يوماً بعد يوم، تتكشف تفاصيل وأسرار جديدة حول الاتفاق السعودي الإيراني، الذي حصل في آذار / مارس من العام الحالي، والذي لم تنته تأثيراته بعد، وما يرسمه من مشهد جيوسياسي جديد في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا.
آخر هذه التفاصيل والأسرار، هو ما كشفه عضو مشارك في الوفد المفاوض للخنادق، الذي تشكّل من مسؤولين في وزارة الخارجية وحرس الثورة الإسلامية والمجلس الأعلى للأمن القومي في الجمهورية الإسلامية.
وخلافاً لما ادّعته وأظهرته الوسائل الإعلامية التابعة للسعودية، كانت الأخيرة هي الطرف المستجدي والأضعف في المفاوضات، بحيث هي التي طالبت بها، بعدما خسرت خلال كل السنوات السابقة في كل ساحات ودول المنطقة، خصوصاً في اليمن، ما جعلها في موقع ضعيف وذليل، تحاول الخروج منه ومن خيباته بأقلّ الخسائر، ظناً منها انها تستطيع من خلال الاتفاق إبعاد إيران عن حلفائها في محور المقاومة.
وهذه بعض التفاصيل والأسرار
_ الإمام السيد علي الخامنئي أوصى الفريق المسؤول عن التفاوض، بالتشدّد في المفاوضات وعدم التسرع، فالسعودية هي من قطعت العلاقات الدبلوماسية وهي التي طلبت العودة الى طهران، مؤكداً على المفاوضين عدم قبول أي بند آخر خارج موضوع فتح السفارات واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ورفض كل الطلبات السعودية والبنود الأخرى مثل بند الدور الايراني في المنطقة ومناقشة ملفات الإقليم، كما أوصى الإمام الخامنئي في السياق نفسه، بالتشدّد مع الدول العربية الأخرى التي أساءت لإيران سابقاً (مع العلم بأن السعودية لم تطلب من هذه الدول مهاجمة إيران معها لكنهم تزلفاً للرياض سعوا إلى ذلك)، وها هي الآن تتسابق لإقامة العلاقات الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية، لا سيما مصر، والأردن، والمغرب وليبيا..
_ عدم وصول الحوار السعودي الإيراني في العراق وسلطنة عُمان، الى أي نتيجة طوال عامين ونصف، هو بسبب اشتراط السعوديين من إيران تقديم اعتذار على حرق سفارة بلادهم في إيران. فكان رد الإيرانيين هو اشتراط العكس (أي اعتذار السعودية)، وذلك لأن حادثة حرق السفارة (التي كانت سبباً لقطع العلاقات الإيرانية السعودية عام 2014)، قد قام بتنفيذها فريق من 4 أشخاص اعترفوا بانهم نفذوا اعتداءهم بتكليف مباشر من الرياض وتقاضوا مبالغ مالية إزاء ذلك (3 أجانب من أفغانستان والعراق وواحد إيراني من الأهواز)، وذلك وفقاً للتحقيقات والأدلّة التي تم مواجهة الطرف السعودي بها والامم المتحدة أيضا. وكان هدف السلطات السعودية حينها، تشويه سمعة إيران الخارجية بأنها تخالف اتفاقية فيينا الناظمة للعلاقات الدبلوماسية بين الدول، وأن لا أمان للبعثات الدبلوماسية فيها. وعليه فإن الأحقية هي لإيران في طلب الاعتذار لا العكس. وقد جاء الطلب السعودي من طهران الاعتذار أيضاً لتبرير الاتفاق مع طهران امام الرأي العام السعودي والعربي، وكي لا يقال انها استأنفت علاقاتها مع الجمهورية الاسلامية دون مقابل أو دون تنازل من طهران.
السعودية تطلب من الصين التوسّط
_ لذلك ولحاجة محمد بن سلمان الكبيرة لتصفير مشاكله مع إيران، وكي لا يظهر امام الرأي العام في بلاده بمظهر المتراجع أمام الجمهورية الإسلامية، طلب من الرئيس الصيني الدخول، بشرط أن تكون بكين تحت صفة "راعي سلام"، وهذا ما رفضته طهران بشدة لأنه لا وجود لحرب بين البلدين، وهو نوع من الهيمنة العسكرية، لا تقبلها طهران بأي حال من الاحوال، هذا الطلب سبقه محاولة سعودية مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين للتوسط بين الرياض وطهران لكن موسكو لم تتجاوب لأسباب عديدة منها معرفتها بأن السعودية ستستغل ذلك ضد حليفتها إيران.
