والقدرة العسكرية للمقاومة التي بدورها أثمرت نصر تموز، وهنا مرة أخرى أهدى الأمين العام النصر للجميع وجعل منهم شركاء فيه بالرغم من الدور المتواطئ المعروف لأطراف لبنانية عديدة.

وعندما قرر الحزب الانخراط للدفاع عن سوريا، دفع ثمناً باهظاً تبدى بتشويه صورته شعبياً على امتداد العالم العربي، وحتى على مستوى بيئته المباشرة كان هناك جهد مضني لإقناع شرائح واسعة بضرورة هذا القرار المصيري. ومرة أخرى أثبت هذا القرار صوابيته التاريخية، لا بل أثبت أنه كان مفصلاً وجودياً للمنطقة وشعوبها ككل، حتى للأطراف المعادية للمقاومة والمحور داخل وخارج لبنان.

واذا نظرنا الى الماضي القريب، كان الحزب تحت ضغط كبير من بيئته المباشرة وجزء من حلفائه لمحاربة الفساد بشكل صدامي يهدد السلم الأهلي في لبنان، مع ذلك تشبث الحزب بخيار محاربة الفساد تحت سقف مؤسسات الدولة والقضاء، بالرغم من خرابهما، ولكن الحكمة التي تمسك بها  الحزب أنه هذا المسار على ضآلة أفقه أفضل الشرور المتمثلة بالفوضى وانفراط عقد لبنان الاجتماعي بكل تعقيداته. تفاقمت الضغوط مع 17 تشرين، وشيطنة الحزب وبيئته وتحميلهم كل الذنوب المرتكبة بحق لبنان، ترافق ذلك مع استفزاز وضغط وتحريض يهدف الى افتعال صراع أهلي الى الحد الذي استخدم فيه أعداء المقاومة العنف (من حرق المحلات الى القتل في حادثة خلدة) لاستدراجها الى صراع أهلي يستنزفها داخلياً، هنا أيضاً انضبطت البيئة لخيار العض على الجرح والسيطرة على الاحتقان والغضب، وتكرر الأمر بشكل أكثر استفزازا بعد انفجار المرفأ ومجزرة الطيونة. ومرة أخرى اثبتت البصيرة وراء الصبر الاستراتيجي وتجنب الألغام أنها أسلم الخيارات، بتفويت الفرصة على العدو الأمريكي ومشاريعه.

هذه التجارب وغيرها الكثير جبلت العلاقة الفريدة بين الحزب ممثلاً بأمينه العام وبيئته الحاضنة والجمهور الأوسع. الثقة المطلقة بحكمة القيادة وبصيرتها، والأهم من ذلك وفاء هذه القيادة وحرصها على السلم الأهلي داخل وخارج لبنان، وحرصها على حياة وكرامة الناس...جميعهم. كما أن إخلاص القيادة للهدف النهائي بإزالة إسرائيل من الوجود، يجعل من أي خلاف في الرأي مع القيادة مسألة هامشية، بمعنى أنك تلتزم بقراراته بانضباط عالي عن طيب خاطر حتى لو تقتنع أو لم تحبذ هذا الخيار أو ذاك لأنك مطمئن لمسيرة راكمت الانتصارات وهزمت مشاريع دولية تستهدف مشروع التحرر الذي غير وسيغير وجه العالم. أما مسألة العشق بين الجمهور وأمينه العام، فهي مسألة تعود لسماته الشخصية، حتى أن أحد أعدائه وصفه مرة بأنه "ما فيك الا ما تحبه". بالرغم من كونه قائد سياسي وعسكري يقود صراعاً وجودياً طاحناً يقارع فيه شياطين الارض، فهو لطيف ودود وخفيف الظل والأهم من كل ذلك قريب من الناس البسيطة، هو بمثابة الاب والاخ والابن لكل بحسب عمره.


الكاتب: رند وهبة




روزنامة المحور