مع تخطي العدوان الأمريكي الإسرائيلي على قطاع غزة يومه الـ 100، وما جرى خلاله وبعده من معركة طوفان الأقصى، ذات التأثيرات الاستراتيجية، على الصراع ما بين محور المقاومة والكيان المؤقت ومن خلفه المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى مستقبل منطقتنا وربما العالم أيضاً. كان لنا هذا الحوار مع الباحث السياسي الدكتور بلال اللقيس، في تحليل دقيق للمشهد الحالي، واستشراف ما يمكن أن يحمله المستقبل من تطورات. وهذا نص الحوار (لمشاهدة فيديو المقابلة):
_ثمة سؤال ما يزال يُطرح عند الكثيرين: لماذا اختار محور المقاومة وخاصةً في ساحته اللبنانية، هذا النوع من مساندة المقاومة الفلسطينية، ولم يذهب الى خيار الحرب الكبرى؟
_أما بخصوص سؤالكم، الذي يعتبر سؤالاً أساسياً ومهماً، وأنتم تسألونه بلسان حال الكثيرين في لبنان وفي بيئة المقاومة فضلاً عن العالم العربي والإسلامي، قد طرحوا هذا السؤال المتعلق بطبيعة ومستوى وحجم مساندة المقاومة في لبنان ومحور المقاومة، للمقاومة في غزة.
بطبيعة الحال، هناك من كان ينتظر أمراً أكبر، ويتوقع الدخول في حرب مفتوحة "كاسحة ماسحة"، وهناك من كان يدعو الى عدم "التورط" في هذه القضية، فبالنهاية هناك دول عربية وإسلامية، وهناك دول أكبر منا لناحية القدرات والإمكانات، ونحن نتحمل نصيباً ولو بكلمة في الإعلام، وهناك العديد من وسائل الإعلام العربية والإسلامية، وأكثر من الإعلام لم يفعلوا أي شيء. هذه تركيا موجودة أيضاً، ما هو موقفها؟، هي التي حتى قرار قطعها للعلاقات مع إسرائيل (لم تفعل). وهذه السعودية أيضاً، ما هو موقفها وحال الصمت لديها، وهي ما تزال تناقش بالتطبيع. هذه مصر والأردن وغيرهما. وبالتالي أنتم تريدون تحميل لبنان ما لا يستطيع حمله، وليس من مسؤوليتنا الأولى.
بصراحة هذان الرأيان موجودان، وبالتالي السؤال في مكانه الطبيعي. وبرأيي الرد على هذا السؤال، في الأيام الأولى كان صعباً، لأنك إن أردت إقناع السائل في اللحظات الأولى، التي يكون المؤثر فيها عادةً وبشكل رئيسي، العامل العاطفي الإيجابي. وبالمناسبة العاطفة ليست أمراً سلبياً في هذا الموضوع، أو الروح التعبوية، بل العكس هي أمر إيجابي ومطلوب.
لذا بعد 100 يوم، بات تقييم صوابية ما قام به محور المقاومة من عدمه بشكل أفضل، تجاه القضية الفلسطينية وكيف أطلق عنوان المساندة. بات بإمكاننا التحدث عن ذلك بشكل أكبر وأفضل. لأنه برأيي حتى اليوم، تبين العديد من الأمور:
أولاً، المعركة طويلة. ومحور المقاومة من الساعات الأولى، كان يرى فيما حدث، أنه حدث تاريخي. وبالتالي سيكون بالنسبة لإسرائيل وللهيمنة الأمريكية على مستوى تداعياته، سيكون بالغ الأثر والتأثير. وعليه المسألة لن يتم هضمها أو استيعابها والتعاطي معها بانفعال، بل سيتم التعامل معها بالنسبة لإسرائيل كتهديد وجودي، وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والغرب هي ضربة لخلاصة الفكر الغربي ورؤية الهيمنة المتجسدة بإسرائيل. وبالتالي عليهم التخطيط وبناء رؤية واستراتيجية، والتعامل مع هذا الحدث بطريقة غير منفعلة. مع الإشارة إلى أنهم في الأيام الثلاث الأولى تصرفوا بانفعال، ثم بدأوا يتعاطون مع الموضوع على المدى الطويل.