كما أن الإيرانيين انزعجوا كثيراً من الجانب الصيني على خلفية البيان الذي أصدره خلال زيارة الرئيس تشي جين بينغ الى منطقة الخليج الفارسي، وتصريحات بكين غير الحيادية حول الجزر الإيرانية الثلاثة أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى، ما دفع بإيران الى الطلب من السلطات الصينية تقديم الاعتذار، وهذا ما حصل عبر إيفاد نائب الرئيس الصيني الى طهران، ومن ثم جرى الاعتذار خلال زيارة الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي الى بكين.
_ طوال جلسات التفاوض في العراق أو في سلطنة عمان بل وفي الصين أيضاً، لم يحصل النقاش في أي موضوع خارج إعادة العلاقات الثنائية، مثل الموضوع اليمني أو السوري أو اللبناني أو العراقي او غيره، وذلك بقرار من فريق التفاوض الإيراني وتشديد من الإمام الخامنئي على ذلك، بحيث لا تحصل أي مفاوضات تتعلق ببلد ما، دون حضور جهة المقاومة المحلية في ذلك البلد. وهو ما سبق للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن ذكره في العديد من الخطابات خلال الفترة السابقة.
_ اتسمت جولات الحوار والتفاوض بالشفافية والصراحة المطلقتين، بحيث لم يمتنع الفريقان عن تسمية الأمور بأسمائها والوقائع بشكل تفصيلي.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، كشف الفريق الإيراني بشكل مباشر للطرف المقابل، عن أدلة تؤكد مسؤولية السعودية عن الحرب التركيبية الأخيرة. فكانت فيها سلطات السعودية هي الآمر والمخطّط والداعم، لشبكات التخريب والإرهاب، فيما كان لبقية الدول التابعة للمعسكر الغربي والأمريكي أدوار مساعدة.
_ حاول الصينيون والسعوديون أن يتكوّن الاتفاق من 16 بندا، فيها بنود تتعلق بدور إيران في المنطقة وعلاقتها بأطراف محور المقاومة أو حتى بدول كأفغانستان الأمر الذي استغربة الوفد الإيراني المفاوض، لكن طهران أصرّت على حصر البنود المتفق عليها بـ 9 فقط: بند سياسي واحد يتعلق بفتح السفارات، و8 بنود اقتصادية. واعتراضاً على ذلك غادر الوفد الايراني الى طهران ممهلاً السعودية 6 ايام للتراجع عن شروطها الإضافية، لكن سرعان ما قبلت الرياض ذلك بعد يومين فقط، فعاد الإيرانيون الى بكين لاستئناف الحوار.
أمّا بند إيقاف الهجمات عبر وسائل الإعلام الرسمية، فكان بمبادرة من الفريق السعودي، وليس بناءً على طلب أو اشتراط إيراني.
اتفق الجانبان في الجلسة الأولى من المفاوضات في بكين على ان يوقع الاتفاق مسؤولون من خارجية البلدين.
_ بعد الإعلان عن الاتفاق، تجرأت الكثير من الدول للتواصل مع إيران، مثل مصر التي طلبت ارسال وفد مصري الى طهران، إلا ان الايرانيين غير مستعجلين وليسوا بحاجة لمصر انما الأخيرة هي من تحتاجهم، ( تطمع مصر لشراء صواريخ باليستية وطائرات دون طيّار وغيره من إيران، لكن الجمهورية الإسلامية تتريّث في هذا الموضوع)، وقد أرسلت القاهرة وفداً الى بغداد لعقد لقاء مع الايرانيين هناك الا ان طهران رفضت أيضا، ثم اقترح المصريون ان يأتي وفد إيراني الى القاهرة، وكذلك المغرب، التي تتريث طهران في استئناف علاقاتها معها بسبب عدائها غير المبرر خلال السنوات الماضية، اما ليبيا فليس لدى ايران مشكلة مع الحكومة الجديدة الشرعية في طرابلس بعد رحيل القذافي لهذا فقد قطعت المحادثات الثنائية أشواطاً مهمة حتى الساعة.
هذا التريث وعدم الاستعجال من طهران نحو هذه الدول (رغم رغبتها بان يكون لها أفضل العلاقات مع الدول العربية والاسلامية) اتما حمل رسالة للجميع مفادها بأن التجرؤ على إيران ومعاداتها دون وجه حق لن يبقى دون عقاب، وينبغي على من ظلم إيران ان يشعر بالندم والأسف في أقل تقدير، وصحيح ان قرار خروجهم من طهران كان بأيديهم لكن العودة اليها هو بيد القيادة الإيرانية.
الكاتب: غرفة التحرير