يبدو أن جملة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله "إذا بتوسعوا منوسع"، كان لها صدى أكبر بكثير مما يتخيله أحد، وأن إعداد القوة والرباط الذي أعدته المقاومة الإسلامية تأثيره يتجاوز الأعداء إلى آخرين نعلم عنهم بسبب ما يتداولونه في صفحات الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي. والكثيرين يعدون هذه الجملة التي قالها السيد نصر الله أحد أهم أسس استراتيجيا حزب الله. وما يمكننا قراءته في المرحلة الحالية، واعتماداً على تطور المراحل المتتالية من الإنحراط في المعركة، فإن الحزب انتقل من إسناد غزة إلى الانخراط لتحقيق توازن رعب استراتيجي بعد أن حقق منذ العام 2006 توازن الردع. والأمر الآخر، أن المقاومات المشاركة في المعركة هي في موقع الفعل وليس في رد الفعل فقط، وتظهر على أنها على تنسيق تام وتؤسس للحرب الكبرى التي تحدث عنها السيد نصر الله علناً منذ عامين تقريباً.
يشكل العمل المتناسق في انخراط محتلف الأطراف بعد عملية طوفان الأقصى قاعدة متماسكة وأساساً في عمل المقاومات العربية في اليمن والعراق وحتى في سورية وإن كان في الأخيرة من وراء الكواليس، وهو ما جعل عمل المقاومات قادر على التطور، فمن قصف المواقع اللأميركية استأنفت المقاومة في العراق العزيز ضرب ميناء إيلات في الأسبوع الماضي، ولا نستغرب إذا تطور الأمر فيتم تعزيز الضربات في النقب، خاصة بعد افتضاح أهمية قواعد النقب العسكرية والإستخباراتية الأميركية التي قصفتها المسيرات والصواريخ البالستية الإيرانية في الرابع عشر من نيسان / إبريل. وما يقوم به اليمن في البحر الأحمر من بناء الخبرات المميزة في تقنياته القتالية البحرية من خلال مهاجمة السفن البريطانية والأميركية في البحرين الأحمر والعربي لا يمكن الإستهانة بها، وأكد السيد الحوثي في خطابه يوم الاربعاء أن اليمن يستهدف سفينة كل يومين في البحرين العربي والأحمر والمحيط الهندي، وهو معدل عال جداً. والجدير ذكره هنا، أن بريطانيا وأميركا مجتمعتان تشكلان أكبر قوة بحرية عالمية وأكبر تحالف بحري، ولكن علّم اليمن القوتين أن الأمر لا يتعلق بالأحجام بل بالإرادة والتقنيات والخطط الذكية لإدارة القتال.
بالتأكيد الضربة الإيرانية للكيان فرضت قواعد اشتباك جديدة. يمكن فهم ذلك، من خلال المعلومات العسكرية التي تناولها المحللون العسكريون بتدقيق على القنوات الفضائية المحلية والعالمية والشبكة العنكبوتية، والتي تشرح كيف أن التعامل خلال السنوات الماضية وخلال الضربة مع المنظومة الدفاعية الصهيونية تم تحليلها بشكل منطقي وكشف الثغرات في داخل الكيان وعلى حدوده، وخاصة مع عجز الرادارات رصد الصواريخ أو المسيرات، وخاصة تلك المسيرات ذات نظام التوجيه الذاتي وغير المرتبطة بالأقمار الإصطناعية. ومن أهم ما كشفته العملية الإيرانية كان خارطة القواعد والنقاط التي انطلقت منها صواريخ حلفاء الصهاينة لإسقاط المسيرات والصواريخ البالستية، والتي بذلت جهداً كبيراً من أجل اسقاط 270 مسيرة وصاروخ بالستي مما فضح مواقع تواجدها. كما كشفت العمليات المتتالية للمقاومات هذه الثغرات على مدى مئتي يوم.
أي أن المعلومات الإستخبارية المكتسبة توازي أهمية الضربة على مستوى الأمن القومي بالنسبة لإيران، ومستوى الردع الإستراتيجي بالنسبة للمحور بكامله، فأصبحت تعرف أماكن إطلاق الصواريخ، وإن بنسبة 99%، أهم النقاط الحساسة التي يجب استهدافها لضرب جهوزية الكيان وحلفائه. والأمر المهم هنا، أن الكيان لن يكون بإمكانه ولا حتى بعد وصول المساعدات الأميركية التي أقرها الكونغرس مؤخراً من تأهيل مناطق جديدة قد تكون سرية اذ سيستغرق بناؤها وقتاً، وبالتالي فعليه إعادة ترميم المناطق القديمة مما يجعلها أهدافاً سهلة المنال في كل مرة، وبالعقلية الموتورة والبطيئة التي يعمل بها الكيان المعتمد على حماية الغرب وتقنياته اليوم، لا يمكنه أن يأتي بجديد إذا كان من يحميه يتعثر بخطواته في أوكرانيا في مواجهة روسيا.