إذان كان هناك صحة في التقدير، بأن هذه المعركة طويلة ولا تحتاج إلى رمي الأوراق أو الانفعال منذ الأيام الأولى، لكي تنضج محدداتها العامة (أي محددات المعركة)، وهذا ما ثبت صحته بحسب رأيي مع مرور الوقت.
ثانياً، في تلك اللحظات الأولى كما ذكرت في البداية، كان هناك رأي والرأي المضاد له، يعني أنت في محور المقاومة – وبالأخص حزب الله بما يمثله من ثقل خاص في المحور – هناك فريق في لبنان وربما أيضاً في جزء من بيئتنا العربية، أن لبنان لا يجب أن يتحمل أكثر ما يمكن له أن يتحمله. وأنهم يقولون: نحن نمشي معكم – ولو أن هناك من لا يمشي معنا في ذلك – الى حدود الدفاع عن سيادة لبنان، أمّا أن نصبح نحن جزء من المعركة ربما تؤدي الى ما تؤدي إليه من كوارث على مستوى الساحة اللبنانية، فنحن لسنا حاضرين لهذا المشروع، بل نحن حاضرون لمواجهته.
والجميع يعرف بأننا حتى هذا اليوم، بالرغم من صوابية وحسن طريقة الأداء، هناك أصوات في لبنان تقول بأن حزب الله ورّط لبنان، حزب الله أخذ لبنان الى المجهول، حزب الله من أي أساس يتصرف بهذه الطريقة، لم يحترم جزءاً كبيراً من اللبنانيين، بالرغم من كل هذه المداراة (من قبل الحزب)، ولا زلنا نناقش ونعاني في هذه المسألة، وأثارها لا تزال مستفحلة في الساحة اللبنانية.
فبناءً عليه، بين هذين الرأيين في الأيام الأولى، كان الطرفان متوجّسين: رأي متوجّس من عدم الانخراط في الحرب الكبرى، ورأي متوجّس من الانخراط بها.
لذلك في اللحظة الأولى، هناك جزء من اللبنانيين (جزء معتدّ به من اللبنانيين ولدينا معاً عقد اجتماعي الذي هو التزام أخلاقي وديني ووطني)، لديه ذاكرة ولديه تاريخ، يعتقد من خلالهما – صح أو غلط مش عم قيّم – أن انخراط لبنان بالقضية الفلسطينية أوصلنا الى ما أوصلنا إليه، وأن حزب الله سيكرّر التجربة القديمة، التي تعني أن لبنان جزء من هذه المعارك، والدول العربية عم تتفرج وبالتالي نحن من يدفع الأثمان. لذلك منذ الأيام الأولى، انطلق في مواجهة أي حراك. بالطبع هنا أنا لا أقيّم.
جزء آخر في العالم العربي المحبّ للمقاومات، كان يرى أنه يجب على حزب الله أن يخلط الأوارق كلها في المنطقة. وعليه عندما يجب أن تأخذ قراراً حول هذا الموضوع، يجب أن تأخذه بمكث وهدوء. وترى المثاقيل والمصالح بدقة. بحيث انه اليوم مساعدتك ومساندتك للقضية الفلسطينية تحقق إسناداً ومساعدة للبنان، ولكل الإقليم وللقضية الفلسطينية، وقدر المستطاع لا تضر بالواقع اللبناني ضرراً كبيراً. مع العلم بأن أي قرار سيُتخذ سيكون له بالطبع آثاراً جانبية (Side Effects). وهنا عليك أن تقدّر، أي يصبح التقدير هو الحاكم.
اليوم بعد مئة يوم وقليل، اكتشفنا ان هذا التقدير كان تقديراً سليماً، بحيث أننا دخلنا بالمساندة بسياق متدرج، وبحيث انه خلال الـ 100 يوم، انكشفت كل أوراق إسرائيل، وانكشفت صورة إسرائيل وصورة أمريكا، وتغيرت كتير من الآراء العالمية، ونحن بدأنا نصعّد ونحرك الأوراق، في لحظة كان الأمريكي والإسرائيلي تقريبا قد رميا كل أوراقهما فيها.
