يشهد الواقع السياسي في كيان الاحتلال حالة خاصة لم تشهدها حكومات سابقة، فالحكومة الجديدة وجدت نفسها في مستنقع معركة "سيف القدس"، والذي ورّطها فيه رئيسها السابق بنيامين نتنياهو وغلاة المستوطنين. كما أن حكومة الكيان الحالية، ذات تمثيل برلماني ضيّق، لا يتعدّى من منحوها الثقة 61 عضواً، ويرأسها رئيس حزب صغير، يشهد صراعات داخلية تهدّد مستقبل الحزب وحتى وجوده. وسط هذا المشهد السياسي يزداد نفوذ اليمين المتطرف الجديد، الذي يقوده المستوطنون الذين يعملون بلا هوادة على المضي قدما في مشروع تهويد القدس وبناء المستوطنات. يبدو التصعيد في الداخل أكثر شراسة وتعنت. من هنا يأتي السؤال لماذا يصرّ الإسرائيلي على التصعيد في الداخل في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها المنطقة والعالم؟ لماذا التمادي في التصعيد في الأزمات وعدم البحث عن مخارج لتغيير سياساته العسكرية والأمنية؟
-دور اليمين المتطرف "الجديد" في تأجيج الازمات داخل الكيان:
إن الأزمة الإسرائيلية الراهنة ينبغي أن توضع في سياقين، الأول يرتبط بالنشأة الأولى ومضاعفاتها التي واجهت الكيان الاسرائيلي. والثاني يتصل بالتحولات الاجتماعية والديموغرافية الاقتصادية والسياسية والتي عززت من تعمق هذه الأزمة، وأفضت إلى الانقلاب الذي حدث عام 1977 بوصول تحالف "الليكود" إلى الحكم. تدعمت خلفية هذا الانقلاب بعدوان 1967، واتجاه المجتمع الإسرائيلي إلى التطرف واليمين، وتفاؤل المتدينون بتحقيق "الوعد الإلهي" المزعوم، وتطابق الجغرافيا التوراتية مع الجغرافيا السياسية باحتلال الضفة الغربية وبقية فلسطين المحتلة. ترافق ذلك مع تبني سياسة الانفتاح الاقتصادي في مطلع الثمانينيات، وتقلص شبكة "الكيبوتزات" و"الموشافات" التعاونية "للاشتراكية الصهيونية"، وضعف "الهستدروت" والتحول إلى القطاع الخاص، وتآكل القيم التي تنتمي للآباء المؤسسين للكيان، والتي تمثلت في الريادة والانضباط والتقشف الجماعي لصالح القيم الجديدة الناشئة مثل الفردية والرفاهية الشخصية والتنافسية.
من ناحية أخرى، فإن تدفقات المهاجرين الشرقيين واليهود السوفييت، عززت من الانقسام الطائفي والسياسي، ووجد هذا الانقسام ترجمته في تعزيز الاستيطان، والتوجه الديني وظهور الجماعات والأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة، وهو الأمر الذي أفضى إلى ما يسميه بعض الكتاب والباحثين التنازع على الميراث الديني اليهودي بين الأحزاب القومية اليمينية، وبين الأحزاب الدينية المتطرفة؛ فأصبح التيار الديني المتشدد، مسيساً وصهيونياً كما أصبح التيار اليميني المتشدد دينياً وتوراتياً بالإضافة إلى أنه صهيوني. محصلة هذا التفاعل بين التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية وبين نواة الأزمة الهيكلية في الكيان المؤقت، أفضت إلى تقليص نفوذ اليسار الإسرائيلي (حزب "العمل")، وتآكل قواعده الانتخابية، وانهيار الحدود والفواصل بين رؤيته وبين الرؤية اليمينية المتطرفة، إن على الصعيد الفلسطيني والتسوية أو على مختلف المستويات. فقد اليسار تميزه ورؤيته المستقلة، ورضخ للمد اليميني القومي والديني المتطرف، وتقلصت سطوته على المجتمع والدولة، وتعزز نفوذ اليمين القومي والديني إلى حد ظهور ما يسمى باليمين الجديد وتهميش النخبة اليمينية التقليدية ذاتها، التي تنتمي لليمين الليبرالي العقلاني، الذي يؤمن بالحريات الإعلامية والفردية ومن رموزه دان مير يدور وبينى بيجن ورؤوفين ريفلين. وفى مقابل تهميش اليمين الليبرالي والتقليدي، ظهر على الساحة يمين جديد، يتألف من الأحزاب المتشددة دينياً والأحزاب القومية المتدينة، وكذلك كتلة المستوطنين بجماعاتهم ومنظماتهم المختلفة بالإضافة إلى أعضاء كنيست متطرفين من حزب "الليكود" والجماعات القومية المتطرفة المنضوية في حزب "إسرائيل بيتنا" وحركات عنصرية متعددة تحض على طرد العرب وتمارس التحريض ضدهم من خلال جماعات مختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي.
