تسببت الحرب المستمرة منذ أكثر من 10 أشهر في غزة في انخفاض حاد في الاستثمارات الأجنبية في كيان الاحتلال، فضلاً عن بدء هروب رأس المال المحلي للخارج. كما خرج الكيان أيضاً من قائمة الدول العشر الأوائل التي يهاجر إليها أصحاب الملايين لأول مرة منذ عدة عقود، وفقاً لتقرير هجرة الثروات لعام 2024 الذي أصدرته شركة استشارات هجرة الاستثمار الدولية "هينلي آند بارتنرز" في 18 حزيران/يونيو 2024.
وأكدت شركة "هينلي آند بارتنرز" البريطانية المتخصصة في "برامج الهجرة والاستثمار الأكثر طلباً في العالم"، أن الحرب الحالية لم تشوه "صورة إسرائيل" كملاذ آمن لهذا النوع من المستثمرين الأجانب فحسب، بل تشكل أيضاً تهديدا للنتائج الاقتصادية. كما أدت الازمة الحالية إلى انخفاض حاد بنسبة 55.8% في الاستثمار الأجنبي المباشر في كيان الاحتلال خلال الربع الأول من العام 2024. وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023 عانى الاستثمار الأجنبي المباشر في الكيان بالفعل من انخفاض بنسبة 50٪ وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء الإسرائيلي في 18 حزيران الماضي.
ومما يعمّق عزوف المستثمرين المتزايد هو أن 80% من الاستثمار يتركز في مجال التكنولوجيا الفائقة، حيث يوفر هذا القطاع وحده نصف صادرات الكيان الذي يقدم نفسه على أنه "أمة الشركات الناشئة" بامتياز. وعلقت شركة "إنتل" الأميركية العمل في توسيع مصنع لإنتاج المعالجات الدقيقة في إسرائيل، والذي كان من المقرر أن يشكل أكبر استثمار أجنبي على الإطلاق في البلاد. العلامة الأخرى التي تضرب الاقتصاد الإسرائيلي هي الإسرائيليون أنفسهم الذين بدأوا بالبحث عن آفاق جديدة أكثر هدوء خاصة في الولايات المتحدة حيث قفز حجم استثماراتهم المباشرة في الخارج بمقدار الربع في الربع الأول من هذا العام ليصل إلى 3.6 مليار دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف عدد مثل هذه العمليات التي يقوم بها الأجانب في الكيان نفسه.
أشار تقرير في مجلة "لوبوان" الفرنسية إلى أنّ "قرار إقصاء المشاركين الإسرائيليين من معرض يوروساتوري للدفاع -إلى جانب إلغاء عقود من قِبل الشركات على خلفية دعوات المقاطعة- أحدث صدمة في إسرائيل". وأضافت الكاتبة دانييل كريجل، في تقريرها أن "استبعاد العارضين الإسرائيليين من معرض يوروساتوري، الذي أعلن عنه في 31 مايو/أيار الماضي، تسبب في صدمة قوية بإسرائيل لأن هذه الخطوة لم تكن متوقعة على الإطلاق. وبعيداً عن بُعدها السياسي الدبلوماسي، فإن هذه القضية تشكّل جزءاً من عزلة إسرائيل المتزايدة داخل المجتمع الدولي، بحسب المجلة الفرنسية".
وحسب أحدث تقرير صادر عن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فقد انخفضت الاستثمارات الأجنبية في الربع الأول من العام الحالي بنسبة 55.8%، وهو أدنى مستوى منذ الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2021.
وذكرت الكاتبة أن الأمر لا يتعلق بالاستثمارات المالية، خاصة التكنولوجيا العالية، ففي هذا المجال، لا يمكننا الحديث عن مقاطعة بل عن الرغبة في الابتعاد عن الأضواء، لجعل العلاقات مع "إسرائيل أكثر سرية". لكن الأمر يتعلق أيضاً بالحد من المخاطر من خلال تجنب الاستثمار بدولة في حالة حرب، وتواجه أيضاً مشاكل التجنيد.
وأضافت أن أكثر من 20% من جنود الاحتياط الذين يشاركون في الحرب على غزة هم موظفون في مجال التكنولوجيا المتقدمة، وقد أدى غيابهم لعدة أشهر إلى تعقيد إدارة العديد من الشركات الناشئة بشكل كبير، ولتجنب الاضطرار إلى إلغاء العمليات أو تقويض تطورها، قامت المزيد من الشركات بتسريح موظفيها الإسرائيليين لتوظيف أجانب.