إذن تبيّن أن أخذ المثاقيل بعين الاعتبار، والسير خطوة خطوة دون تعجّل، أو دون القفز خطوة كبيرة، تبيّن أيضاً أنه كان قراراً سليماً. أنا اسميه في أدبياتنا "توفيق رباني"، حتى ما نقول في ذكاء. أي كان هناك موفقية، بحيث قال البعض بأن حزب الله ومحور المقاومة يحسنون التصرف.
ثالثاً، عادةً طبيعة المقاومة، هي أنها مشروع يقوم على صناعة وتعزيز الشرعية والمشروعية، يعني قوتها دائماً تأخذها من ناسها ومن الحق الذي عندها، وثانياً من صوابية قراراتها، وهو ما يحصل بالتراكم.
وبالتالي، الذي راكم مع حزب الله خلال 40 و 45 سنة هو انه لديه حق، لكن في مرات عديدة، كان هناك أناس يملكون الحق، لكن قرارتهم غالباً ما تكون خطأ، وتؤدي الى أثار سلبية كثيراً. إذن حزب الله قراراته صحيحة، وحقه الواضح والوطني والإسلامي والديني والقومي والعروبي معه. ثالثاً، حُسن انتخابه لقراراته وأخذه لموافقه، وهذا ما راكم ثقة ووعياً بالقيادة والمشروع.
فإذن المقاومة وحزب الله مشروع بنّاء، هو ليس مشروع هدم. وهذا ما يختلف عن الهيمنة الامريكية، وعن داعش والنصرة، التي يمكن اعتبار مشروع جميع هذه الأطراف هو مشروع تفجير. حزب الله والمقاومة ليس لديهم مشروع تفجير.
وهنا أذكركم بما قاله سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في العام 2006، وهذا أخذ نقاش حينها. والسيد نصر الله الواقعي والشفّاف يتحدّث دون الخشية من الترددات، لأن ما يهمه هو تقديم المصداقية كما هي. قال: "لو كنا نعلم بأن القيام بهذا العمل سوف يؤدي الى هذه الآثار، ربما لم نقم به". طبعاً الناس حينها انتقدت ما قاله. لكن هذا دليل الوضوح والشفافية والمصارحة، لأنها هي الأساس في بناء المشروع، لأنه مع الناس، ولأنه لا يهمه فعل أي فعل من دون سؤاله عن آثاره وتداعياته، وأن يُجري الحسابات الكلية والكاملة ليرى النتيجة.
بناء عليه، بالتأكيد اليوم قوى المقاومة هي لا تقاتل من أجل القتال فقط، وليست قوى تريد هزيمة إسرائيل فقط لأنها تريد حصول ذلك. ولو أن الهدف الأخير بحد ذاته أمر وإنجاز عظيم وشريف ويستحق البذل والعمل والعطاء أكيداً.
ولكنني أعتقد أن محور المقاومة وفي قلبه المقاومة في غزة، هو مشروع بنائي، هو مشروع حضاري، هو مشروع يريد أن يقدم نموذجاً وبديلاً ورؤيةً وتصوراً، ويعتبر أن المعركة مع إسرائيل ومع الهيمنة الامريكية والغربية، هي معركة ثقافية وحضارية وفكرية. بالتالي محور المقاومة دائماً يخطط للإنجاز، وأن يراكم بالنقاط، وان ينتقل من خطوة الى خطوة بعد أن يتمكن من ذلك، ولا يعمل على طريقة المجازفة.
لكن قد تقول لي، ان إسرائيل قد تشن عليكم الحرب، عندها نكون قد صرنا في نقاش آخر، إذا ما أقدمت إسرائيل على الاعتداء، عندها سنكون في مكان آخر.
وعليه نحن كقوى في المقاومة، عندما نقوم بمبادرة، دائماً ما يسبق ذلك التخطيط، أن هذا الفعل يجب أن ننجز فيه هزيمة لعدونا وانتصاراً لنا.
لأن هناك تجارب في التاريخ، خذ نموذجاً على ذلك: فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا. ألمانيا هُزمت أمام روسيا، وألمانيا هزمت فرنسا، ما يعني بأن الأخيرة أثرّت في هزيمة ألمانيا. لكن عندما ننظر في النتيجة، نرى أن الرابح في كل ما حدث كان أمريكا. أي أن هناك طرفاً انهزم، وهناك طرف لم يربح شيء. فإذن قاعدة المقاومة دائماً في التفكير: كيف أهزم عدوي وأتمكن من بناء المشروع.
ولكي أكون صادقاً وصريحاً معك، لا نريد نحن اليوم في المنطقة أن أهزم إسرائيل وتصير المنطقة في حال من الفوضى، التي تكون فها أمريكا أو الإرهاب - الذي ظهر في الآونة الأخيرة أنه حالة غير بسيطة في المنطقة، والذين لم نرهم في كل ما يحدث في الجبهة الفلسطينية، ولم نرى المجتمعات التي تحضن الإرهاب في أي فعل جدّي مما يحصل في فلسطين، أينها من قضية الصراع مع إسرائيل؟ لقد تبيّن بأن أولوية هذه المجتمعات في مكان آخر، أي في المكان الذي تخدم فيه فعلاً المشروع الأمريكي، وبالتالي هي أداة أخرى، وهذا ما زاد من إثبات ذلك لنا أكثر من أي وقت مضى- لا يمكن أن نتعاطى معها على أنها فقط مجموعة من الأشخاص ذات شكل عنقودي، تُقاتلهم وتقتلهم وبالتالي يتم إنهاؤهم، بل هم شرائح تحمل اتجاهات وأولويات خاطئة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأجندتها كلها في مكان خاطئ. وبالتالي من الممكن في أي لحظة أن يتحركوا ويتم توظيفهم بمواجهة محور المقاومة. وبالتالي علينا هزيمة إسرائيل، بالإضافة الى تقديم تجربتنا ونموذجنا، علينا أن نجمع بينهما. لذلك فإن السير خطوة خطوة، هو آمن أكثر لنا بلحاظ الحركة، طالما لست في موقع أن إسرائيل هي التي قامت بالهجوم، ولو أن أصل وجودها – أي إسرائيل – مرفوض ومدان.
إذن هذا النقطة هي اعتبار ثالث في التفكير.
رابعاً، قوى المقاومة وقادتها الأفذاذ، خاصةً في قطاع غزة، اكتشفوا بأنه كان هناك مصلحة كبرى في أن تنحصر المعركة خصوصاً في أيامها الأولى في دائرة فلسطين. لأن مفعولها في الدائرة الفلسطينية يعطيها شرعية لا يمكن لأي أحد أن يخدش أو يشوش عليها. واليوم فعلاً لو توسعت المعركة وانتقل ثقلها من هناك – على سبيل المثال تدخّل حزب الله بكل قوته- عندها لن تبقى المعركة في فلسطين، بل ستصبح في الإقليم وفي لبنان، وفي مواجهة إيران وفي مكان آخر.
أما اليوم، فقد بقيت المعركة ببعدها الفلسطيني وغزة هي الأساس وهي المحور، وهي التي تنتج التفاعلات العالمية، والأطراف تساند بما يحقق الهدف.
لذلك أنا أعتبر أنه كان هناك توفيقاً كبيراً، في الإطلالة الأولى للأمين العام لحزب الله، رغم كل الضغط الذي كان موجوداً، والعالم الذي كان ينتظر أموراً مختلفة. حيث أنّ السيد نصر الله حدّد هدفاً، ولم يحصر نفسه بأي قالب، بل ترك هامشاً مفتوحاً أمام كل الاحتمالات، بحيث يعتقد أن الوقت يمكن أن ينضّج العديد من الأمور.
