حرص اليمن على اتخاذ الخطوات الأكثر تأثيراً على مجريات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فهو بالتوازي مع إطلاق الصواريخ والمسيّرات نحو أهداف في إيلات، والتي تركت بصمتها أيضاً على مستوطنات تلك البقعة، يضيّق الخناق أكثر على الجبهة الداخلية، ويُعرّيها من أسباب الصمود، مع منع الإيرادات البحرية. ولجأ إلى فرض معادلة جديدة: الحصار مقابل الحصار.
كيف تُترجَم هذه الخطوة؟
انتقلت القوات المسلحة اليمنية إلى مرحلة أخرى من التصعيد، في خطوة تتلاءم مع ميدان الحرب على قطاع غزة، وإصرار الكيان على فرض حصار محكم توازياً مع ارتكاب المجازر الممنهجة التي تستهدف أولاً، المستشفيات والمدارس والمساجد، ومختلف الأماكن التي تُعد ملجأً آمناً للمدنيين وفق القانون الدولي الإنساني.
يُقدّر حجم التجارة البحرية الإسرائيلية حوالي 400 مليار شيكل سنوياً، أي أكثر من 96 مليار دولار. يستحوذ البحر الأحمر على 30% منها. هذه الأرقام التي كان يضعها كيان الاحتلال في مقدمة الدلائل على علاقاته الواسعة مع محيطه، أصبحت اليوم أحد أهم الأسباب التي تدفع المسؤولين الإسرائيليين لإنهاء الحرب بأسرع وقت، بعد تأكيد اليمن عزمه فرض "حصار بحري" على الكيان، والذي بدأ بتطبيقه بالفعل وباعترافات إسرائيلية-غربية.
أكد المدير العام لميناء إيلات، جدعون غولبر، أن "تهديد اليمن للسفن المتجهة إلى إسرائيل "عطل 80٪ إلى 85٪ من أرباح الميناء". مضيفاً أن "تغيير مسار الملاحة البحرية سيرفع أسعار المنتجات المستوردة بنسبة تقدر بنحو 3٪، ما سيزيد العبء المالي على الإسرائيليين بنحو عشرة مليارات ونصف المليار شيكل، أي نحو 3 مليارات دولار".
وحذر غولبر مما أسماه "التهديد اليمني للطرق البحرية في البحر الأحمر" وكشف عن أن هذه الخطوات كبّدت الميناء خسائر باهظة، وحوالي 14 ألف سيارة منذ منتصف الشهر الماضي وحتى اليوم".
ويعبّر غولبر عن قلقه من أن يؤدي إغلاق باب المندب أمام حركة السفن التجارية إلى الكيان عبر البحر الأحمر إلى ميناء إيلات أو عبر قناة السويس إلى إطالة أمد سفر سفن الشحن إلى حوالي خمسة أسابيع، حيث سيتعين عليها الالتفاف حول القارة الأفريقية في رأس الرجاء الصالح عبر مضيق جبل طارق إلى البحر الأبيض المتوسط".
هذه الخطوة ستنتج، بالضرورة، تأخراً في موعد وصول البضائع إلى إسرائيل وارتفاعاً في أسعارها، كذلك أسعار سندات التأمين.
تهديد جديّ للأمن القومي الإسرائيلي
من جهته، شدد القائد السابق لبحرية الاحتلال إليعازر ماروم، على أنه يجب عدم الاستهانة بحركة أنصار الله اليمنية، داعياً إلى التعامل معها بجدية. مشيراً إلى أن "صنعاء لم تحدد ما الذي ستفعله لمنع السفن من المرور عبر البحار أو كيف ستفعل ذلك، وهذا ما يدفع الغالبية العظمى من السفن إلى عدم المخاطرة، والذهاب إلى الأرصفة الإسرائيلية".