يجمع بين أطراف هذا اليمين الجديد قواسم مشتركة أيديولوجية؛ مثل العداء المطلق للشعب الفلسطيني خاصة والمسلمين عامة، وتركز دعواته السياسية والأيديولوجية على الهوية اليهودية القومية للدولة، وهذه الجماعات هي التي وقفت وراء إصدار قانون القومية، وقد حظي هذا اليمين بدعم اليمين الأمريكي والشعبوي والأوروبي الذي يؤيد العنصرية والعداء للمسلمين والغرباء. وقد استفاد الكيان المؤقت من هذا التلاقي بين اليمين الجديد الإسرائيلي واليمين المتطرف الأمريكي والأوروبي، في تبني سياسات متطرفة تجاه الفلسطينيين واستمرار الاحتلال والاستيطان والتوجه نحو فك الارتباط بين الاستقرار والسلام وبين قيام الدولة الفلسطينية وتسوية الصراع على قاعدة الأرض مقابل السلام.
يبدو أنّ هذا اليمين الجديد- وفقا لتحليلات بعض المراقبين- يناصب للإعلام والنخبة العلمانية الأشكنازية العداء، ويدعو إلى تقليص نفوذ المحكمة العليا الإسرائيلية وصلاحياتها، ومحاولات منعها من الرقابة على القرارات التي يصدرها الكنيست بذريعة أن أعضاءها غير منتخبين. أما فيما يتعلق بالتسوية مع الشعب الفلسطيني، فإن أطروحات هذا اليمين تتمثل في استكمال ضم المستوطنات ووادي الأردن، وتصفية قضية اللاجئين ومنظمة الأونروا، واعتبار القدس عاصمة موحدة للكيان، وتثبيت الوضع القائم والإبقاء على السلطة الفلسطينية في وضعها الراهن وإعلان نهاية حل الدولتين، والتحلل من جميع القرارات الدولية المتعلقة بهذا الحل.
كانت الأسطورة الدينية قائمة في "الفكر الصهيوني" منذ البداية مع سيطرة النخبة العمالية اليسارية، ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، أي لاستقطاب التعاطف إن من قبل اليهود المتدينين أو اليهود عامة أو من قبل الدوائر الدولية المختلفة، ولكن هذه الأسطورة تحولت إلى غاية في حد ذاتها، أي إقامة مجتمع يهودي متدين ومتشدد بعد الاندماج بين التيار الديني المتشدد والتيار اليميني المتشدد؛ حيث أصبح الأول صهيونياً والثاني دينياً، وتبنيا خطاباً واحداً متجانس المفردات حول الأرض والشعب الفلسطيني والتوراة وأرض الميعاد والعداء للمحيط العربي.
هذا الصعود للأسطورة الدينية والتشارك في تداولها، جاء ترتيباً على الانتقال من حكم الجماعة الواحدة المهيمنة ألا وهي النخبة الأشكنازية العمالية، إلى هيمنة جماعات متعددة من اليهود الأرثوذوكس وجماعات المستوطنين والتيارات العنصرية المتدينة، من شتى الاتجاهات، والذين التفوا حول نتنياهو، وهي الجماعات التي تسعى إلى السيطرة على الإعلام والثقافة ومؤسسات الدولة العميقة.
وقد أفضت هذه السيطرة اليمينية إلى خلق تناقض واضح بين مظهر الكيان المؤقت كقوة إقليمية تضرب ذات اليمين وذات اليسار في سوريا وإيران ولبنان وغزة، إلى دولة مأزومة داخلياً وغير مستقرة وتواجه للمرة الأولى تحديات داخلية تهدد مناعتها الجماعية والثقة في مؤسسات الدولة، بل يذهب بعض الكتاب إلى تحول الكيان المؤقت على غرار جمهورية "ڤايمار" في ألمانيا، ووقوعها في قبضة العنصريين والفاشيين كما وقعت ألمانيا في قبضة النازية.