من جهته، حذّر ميخا كوفمان، المؤسس المشارك والمدير العام لشركة "فايفر" التي توظف 770 شخصاً "بإسرائيل"، في رسالة إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزراء المالية والاقتصاد، من هروب وظائف التكنولوجيا الفائقة إلى الخارج، مؤكدا أنه "بات من الصعب جداً للشركات الإسرائيلية توفير التمويلات اللازمة بسبب الضغوط على المستثمرين لقطع علاقاتهم مع إسرائيل". ونقل الكاتب عن إيال بينو، مؤسس وشريك صندوق رأس المال الاستثماري، قوله "يشعر الأميركيون بأن الاستثمار في إسرائيل أصبح خطيراً. لن يخبروك بذلك بشكل مباشر. لكنهم سوف يطرحون عليك أسئلة حول المخاطر التي ينطوي عليها. بالطبع، إذا كنت يهودياً وتريد مساعدة إسرائيل، فسوف تستثمر. وإذا لم تكن كذلك، فهذا يضيف مخاطر أخرى إلى تلك الكامنة بالفعل في أي استثمار مالي في هذا القطاع". ووفق الكاتب، تتمثل النقطة السوداء الثانية في مجال الشركات الكبيرة التي تم تأسيسها بالفعل في البلاد أو هي في طور التأسيس، فهناك 3 أمثلة على الانسحاب شغلت الرأي العام في الأسابيع الأخيرة:
-إعلان شركة إنتل قبل حوالي 10 أيام عن تعليق مشروع توسيع مصنع أشباه الموصلات التابع لها في كريات غات، ونتيجة لهذا اختفى الاستثمار الإضافي، الذي بلغ 15 مليار دولار، الذي وُعد به علناً في كانون الأول /ديسمبر الماضي. وهو ما مثّل أخباراً سيئة للغاية بالنسبة للدوائر الاقتصادية الإسرائيلية، حيث تأسست شركة المعالجات الدقيقة الأميركية العملاقة في إسرائيل منذ 50 عاماً، وقد احتلت على مر السنين أحد المواقع الرائدة في تطوير الصناعات المبتكرة، ومن حيث حجم الأصول، تعد إسرائيل الدولة الثالثة التي تستقر فيها شركة إنتل بعد الولايات المتحدة وأيرلندا.
-إلغاء سلسلة "بريت آ مانجيه" البريطانية لعقد الامتياز الموقّع العام الماضي مع مجموعة "فوكس" للبيع بالتجزئة الإسرائيلية. ففي الأشهر الأخيرة، تعرضت السلسلة بالفعل لضغوط من النشطاء المؤيدين للفلسطينيين من خلال مظاهرات معادية أمام فروعها في لندن وعرائض تطالب بمقاطعتها.
-أما الحالة الأخرى، فتتعلق بسلسلة الوجبات السريعة العالمية "ماكدونالدز"، فردّاً على المقاطعة التي استمرت لأشهر من قِبل الحركات المؤيدة للفلسطينيين أو بعض السكان المسلمين، شهدت مبيعاتها العالمية انخفاضاً ملحوظاً، لذلك، نأت بنفسها في شهر أبريل/نيسان عن إسرائيل بشراء الامتياز التجاري الممنوح عام 1993 لرجل الأعمال الإسرائيلي عمري بادان.
أوضح ميخا كوفمان، أن قائمة الصعوبات لا تقف عند هذا الحد، إذ "يجب علينا أيضا أن نأخذ في الاعتبار انخفاض الصادرات بنسبة 33% حتى الآن، وهذا يعني ضياع العديد من الفرص، وقد يصبح الأمر أسوأ إذا نفّذت أوروبا تهديدها بإلغاء أو تعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل". وأخيراً، لا يمكن تجاهل خفض التصنيف الائتماني من جانب وكالتي موديز وستاندرد آند بورز، وقد أرفقت كلتا الوكالتين الأميركيتين التصنيف بعبارة "توقعات سلبية".
انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الكيان إلى 1.1 مليار دولار في الربع الأول من 2024 بتراجع 55.8% مقارنة بالربع الأخير من 2023، وفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي، ويعد أدنى مستوى مسجّل منذ الربع الأخير من 2021. وقد أشارت صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية الإسرائيلية إلى أن "أرقام الاستثمار الأجنبي في إسرائيل مثيرة للقلق"، إذ تراجعت من متوسط ربع سنوي نسبته 4.8 مليارات دولار في السنوات الأربع الماضية. وأرجعت الصحيفة هذا التراجع إلى العدوان الإسرائيلي المدمر على قطاع غزة، ودعت إلى الأخذ في الاعتبار التبعات الاقتصادية والإستراتيجية عند اتخاذ قرارات استمرار الحرب. وتضيف الصحيفة أن انخفاض الاستثمارات الأجنبية بنحو 56% لا يعكس الخوف من استمرار الحرب فقط، بل يشير -بشكل أساسي- إلى أن قيادة البلاد غير مهتمة بالاقتصاد. وأوضحت الصحيفة أن تراجع الاستثمارات المباشرة مرتبطة بتراجع الاستثمارات في العالم، ومع ذلك تكشف أن معدل تراجع الاستثمارات في "إسرائيل" أعلى من العالم. والاستثمارات الأجنبية المباشرة هي شراء العقارات من قبل الأجانب، واستثمارات ذات طبيعة طويلة الأجل وهي في الأساس أصول حقيقية، على عكس الاستثمارات المالية العادية.
تلعب الاستثمارات الأجنبية دوراً حيوياً في النمو الاقتصادي والتنمية، لأنها توفر رأس المال، والتكنولوجيات الجديدة، والخبرة الإدارية، علاوة على ذلك، في حالة الكيان، يأخذ هذا الرقم معنى مختلفاً، إذ إن حوالي 80% من رأس المال الذي يدخل قطاع التكنولوجيا (المحرك الرئيسي للاقتصاد) يأتي من الخارج. لكن اللافت حقيقة هو هروب الاستثمارات المحلية أيضا إلى الخارج، فقد قفزت استثمارات الإسرائيليين في الخارج بنحو 30% في الربع الأول من السنة الحالية إلى 2.9 مليار دولار، من 2.2 مليار دولار في الربع المقابل من السنة الماضية، مما يعني أن الإسرائيليين يهربون باستثماراتهم إلى الخارج.