إذاً حدّد هدفين وقال على أساسهما يتمّ تحديد النتيجة: الهدف الأول انتصار المقاومة الإسلامية في فلسطين أي حماس والجهاد الإسلامي، والهدف الثاني هو وقف الحرب في لحظة ما، أي علينا أن نسعى لوقفها. إذا تحقق هذان الهدفان، عندها يكون محور المقاومة قد انتصر، بالرغم من الكلفة الموجودة له. فنحن لا نريد أن ننكر أن الفعل الذي قامت به المقاومة في فلسطين، هو فعل غير مسبوق في التاريخ، وغير مسبوق بتاريخ الصراع مع إسرائيل، وهو فعلٌ قصم ظهر الكيان الصهيوني، ونحن لا نبالغ في ذلك.
فالكيان الصهيوني فعلاً أمام مرحلة تصدّع، كما عبّر عن ذلك الإمام الخامنئي عندما قال إن الناس تقول بأن الكيان الصهيوني ردع وغيره من الأمور، وأنا أضيف – أي الإمام الخامنئي – بأن ذلك لن يُرمّم.
وعليه، فإنه وفقاً للحسابات، إذا استطاع الفلسطيني إكمال ما بدأه ومحور يقوم بإنضاج كل ما ذُكر سابقاً، وتم الوصول الى تحقيق هذين الهدفين، يكون ذلك أمراً ممتازاً وأمراً رائعاً للغاية، ويكون ذلك خطوة كبرى باتجاه التحرير (وليس خطوة عادية).
ولا أدري على الصعيد الشخصي، من الممكن أن تكون خطوة تبقى متصلة حتى التحرير الأخير والنهائي.
_كيف ستتجه الأمور في الفترة المقبلة؟
_أنا أرى بأنه اليوم بدأت ديناميكية محور المقاومة وقدرته على الضغط تتنامى، واليوم الكرة في الملعب الإسرائيلي الذي يعاني من تخبط يراه الجميع، وعلى كل المستويات. بل أكثر من ذلك، فإن هذا الطوفان – هذا الحجر السليماني المبارك – الذي قُذف من غزة قد طال أمران في خط واحد: الإسرائيلي، وبطريقة ما الهيمنة الامريكية من بوابة البحار، وهو ما تولى أمره في النقطة الأخيرة الإخوة في اليمن.
فعندما ننظر الى المشهد نرى بأن اليمن متّجه الى التصعيد، ونعلم جيداً ما مدى خطورة اليمن على أمريكا وليس إسرائيل فقط. ونرى لبنان أيضاً، يتجه نحو المزيد من التصعيد، وهذا ما يشكّل ضغطاً على أمريكا أيضاً، لأنها لا تريد حرباً إقليمية - وأنا أقول لك - فإننا نحن أيضاً لا نريد حرباً إقليمية، لكن شريطة أن تنتصر حماس، والحمد لله انا برأيي حماس قد انتصرت ولم يعد هناك خوف. أمّا لو أن المقاومة الفلسطينية خلال هذه الـ 100 يوم، قد وصلت الى مرحلة استغاثت وقالت لم أعد أستطيع أن أكمل المعركة، فأن أقول لك وأطمئنك، كان محور المقاومة عندها سيكون منخرطاً انخراطاً كاملاً في المعركة، لأن أي حلقة من حلقاته من الممنوع أن تُهزم. كما قاتلنا في سوريا، لمنع هزيمة حلقة من حلقات المقاومة، سنقاتل وبقوة أكبر ومن دون ضوابط، إذا وصلت الأمور الى هزيمة ساحة غزة أو هزيمة حماس، ولكن من يرى المشهد اليوم يعلم بأننا بتنا في مرحلة أخرى تماماً.
اليوم الأمريكي لم يعد يقاتل – ليس الإسرائيلي الذي يعدّ أداةً – من أجل اجتثاث حماس أو إنهائها أو إنهاء واجتثاث فكرة المقاومة، كما كان يفعل ذلك خلال الـ 100 يوم. فاليوم الأمريكي والإسرائيلي يخوضون معركة من أجل الأوراق السياسية وتعزيز الأوراق السياسية. إذاً نحن انتقلنا من مرحلة القتال لاستئصال الفكرة المقاومة وحماس، الى مرحلة القتال لتعزيز الأوراق في التسوية السياسية، إن كان مع الفلسطيني في غزة، أو اللبناني وما يتعلق بالنقاش حول القرار 1701. وبالتالي كما أعتقد، فإننا في مرحلة هي بالكامل جديدة قد دخلتها المنطقة.
وعليه فهل يعني ذلك أن الحل قريب؟
نعيد مرة أخرى، بأن اليمن يقوم بالتصعيد ولبنان أيضاً، أما الجديد فهو العراق، الذي برأيي هو أهمها، وليس اليمن. فالعراق اليوم تجاوز ضرب القوات الأمريكية في العراق وسوريا، بحيث صار هناك توجّه لدى رئيس الحكومة محمد شياع السوداني بفتح ملف خروج القوات الأمريكية من البلاد بشكل جدّي وقوي. وعليه فإن هذا الأمر شيء جيد ويُبنى عليه، بل أكثر من ذلك فإن الحشد الشعبي اعترف بشكل رسمي، بأنه هو الذي قام بواسطة صاروخ باستهداف حيفا. وبالتالي كيف سيرد حينها الإسرائيلي على العراق، كيف سيردّ على الملايين من الشعب العراقي، وعشرات الآلاف من الحشد الشعبي، الذين يستفيدون من احتضان كبير للقضية الفلسطينية في العراق، ويتوجهون لضرب القوات الأمريكية بل والإسرائيلية أيضاً.
فبماذا يمكن أن ترد على ذلك إسرائيل؟
إذا قام العراقيون بتكرار استهداف حيفا، ومن ثم قاموا من بعدها بضرب تل أبيب. أي أمان للإسرائيلي عندها سيكون. قد يستطيع الإسرائيلي ضرب لبنان، لكنه لن يستطيع ضرب لبنان والعراق واليمن.
أضف، أن هناك عامل كبير دخل أيضاً لأول مرة، ولو أنه بطريقة مدروسة، وهو العامل الإيراني، الذي قام بتوجيه ضرباته للإسرائيلي بشكل مباشر.
إذاً فالإسرائيلي لا يستطيع خوض هذه الحروب، بل يحتاج الى الأمريكي الذي ليس من أولوياته ولا من أجندته ذلك، ولا يستطيع ولا يقدر، خاصةً في ظل ما يُقبل عليه من انتخابات. لذلك الإسرائيلي والأمريكي أصبحا اليوم في حالة من التخبط في أدائهما السياسي. وهذا ما يراه الجميع، ما بين بايدن ونتنياهو، وما بين الإسرائيليين أنفسهم، وما بين الأمريكيين أيضاً. أي بدأت الأزمة في المكان الآخر. بينما على مستوى المقاومة في غزة ومحور المقاومة، بدأت الأمور تتناغم أكثر فأكثر، وتوضح وتنضج أكثر فأكثر. وكل خطوة تترك تأثيرها العميق والفعال. لذلك نحن أمام مسار ليس بقصير، لكن صيغة جديدة.
_هل يمكن أن يستمر الحال على ما هو عليه حتى نهاية العام 2024؟
نتنياهو يريد أن يُبقي المعركة بأشكال ووتيرة مختلفة، في فلسطين أو في الضفة أو لبنان أو اليمن، أي هو يريد الإبقاء على فتيل الاشتعال قائماً بمستوى ما. ويراهن على الانتخابات الأمريكية حتى يأتي ترامب، أي يريد التخلص من بايدن.
وبايدن يحتاج اليوم وبشكل كبير الى إنجاز سياسي، بعد كل الفشل الذي يتحمله بايدن في سياسته الخارجية، ويريد في مكان ما أن يُحدث ولو إنجاز عنوان إطار، أي صيغة ومسار جمعنا الدول عليها، ولا حاجة له حتى في توضيح ماهية هذا المسار وتفاصيله. وبالتالي هذا الإطار لا يمكن أن يتمّ دون إقناع نتنياهو أو الضغط عليه. وأوراق أمريكا في الضغط على نتنياهو هي أوراق محدودة، وليست قوية بما فيه الكفاية، لأن الضغط الكبير سيؤدي تلقائياً الى حصول انفجار في الحكومة الإسرائيلية، وعندها سيدخل الكيان خلال الحرب في متاهة أخرى.
لذلك يريد الأمريكي تقييد نتنياهو، والأخير يراهن على إسقاط بايدن، وعليه قد تطول هذه اللعبة خلال الفترة المقبلة، والتي قد تكون أشهراً أخرى.
لكن ما هو الأمر الذي يمكن له تقييد هذه اللعبة؟
إذا افترضنا أن قوى ومجتمعات المقاومة حاضرة وقادرة على الصمود والتحمل، وهو ما رأينا دليلاً عليها من خلال ظهور المقاومين في منطقة شمالي غزة، الذي ادعى الإسرائيليون بأنه تم القضاء عليهم من قبل فرقة الـ36، أنظر مدى الفشل الإسرائيلي. إذن فالمقاومون الفلسطينيون قادرون على الصمود. وقد رأينا بالأمس القائد الهُمام أبو عبيدة وهو يتحدث بكامل المعنويات والثقة والاقتدار، وقال بأن جُلّ ما تحتاجه المقاومة في غزة من سلاح يتم تصنيعه في القطاع، وبالتالي حتى إذا أراد الإسرائيلي أن يُغلق منطقة فيلادلفيا فإنها باتت من الماضي، وعلى ذلك قِس كل قوى محور المقاومة.
فإذاً ما هي الخيارات أمام الإسرائيلي؟
نحن قادرون على الصمود، ومجتمعاتنا قادرة على ذلك أيضاً، لبنان والعراق واليمن الذي بدأ مرحلة الإيلام والتوجيع قادر على ذلك. وبالتالي الذي سوف يتعب أولاً، هو ما يُسمى بالمجتمع الإسرائيلي، الذي برأيي بات يساوره الشكّ الفعلي: هل أنّ إسرائيل "وطن" إذا جاز التعبير، يُمكن العيش فيه؟ هل أن إسرائيل كيان قابل للحياة؟ هل ما قالوه لنا حقيقة؟ أم تبيّن أن كلّ السردية التي عشناها كانت وهماً بوهم! أعتقد اليوم أننا إذا أجرينا في الكيان الصهيوني استفتاءً، سيكون السواد الأعظم اليوم – من دون احتساب اليمين المتشدّد – يقول أن مشروع إسرائيل والكيان الصهيوني مُشكّكٌ في حياته، وغير قابل للحياة والاستمرار، وينتظر (أي المستوطن الإسرائيلي) اللحظة التي تهدأ فيها الأمور للرحيل.
هذه اللعبة التي تُسمى "عضّ الأصابع" نحن أقوى فيها، لأننا نعيش في بلادنا وأرضنا، ولسنا بحاجة الى التطبيع مع أي أحد. نحن جزءٌ من طبيعتها وهي طبيعةٌ منّا، ونحن منسجمون. هو الذي يعتبر نتوءً في منطقتنا، هو الذي يمكن وصفه باللا طبيعي في هذه المنطقة، وهو الذي يشعر بأنه غير مقبول من جهة، وغير قادر على الاستمرار بعدما تبين ذلك من جهة أخرى. لذلك الوقت هو لصالحنا، وسنستمر في هذه الوتيرة.
قد تسأل: هل من الممكن أن نصل حينها الى حافة الهاوية؟ سأجيبك: نحن نلعب على حافة الهاوية. وأقولها للإسرائيلي أيضاً، المقاومة على امتداد المحور وفي قيادته الجمهورية الإسلامية وفي قلبه غزة وكل ما يُمكن وصفه بجسد المقاومة، تمتلك فنّ ومهارة وإرادة وقدرة التعاطي مع حافة الهاوية، لماذا؟ لأنها لا تهاب الهاوية. نحن نُجيد اللعب على حافة الهاوية، لأننا لا نهابها. لكننا لا نريد الذهاب إليها كما ذكرنا سابقاً، وبالتالي إذا كان الأمريكي جادّ، ولا يريد للأمور أن تذهب إلى أزمات أكبر، وخصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لديه، والتي يظهر فيها حتى الآن بأن ترامب هو المتقدّم بقوة، انطلاقاً مما حصل في ولاية آيوا. وإذا أراد بايدن أن يجمع أوراقه، فعليه أن يعترف في مكان ما، أنّ إسرائيل هُزمت، ويوقف الحرب في غزة، وللحديث تتمة.
_إذاً ما هو مشروع محور المقاومة لما بات يُعرف بـ"اليوم التالي"؟
يجب الانتباه الى أمر مهم، وهو أن هذه المعركة سرّها في غموضها. المطلوب أن نُبقي على الغموض في هذه المعركة. يعني ما هي حدود فعلنا العسكري؟ علينا أن نبقي على الغموض. ما هو الذي يُمكن أن يناقش في السياسة في الإقليم؟ علينا أن نُبقي على الغموض. ليس من المطلوب في هذه اللحظة أن يتحدّث أحد بشيء، لا نستعجل الأمور. اليوم أصبحت يدنا كمقاومة هي الأعلى فوق يد الإسرائيلي، وبالتالي الذي يده هي الأعلى وسيفه هو الأعلى والذي يمتلك شرعيةً أقوى، والذي لديه وضعاً أفضل على المستوى الدولي، لا يجب أن يُغمد سيفه في هذه اللحظة، ولا يستعجل في إغماد سيفه. عليه أن ينتظر، وأن يصبر، ويُكمل. وما النصر إلا صبر ساعة، والأحاديث تؤكّد بأن النصر والصبر صنوان متلازمان. لذلك من المهم لنا في هذا الوقت أن نتعاطى مع الموضوع، وأن يعلم ناسُنا وشعوبنا في المنطقة، بأننا اليوم مُرتاحين سياسياً، نحن اليوم في موقع قوة، الأمريكي والإسرائيلي هما من يركضان اليوم لطرح أوراق للنقاش والتفاوض. ورُبما هذا ما حذا بالسيد نصر الله إلى القول بأن يتم الاستفادة مما يحصل في غزة، لإضعاف الهيمنة الأمريكية في كل المنطقة. الأمريكي هو اليوم الذي يحتاج الى تقديم أوراق، وهو الذي لا قدرة لديه على أن يخوض حرباً، والإسرائيلي أيضاً أعجز من أن يخوض حرباً بعد فشله في غزة. إذاً يدنا الأعلى، وإذا كانت معركة "عض الأصابع" هي لتعزيز الأوراق في السياسة، فأستطيع القول بأن كل يوم يمضي سنعزز الأوراق لصالحنا في أي نقاش سياسي، بغض النظر إذا نحنا كمحور المقاومة سنناقش سياسياً مع الأمريكي أم لا. لكن بالنهاية عندما ستنتهي هذه المعركة، وتنهزم إسرائيل، ويتمّ الاعتراف بذلك إسرائيلياً، ستكون المنطقة أمام نقاش. هذا النقاش ما هي طبيعته، ما هي حدوده؟ لا أعرف ذلك. هل سنكون نحن شركاء فيه بالمباشر؟ لا أعرف. لكن في النهاية سيكون هناك معادلات جديدة، توازنات جديدة، معطيات جديدة، ستنبثق من رحم طوفان الأقصى. وهذه ستكون اللُبنة الأولى في سياق المشروع الكبير بعد اللُبنة التي أسستها قوى محور المقاومة منذ أربعين عاماً، على امتداد المحور، من انتصارات وإنجازات، وفي قلبها انتصار الثورة الإسلامية في إيران، التي كانت نقطة البداية في مسار هذا القطار الذي بإذن الله سيصل الى غايته ولن يستطيع أحد أن يوقفه، كما كان يُعبر الشهيد السيد عباس الموسوي.