ويشرح كبير الاقتصاديين في شركة "بي دي أو للاستشارات"، ذر تشن هرتسوغ، مفاعيل العمليات العسكرية اليمنية. مؤكداً على أن "التهديد اليمني للشحن البحري إلى "إسرائيل" يكبّدنا ثمناً اقتصاديّاً باهظاً في تكاليف المعيشة وسلاسل التوريد". موضحاً أن هذا التهديد يؤثر على 3 مستويات:
أولاً، زيادة تكاليف التأمين على النقل البحري إلى "إسرائيل" بسبب المخاطر المتزايدة. ثانياً، التحول المحتمل في طرق الشحن من الشرق إلى الكيان قد يتطلب من السفن الإبحار حول إفريقيا بدلاً من المرور عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر. هذا من شأنه أن يطيل وقت الإبحار لمدة 30 يوماً، مما يؤدي إلى زيادة تكاليف الشحن البحري. المستوى الثالث يتجلّى في تجنب شركات الشحن الأجنبية تماماً، للموانئ الإسرائيلية للتخفيف من المخاطر أو بسبب قيود شركة التأمين.
ما هي الخيارات الإسرائيلية الأميركية المطروحة للرد؟
لا ينحصر مأزق الولايات المتحدة و"إسرائيل" بعجز الأخيرة عن تحقيق أي انجاز ميداني او سياسي في القطاع بعد 65 يوماً من الحرب، بل باضطرار الجانبين -مُكرهين- بالتزام سقف معين من التصعيد، لحرصهم الشديد على عدم اتساع رقعة الحرب لتشمل جبهات أخرى لا تقل خطورة. وهذا ما يفسر عدم قيام واشنطن أو تل أبيب بالرد "المتناسب" مع الاستهداف الذي تتعرض له القواعد الأميركية في العراق وسوريا، أو قطع الطريق أمام السفن في البحر الأحمر، بل "احتفاظهما بحق الرد في الوقت المناسب".
يعترف السفير الأميركي السابق لدى اليمن، جيرالد فايرستاين، والذي شغل أيضاً منصب النائب الرئيسي لمساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، أن "لدى الحوثيين القدرة على تشكيل تهديد أمني كبير في حالة توسع الصراع إلى ما وراء غزة". ويضيف بأنه "إذا صعد الحوثيون حملتهم ضد أهداف سعودية أو أهداف في البحر الأحمر مع استمرار الصراع، فإن احتمال التدخل المباشر من قبل الولايات المتحدة ضد أهداف الحوثيين سوف يتوسع".
لا يعد طلب التدخل الأميركي المباشر في الرد على العمليات العسكرية اليمنية جديداً. لكن عدم تنفيذه إلى اليوم، يدل على عدد من الحقائق:
أولاً، عدم الرغبة الأميركية في توسيع رقعة الحرب. ولذلك ترد على الاستهداف او احتجاز السفن بسياسة "ضبط النفس".
ثانياً، الاعتراف الأميركي غير المباشر بعدم جدوى العمل العسكري ضد صنعاء. اذ ان البلد الذي يعيش تحت وطأة الحرب طيلة 8 سنوات، حازم بالمضي بقراره. من ناحية أخرى، لو امتلكت واشنطن معلومات استخباراتية دقيقة لإحداثيات التصنيع العسكري اليمني أو مخازن الأسلحة، للجأت إلى استهدافه منذ عام 2017 وانتصرت مع حلفائها في الحرب.
ثالثاً، الإقرار الأميركي بقدرة القوات المسلحة اليمنية على التصعيد. ولو أن واشنطن تعلم بأن تدخل عسكري موضعي قد يحد من قدرة صنعاء على تنفيذ تهديدها، لفعلت أيضاً.
كما يتجاوز تأثير هذه العمليات على المستوى الاقتصادي الآني، إلى الخسائر المرتبة على ذلك. اذ يعد الاستقرار الأمني أحد أهم العناصر التي تلعب دوراً في جذب المستثمرين وكبار رجال الأعمال في العالم. وبالتالي، فإن مرحلة ما بعد الحرب على غزة، التي كشفت عن هشاشة النظام الأمني الإسرائيلي، ستكون طويلة جداً أمام الكيان لإعادة بناء الثقة.