أسباب التصعيد المستمر وتداعياته:
-يمين متطرف بتركيبة جديدة عقيدته نسف كل المبادرات السابقة مع الفلسطينيين:
هذه الأزمة الراهنة في كيان الاحتلال ليست مجرد صراعات حزبية أو شخصية وإن كانت لا تخلو من ذلك بشكل جزئي، ولكنها أزمة بنيوية عميقة تنتج تحولات كبيرة في المجتمع، لم تجد حتى الآن من يستطيع أن يتعامل معها بذكاء، أو تتوفر له القدرة على احتواء مضاعفاتها، خاصة مع اختفاء جيل المؤسسين وظهور أجيال من الساسة أقل تفهماً لهذه التحولات وطبيعة علاجها بعيداً عن الأيديولوجيا والرؤى المسيانية.
تواجه الحكومة الإسرائيلية التي تشكلت في حزيران/ يونيو الماضي، وحصلت على ثقة الكنيست، والمعروفة إعلامياً بحكومة "التغيير"، صعوبات شتى. وقد استندت هذه الحكومة بادئ ذي بدء على مناهضي حكم نتنياهو وإصرارهم على إزاحته، ويكاد تكون هذه النقطة بمثابة القاسم المشترك الأعظم بين مختلف مكوناتها من اليمين الديني والقومي والوسط واليسار؛ وضمت هذه الحكومة حزب "يوجد مستقبل" بقيادة يائير لابيد "الوسط"، و"أبيض أزرق" بزعامة بينى جانتس، و"العمل" و"ميرتس" و"يمينا" بزعامة نفتالى بينيت، و"القائمة العربية الموحدة" برئاسة منصور عباس، و"أمل جديد" بزعامة جدعون ساغر المنشق عن تكتل "الليكود". وكما هو واضح، فإن هذه المكونات ما يفرق بينها أكثر مما يوحدها سياسياً وأيديولوجياً واجتماعياً، فثمة رؤى ومواقف مختلفة ومتباينة إلى حد التناقص إن على الصعيد الاجتماعي الداخلي أو على الصعيد الإقليمي وبالذات فيما يخص القضية الفلسطينية.
حيث يتأرجح مستقبل حكومة نفتالى بينيت الحالية بين مجموعتين من العوامل. تتعلق الأولى بهشاشتها سياسياً وأيديولوجياً واجتماعياً، وتباين مواقفها إزاء الاقتصاد والسياسة الاجتماعية، فضلا ًعن اختلافها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. أما الثانية فترتبط بالتطورات الإقليمية والعناصر التي تدعم صمود وتماسك هذه الحكومة. ويمكن القول إن مستقبل حكومة بينيت يتوقف على نتاج التفاعل بين هذه العوامل ومحصلتها وانعكاس ذلك على بقائها أو احتمال انهيارها. فعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، تتفاوت الرؤى والمواقف بين مكونات هذه الحكومة، ففي حين أن "ميرتس" و"العمل" مع تبنى سياسات رفاهية ومناصرة للضعفاء وتقليص السياسات النيو ليبرالية، فإن "أمل جديد" و"إسرائيل بيتنا" على سبيل المثال مع تقليص سطوة الدولة على الاقتصاد وإفساح المجال للقطاع الخاص والمبادرة الفردية. أما على الصعيد الفلسطيني، فحدث ولا حرج، حيث أن أغلب هذه القوائم والمكونات تتجاهل حل الدولتين، وتنكر حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ومع تعزيز الاستيطان والمستوطنات والضم. وعلى الصعيد الإقليمي، يبرز بصفة خاصة الملف النووي الإيراني، وموقف الكيان المؤقت من المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها وبين إيران. وترى المكونات الرئيسية في الائتلاف الحكومي ضرورة وقف برنامج إيران للحصول على السلاح النووي، وأن أي اتفاق بين واشنطن والحلفاء لابد وأن يضمن ذلك، وإلا فإن الكيان المؤقت يدعم الخيارات العملية والتجهيزات الضرورية للقيام بهذه المهمة. من ناحية أخرى، فإن المفاوضات المقطوعة مع ممثلي الشعب الفلسطيني منذ عام 2014، يبدو أنها لن تستأنف في الوقت الحالي رغم تغير الإدارة الأمريكية وصعود الرئيس جو بايدن والحزب الديمقراطي.
الأساس الذي يرتكز عليه هذا التعادل يتمثل في أن العوامل التي تؤثر في إسقاط هذه الحكومة "الهشاشة والاختلاف السياسي"، يقابله من ناحية أخرى حرص مكونات هذه الحكومة على البقاء في الصدارة، وتجنب جولة انتخابية إضافية، قد تفقد فيها نفوذها ومقاعدها في الكنيست، وقد تمهد لنتنياهو العودة مجدداً إلى المشهد وهو ما لا يريده الجميع. من هذا المنطلق يبدو ان حكومة بينيت باتت غير قادرة على خلق التوازن بين امساكها بالمبادرة في حل مشاكلها الداخلية، وبين الإمساك بعصا القمع والعنف والتنكيل بالشعب الفلسطيني التي تزداد وتيرتها بالرغم من التصريحات المستمرة بالسعي للتهدئة.
- التصعيد في القدس هدفه التغطية على الفشل السياسي الداخلي.
-هو محاولة لتسجيل نقاط على حساب كل التفاهمات السابقة مع الجانب الفلسطيني.
-دليل عجز إسرائيلي حقيقي على المواجهة العسكرية المباشرة مع قوى المقاومة في فلسطين والمنطقة.
-دليل إضافي على ان ما يقلق الإسرائيلي فعليا هو ان ينتفض فلسطينيو 48 ضد سياساته فتتشكل بذلك قاعدة مواجهة ممتدة من 48 الى الضفة وغزة فتسقط كل سياسات التحصين والحماية الداخلية.
يخلق هذا الواقع الجديد تحدياً جذرياً للفلسطينيين داخل أراضي الـ 48 وعلاقتهم بـ "الدولة"، أي الكيان الإسرائيلي. فمن أراد منهم الاندماج في "المجتمع الإسرائيلي"، يبقَ في نظر مؤسسات الكيان خطراً أمنياً يتابعه "الشاباك". ومَن أراد التصدي للسياسة العنصرية الكولونيالية، يجدْ نفسه ضمن تصنيف المجرمين، وفق قوانين الاحتلال الجديدة. وهذا قد يخلق حالة جديدة أيضاً، لا يرى فيها الفلسطيني ابن حيفا فارقاً بينه وبين الفلسطيني ابن رام الله ونابلس والخليل؛ أي ان فكرة المصير الواحد قد تعود إلى الوعي الفلسطيني، ولهذا تداعيات كثيرة.
في المقابل، يُصرّ المستوطنون على مواصلة الضغط على حكومة الاحتلال لتعمل على تحقيق أحلامهم في القدس المحتلة، كما في اللد والرملة ويافا وحيفا وعكا. كل هذا لن يرضيهم، ويٌصرون على أن تبقى حكومة بينيت ـ لبيد في موقع المتهَمة بالتقصير وبمحاباة العرب، وخيانة المشروع الصهيوني، وبأنها تشكّل "كارثة صهيونية". كما يُصرّون على ألاّ تفرّق حكومة الاحتلال الإسرائيلي وأجهزتها الأمنية والقضائية بين فلسطيني في رام الله وآخرَ في حيفا، وربما يكون هذا ضمن الرؤية الصهيونية "للحل الدائم".
هذه الحالة لن تدوم طويلاً، لأن القائمة الموحدة لا تستطيع البقاء في حكومة الاحتلال، في نظر بينيت، إلاّ إذا تحولت إلى "مسحوق غسيل" لتنظيف الملابس الإسرائيلية القذرة. ولن تدوم طويلاً لأن المستوطنين لن يرضوا أن تبقى الحكومة الصهيونية تحتضن نواباً عرباً، وتستجيب لبعض مطالبهم، وإن كانت أثمان ذلك باهظة على العرب.
هذه الحالة لن تستمرّ لأن المقاومة لن تقبل الهدوء مع استمرار الحصار ومنع إعادة الإعمار، واشتراط ذلك بتحرير الأسرى الصهاينة من دون تحرير الأسرى الفلسطينيين.
وهذا يعني أن معركة "سيف القدس" لم تنتهِ بعدُ، لا من جانب المستوطنين، ولا من الجانب الفلسطيني، وإنما تُبنى طبقات إضافية على أساساتها، ليس فقط على الصعيد الوطني الفلسطيني، بل على صعيد الحقوق الدينية الإسلامية في الحرم القدسي، وحقوق المواطنين الفلسطينيين في منازلهم في القدس الشرقية المحتلة وأراضي الـ 48، على حد سواء. وإن موعد تفجُّر الصواعق من جديد قادم لا محالة.
-ما يريده المتطرفون اليمينيون ليس سلاما مع الفلسطينيين وانما استكمال مشاريع الاستيطان وتهويد القدس، من هذا المنطلق لن يتوقف التصعيد ولن يهدأ حتى وان خسر الكيان داخليا.
يمارس كيان الاحتلال سياسة ممنهجة في التنكيل في القدس، وهو ماضٍ في سياسة التهويد والاستيطان، وقد انتقل الى مرحلة أكثر وحشية حين وسع رقعة الهجمة العسكرية مصدرا قرارات من الممكن ان تساوي القدس بمناطق الضفة الغربية، كنشر قناصة في شوارع المدينة للتصدي للشبان الثائرين والتكثيف من الحواجز العسكرية. الواضح من هذا الأمر، أن الاحتلال يسير وفق خطوة جادة تسعى لتقسيم المسجد الاقصى زمانيا ومكانيا مستغلا ظروف المنطقة كالتفكك الفلسطيني، والتمزق العربي، وربما أزمات المنطقة، وانشغال العالم بحروب وصراعات اخرى.
تساؤلات طفت على السطح مع هذا التوسع العسكري أهمها: إلى أين سيصل التصعيد الإسرائيلي بحق المدينة المقدسة؟ وكيف سيكون الوضع الفلسطيني الإسرائيلي؟ وماهي الحلول الجادة لإيقاف هذا التهويد؟
يبدو أن الكيان المؤقت سيستمر في هجماته على المدينة المقدسة، وأن الحل الأوحد لإيقاف العملية العسكرية، هو توحيد الصف الفلسطيني حول المقاومة، لمواجهة مشاريع التهويد والاستيطان المستمرة.
ان التصعيد الاسرائيلي المستمر في القدس وداخل أراضي 48 والضفة، ربما يشعل انتفاضة جديدة في وجه الاحتلال، خاصة مع عودة العمليات الفردية (الذئاب المنفردة) في مدن الضفة الغربية كافة، وداخل أراضي 48.
يبدو ان اليمين المتطرف الجديد داخل الكيان يحاول استغلال الانهيار الفلسطيني والعربي لتمرير مخططه باتجاه المدنية المقدسة. لكنه لا يدرك انه امام فلسطيني لا يوجد شيء ليخسره لذلك سينتفض بوجهه ولن يتوقف النزيف حتى تحرير الأرض ودحر الاحتلال.
-هو ضغط واحراج لشركاء "إسرائيل" الجدد في المنطقة.
التصعيد في القدس، يشكل عبئا على علاقات الكيان بالعالم العربي وخاصة شركائها الجدد، والساسة الذين يسعون للتطبيع وإقامة علاقات مع الكيان يتعرضون للضغط بسبب هذا التصعيد غير المبرر من قبل العدو. ويبدو انهم باتوا في احراج من محاولاتهم التسويق لهذا الكيان داخل مجتمعاتهم على انه كيان يريد السلام ويطلب التعايش المشترك مع جيرانه، في الوقت الذي تمتد فيه يده يوميا الى الفلسطينيين بالقتل والتنكيل وهدم البيوت والاستيلاء على المزيد من الاحياء السكنية وطرد سكانها الأصليين منها. في عواصم الدول الشريكة الجديدة للكيان، ينبغي على المرء أن يدرك آثار هذا التصعيد، في ضوء المزاج العام المؤيد للفلسطينيين في تلك الدول أيضا والضغوط التي تتعرض لها حكوماتها بسبب ذلك. ويجب ان ينظر الكيان بقلق ليس إلى التعليقات المعادية له في مواقع التواصل الاجتماعي، بل وإلى التعليقات في وسائل الإعلام الموجهة إلى العالم العربي بأسره، فمثلا كتبت صحيفة "العربي الجديد" التي يمولها قطريون، لقد "سقطت كل الأوهام" ووصفت بشكل غير مباشر كل "الذين يجعلون التطبيع مع العدو واجبا" بالخائن. وهذا الكلام موجه لهؤلاء الذين وقعوا اتفاقيات مع الكيان بدفع من ترامب إلى جانب إغراءات اقتصادية. ولهذا سارعت هذه الدول اثناء معركة سيف القدس إلى التحرك، حيث أدان وزير الخارجية الإماراتي اقتحام الشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى، وطالب "إسرائيل" بوقف التصعيد. في حين وصف وزير الخارجية السوداني تصرف "إسرائيل" بالقمعي، كما أعرب المغرب عن قلقه "العميق" من التصعيد والعنف.
عواقب محتملة
تقول الباحثة السياسية، كرستين مولر، إذا استمر التوتر والتصعيد في القدس وداخل أراضي 48 ستتعرض مصالح "إسرائيل" للخطر ومنها "مساعي التطبيع مع العالم العربي". لكن ما مدى إمكانية انعكاس ذلك على الكيان ومصالحه؟ الخبيرة في العلاقات الدولية سينزيه بيانكو، تجيب على ذلك بأن مصالح الإمارات مع "إسرائيل" استراتيجية أكثر منها تكتيكية، و"يعني ذلك أنه ليس من المحتمل تراجع عملية التطبيع". ولكن بيانكو ترى أنه وارد جدا تجميد المشاريع القائمة مادام التوتر شديدا. وهي تعني بذلك أن "الإمارات تبقى يقظة للوضع والمزاج العام في الشارع العربي. ولكنها لن تترك ذلك يملي عليها سياستها الإقليمية".
يخلق هذا الواقع الجديد تحدياً جذرياً للفلسطينيين داخل أراضي الـ 48 وعلاقتهم بـ"الدولة"، أي كيان الاحتلال. فمن أراد منهم الاندماج في "المجتمع الإسرائيلي"، يبقَ في نظر مؤسسات الكيان خطراً أمنياً يتابعه "الشاباك". ومَن أراد التصدي للسياسة العنصرية الكولونيالية، يجدْ نفسه ضمن تصنيف المجرمين، وفق قوانين الاحتلال الجديدة. وهذا قد يخلق حالة جديدة أيضاً، لا يرى فيها الفلسطيني ابن حيفا فارقاً بينه وبين الفلسطيني ابن رام الله ونابلس والخليل؛ أي ان فكرة المصير الواحد قد تعود إلى الوعي الفلسطيني، ولهذا تداعيات كثيرة.
في المقابل، يُصرّ المستوطنون على مواصلة الضغط على حكومة الاحتلال لتعمل على تحقيق أحلامهم في القدس المحتلة، كما في اللد والرملة ويافا وحيفا وعكا. كل هذا لن يرضيهم، ويٌصرون على أن تبقى حكومة بينيت ـ لبيد في موقع المتهَمة بالتقصير وبمحاباة العرب، وخيانة المشروع الصهيوني، وبأنها تشكّل "كارثة صهيونية". كما يُصرّون على ألاّ تفرّق حكومة الاحتلال الإسرائيلي وأجهزتها الأمنية والقضائية بين فلسطيني في رام الله وآخرَ في حيفا، وربما يكون هذا ضمن الرؤية الصهيونية "للحل الدائم". هذه الحالة لن تدوم طويلاً، لأن القائمة الموحدة لا تستطيع البقاء في حكومة الاحتلال، في نظر بينيت، إلاّ إذا تحولت إلى "مسحوق غسيل" لتنظيف الملابس الإسرائيلية القذرة. ولن تدوم طويلاً لأن المستوطنين لن يرضوا أن تبقى الحكومة الصهيونية تحتضن نواباً عرباً، وتستجيب لبعض مطالبهم، وإن كانت أثمان ذلك باهظة على العرب. هذه الحالة لن تستمرّ ايضا لأن المقاومة لن تقبل الهدوء مع استمرار الحصار ومنع إعادة الإعمار، واشتراط ذلك بتحرير الأسرى الصهاينة من دون تحرير الأسرى الفلسطينيين.
هذا يعني أن معركة "سيف القدس" لم تنتهِ بعدُ، لا من جانب المستوطنين، ولا من الجانب الفلسطيني، وإنما تُبنى طبقات إضافية على أساساتها، ليس فقط على الصعيد الوطني الفلسطيني، بل على صعيد الحقوق الدينية الإسلامية في الحرم القدسي، وحقوق المواطنين الفلسطينيين في منازلهم في القدس المحتلة وأراضي الـ 48، على حد سواء. وإن موعد تفجُّر الصواعق من جديد قادم لا محالة.
الكاتب: غرفة التحرير