وأما مع المقاومة الإسلامية وشركائها في لبنان فإن الأمر يشهد تطوراً نوعياً ولافتاً، وهذا يظهر من خلال الضربات التي تصل إلى أهدافها، وخاصة بعد فقأ العيون الصهيونية والعمل مازال يجري على قدم وساق. عمل يجري بالتواز مع العمليات النوعية، وكل عمل من هؤلاء يذكي الآخر ويدعمه. وما حدث من جرأة استراتيجية في تنفيذ العمليات العسكرية أمر لافت، لم يبق هناك حواجز ولم يبق هنا محرمات في دك المناطق الإستراتيجية للعدو أسواء كانت عسكرية أم استخباراتية. وحتى أن تطور العمليات النوعية والإمتداد لضرب قاعدة ميرون في صفد، أو العملية النوعية التي قامت بها المقاومة في عرب العرامشة، لا تخبر فقط عن عظمة الترسانة التي يملكها حزب الله، والتي تشير إلها بإستمرار وسائل الإعلام المعادية للمقاومة الإسلامية ومحور المقاومة بأكمله، ولكن العملية النوعية تجلت في دقة المعلومات التي تحصل عليها المقاومة مما يدل على دقة عمل استخباراتها، وخاصة عندما أحبطت التسلل الصهيوني إلى وادي قطمون في جنوب لبنان، وهذا لا يدل فقط على تطور العمليات الإستخباراتية له علاقة فقط، بل له علاقة وثيقة بمدى الجهوزرية العالية التي يمتاز بها الحزب اليوم.
استخدام المسيرات في بناء حالة الردع الإستراتيجي ليست بالأمر الجديد بالنسبة للمقاومة الإسلامية في لبنان، ليس معلوماً متى ابتدأت المقاومة بإدخال المسيرات في تقنياتها العسكرية الإستراتيجية، ولكن الأمر بالتأكيد بدأ تطوير استخدامه لها على الأقل خلال الحرب على سورية وخاصة بعد الضربة الغادرة التي وجهتها تركيا بعد تحرير مدينة سراقب الأول في العام 2018 بمسيرات بيرقدار ذات التقنية الصهيونية المصنعة في المعامل التركية، واستشهد يومها عدد من الضباط السوريين الكبار وقادة من المقاومة ومستشارون إيرانيون، دعماً للإرهابيين من أجل استعادة سراقب، ولكن تمت يومها معركة كبيرة تفاصيلها مهمة ولكن لوقت لاحق. ثم في 26 آب/ أوغسطس أغارت المسيرات الصهيونية على موقع العهد الإخباري في العام 2019، انفجرت واحدة منها في الضاحية في حي معوض وأسقطت المقاومة باقي المسيرات وعرضتها على الإعلام، وبالتأكيد تم تفكيكها ودراستها.
بعد ذلك بثلاثة أعوام، نتذكر استخدام المقاومة للمسيرات في تموز/ يوليو العام 2022، حيث أرسلت المقاومة ثلاثة مسيرات فوق منصة كاريش عاد منها اثنتان والثالثة بحسب ما صرح عنها السيد نصرالله خلال لقاء الأربعين على قناة الميادين بصور تفصيلية، بأن الوقود قد نفذ منها وسقطت في البحر. وإذا كانت المسيرات قد عادت بصور من حقل كاريش، الذي يبعد 75 كم عن حيفا، ولم تشعر أجهزة المراقبة الصهيونية بذهابها وعودتها، فلا داع لأن نستغرب اليوم دخول استخدام المسيرات وتطور تقنياتها. وقد تحدث السيد يومها عن قدرة المقاومة على جمع المعلومات عن السفينة في كاريش دون الحاجة لمسيرات، وعن تنامي قدرة المقاومة البحرية الدفاعية والهجومية على حد سواء، ويبدو أن غرور الصهيوني أصمّه عن سماع الحقائق، لأنه كان يعتقد أنه هو من يستطيع أن يبدأ أي حرب وينهيها بحسب احتياجاته، في حين أن ما فعلته المقاومة من خلال تطوير حرب المسيرات منذ ذلك الوقت جاء في إطار التحضير للمعركة الكبرى. وبحسب تصريح يديعوت احرنوت في 25 من هذا الشهر فإن حزب الله استخدم مسيرات شاهد 136، ولم يستخدم حتى اليوم أية مسيرات حديثة، فإذا كان الكيان وقبته واستشعاراته غير قادرة على كشف المسيرات القديمة فما الذي سيفعله إزاء الحديث منها.
أكثر ما كان لافتاً بعد المئوية الثانية هو دخول عكا على خط الضربات في العمق الصهيوني. ضربة عكا جاءت رداً على قصف سيارة في عدلون، واتضح أن من كان يستقلها القيادي الشهيد حسين علي عزقول، ولكن الرد جاء في عمق استراتيجي مهم وهو موقع قيادتي كل من لواء غولاني ووحدة إيعوز، وهي مواقع في العمق الإستراتيجي تعد مؤلمة على قدر اغتيال القياديين، وعلى قاعدة إذ "وسعوا منوسع": قبل ذلك قصفت المقاومة في لبنان قاعدة ميرون الجوية والتي تبعد 7 كم عن الحدود اللبنانية، وتعد من الإستهدافات الهامة للمقاومة في لبنان، خاصة وأنها استهدفت مقر قيادة اللواء غولاني في عكا الذي يبعد 21 كم عن الحدود اللبنانية، بناء على قاعدة التوسع، والتي شكلت حالة ردع لافتة، حيث رد الكيان في خراج مرجعيون.
ليس فقط تطور العمل الاستخباراتي والعسكري وفقأ العيون الصهيونية جزء من سلسلة خطوات مهمة على طريق التحرير القادم باتجاه المعركة الكبرى، ولكن الحالة النفسية السيئة، التي وصل إليها الكيان بجيشه وقيادته المتخبطة ومستوطنيها والتي يعبر عنها في كل يوم محللوه السياسيون والعسكريون يعد جزءاً مهماً من التحضير للمعركة الكبرى، ونحن في اليوم المئتين وبضعة أيام وصلنا إلى هنا. ما يحدث اليوم هو اختبار، سوف يعزز التحضيرات للمعركة القادمة والتي يحضر لها محور المقاومة على طريق تحرير القدس والجولان.
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU