فرانس 24 قناة إعلامية إخبارية، تتبع للحكومة الفرنسية وتهدف إلى تقديم الأخبار من وجهة نظر غربية وفرنسية. بدأت بثها في ديسمبر 2006 مستهدفة دول ما وراء البحار. تموّلها الحكومة الفرنسية بميزانية سنوية قدرها 80 مليون يورو تقريبًا. تبثّ الأخبار الدولية من إحدى ضواحي باريس عبر أربع نسخ: فرنسية، عربية، إنجليزية، وإسبانية. في قراءة لتغطيتها أخبار الحرب الإسرائيلية على لبنان وغزة خلال الأشهر الماضية، يمكن القول إنها بدت حيادية جدا، تفتقر للحسّ الإنساني، تكتفي بالنقل الإخباري المحض، من دون السعي لأخذ موقف خاص بها. وإن كانت بالعموم، نموذجاً للإعلام الغربي الذي يتبنّى المواقف الإسرائيلية من دون تمحيصها أو التدقيق فيها (وهي النقطة التي تتميز بها بي بي سي البريطانية).
حين حصل سجال كلامي بين الرئيس الفرنسي ماكرون ونتنياهو، مع تذكير ماكرون بأن إسرائيل أُنشئت بقرار أممي، وردّ نتنياهو بأن "انتصار العام 1948" هو الذي أنشأ الدولة العبرية، كان من المتوقّع أن تقدم أطراً معينّة تناصر بها مواقف الرئيس الفرنسي، لكن هذا لم يحصل أبداً. فلا هي تبنّت فكرة ماكرون، ولا عارضت قول نتنياهو، خصوصاً بعدما قال: "عار على ماكرون الدعوة إلى حظر توريد الأسلحة لإسرائيل". وهذا ما يدعو للتساؤل عن دور اللوبي الصهيوني في فرنسا ومقدار تغلغله في الدوائر السياسية والإعلامية.
فيما يخصّ الحرب الإسرائيلية على لبنان، تقف فرانس 24 على الحياد، هي التي لم تدافع عن مواقف الرئيس الفرنسي الذي عارض السياسة الإسرائيلية أكثر من مرة، ليس غريباً عليها ألا تنصف الجانب اللبناني. تغطّي أخبار التوحّش الإسرائيلي بنوعٍ من التبرير له، كأن تذكر مراراً، أن القصف الإسرائيلي يتركز داخل الأحياء والمربعات السكنية القريبة من منشآت لحزب الله/ وأن إسرائيل تستهدف معاقل الحزب وسط المدنيين في جنوب لبنان.
- تابعت فرانس 24 أخبار القصف اليومي والشهداء والخسائر، عبر ذكر الإحصاء شبه اليومي لتعداد الضحايا. يتحوّل الضحايا في أي بؤرة صراع إلى أرقام فقط. لا فرق بين أرقام الشهداء والضحايا في لبنان أو غزة أو السودان. لم تعرض فرانس 24 قصصاً إنسانية أو مقابلات مع ذوي الضحايا على غرار ما قامت به بي بي سي. ربما لا تهمّها التفاصيل الإنسانية، على حساب العناوين السياسية فقط.
- في أحد تقاريرها تابعت أخبار النازحين بسبب الغارات الإسرائيلية. أين ينامون وكيف يأكلون؟ لكنها أخذت الموضوع إلى السجال الطائفي والمذهبي الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، حين تحدّث البعض عن التخوّف من النازحين، وعن طرد حزب الله من البلاد، وادّعاءات البعض أن الأهالي طردوا بعض النازحين غير المرغوب بهم.
- في أيام الغارات الوحشية على مدينة بعلبك، لم تتعب فرانس 24 نفسها في الحديث ولو قليلا عن رمزية بعلبك وتاريخها الحضاري. عندما دمرت حركة طالبان تمثال بوذا في باميان في وسط أفغانستان، البالغ ارتفاعه 38 مترًا، قام العالم ولم يقعد وهو يتحدث عن همجية الإسلام والمسلمين. أما حين قصفت إسرائيل كل الأحياء الأثرية في النبطية وصور وبعلبك وفي غزة أيضاً، فقد أصيب العالم بالبكم والشلل التام.
- نقلت المحطة عن منسقة الأمم المتحدة الخاصة في لبنان قولها، إن معاناة المدنيين وصلت إلى مستوى غير مسبوق بعد الغارات الإسرائيلية في الجنوب، لكنها لم تعلّق على موضوع المعاناة والغارات الإسرائيلية.
- تلخّص فرانس 24 نظرتها للحرب الإسرائيلية على لبنان بأنها "مجرد حملة عسكرية بعد تصفية كبار قادة حزب الله"، وتنقل عن الوكالة الوطنية للإعلام أن "عددَا كبيرَا من الدبابات الإسرائيلية وصل إلى الأطراف الشرقية لبلدة الخيام، في أعمق نقطة يصلها الجيش الإسرائيلي منذ بدء عمليات توغله في جنوب لبنان نهاية أيلول/سبتمبر". تناولت القناة موضوع دخول الإسرائيليين إلى بعض أطراف القرى، لكنها لزمت الصمت عندما انسحبوا بفعل دفاع المقاومين ونيرانهم، بمعنى أنها لا تتحدّث عن عجزهم أمام قوة المقاومة، ولا عن تجذّر المقاومين في أرضهم.
- شاركت فرانس 24 باستقصاء وضعية مستشفى الساحل بعد تهديدات أدرعي الذي زعم في 21 أكتوبر 2024، وجود مخبأ للنقود والذهب في نفق لحزب الله يخفي فيه نصف مليار دولار تحت مستشفى الساحل في بيروت. قدّمت المحطة عدة تقارير وحلقة حوارية خاصة لمناقشة الموضوع، وتحدّثت عن حرص الأطباء على أن يشاهد الصحافيون كل ما هو موجود للتأكد من عدم وجود أي شيء مثير للشبهات هناك. ثم قامت فرانس 24 بعرض التقرير الخاص الذي قامت به شبكة بي بي سي البريطانية من خلال مراسلتها أورلا غيرين، التي استقصت واقع الطوابق السفلية للمستشفى، وصوّرت فيديو خاصاً من الطابق الثاني تحت أرض المستشفى تم تداوله على نطاق واسع عبر الإنترنت.
- هناك أخبار كثيرة تتعلّق بيوميات الحرب الإسرائيلية على لبنان، لكن الشبكة الفرنسية تكتفي بنقل الأخبار وتداولها، بمعنى أنا تنقل الأخبار السائدة، ما يعطي انطباعاً بأنها ربما، لا تملك فرقاً بشرية عاملة على الأرض كغيرها من المحطات، أو ربما من باب الاستسهال، فهي تنقل مثلاً خبر (مقتل) استشهاد رئيس بلدية النبطية مع آخرين، في غارة إسرائيلية على جنوب لبنان، من دون أن تنوّه وتعرّف العالم بالحقائق، فأعضاء البلدية كانوا يقومون بأعمال إغاثة، وكذلك الطواقم الطبية والإسعافية، الذين لم تذكرهم فرانس 24، ربما لأنها لم تعرف أن حوالي 200 مسعف مدني قتلتهم إسرائيل عن سابق إصرار وتعمّد.
تموضع الرؤية الإعلامية لشبكة فرانس 24 تجاه حزب الله
- لا بدّ من الإشارة دائماً، إلى إن تموضع الرؤية الإخبارية والتحليلية لأي مؤسسة إعلامية، تعود بدرجة أولى إلى اتجاهات الكاتب/ المحرر، وإلى ميوله السياسية والفكرية. بناءَ عليه تأتي التغطية الخبرية، محايدة أو مدافعة أو شامتة أو متألمة. يقوم جزء كبير من تحليلات فرانس 24 على الرؤية الخاصة لـمارك ضو مثلاً وهو شخصية معادية لسياسة حزب الله ومنهجه وأهدافه.
- ترى فرانس 24 أن "حزب الله اللبناني تكبّد خسائر بشرية ثقيلة في صفوف قيادته السياسية والعسكرية، إثر معركة الإسناد التي يخوضها مساندة لغزة، كان أثقلها اغتيال زعيمه حسن نصر الله في غارة إسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية. وتمكنت إسرائيل من اغتيال عشرات القادة في الحزب طيلة عام من الصراع على الجبهة الشمالية".
- تهتم المحطة – كغيرها من وسائل الإعلام المحلي والغربي- بمتابعة القدرات القتالية لحزب الله بعد الضربات المتتالية، ومعرفة أفق هذه القدرات. في هذا السياق قالت المحطة: "بعد أكثر من شهر على اندلاع الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله، لا يزال الحزب الشيعي قادراً على إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة وحتى الصواريخ الدقيقة في عمق الأراضي الإسرائيلية، بالرغم من مقتل معظم قادته السياسيين والعسكريين، وعلى الرغم من اغتيال معظم قيادته السياسية والعسكرية، لم تخفت قوة حزب الله. يُعتقد أن لديه نحو 50 ألف مقاتل، نصفهم من الاحتياطيين، وما يصل إلى 200 ألف صاروخ، بعضها قادر على ضرب أهداف في عمق الأراضي الإسرائيلية".
- أفردت فرانس 24 تقريراً خاًصاً للتعريف بشخصي الأمين العام الجديد لحزب الله، بعنوان: "من هو نعيم قاسم الأمين العام الجديد لحزب الله الشيعي"؟
- اهتمت المحطة أيضاً بموضع الاستهداف الصهيوني لمؤسسات "القرض الحسن" في لبنان. أفردت حوارات ومحطات، لمعرفة التداعيات المالية على الحزب، والخسائر الاقتصادية وإمكانية التعويضات للمتضررين (مع العلم أن أحداً لم يشكُ من الضرر أو الخسائر)، لكن أبواق الإعلام المعادي للمقاومة تكلّم كثيراً عن "قطع الرواتب" و"خسارة الذهب والأموال" وما يشبه هذه الأقاويل المغرضة.
- نشرت فرانس 24 تحقيقاً بعنوان "كيف تمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من اختراق صفوف حزب الله واغتيال نصر الله"؟ وقالت إن الأهداف النوعية التي أصابتها إسرائيل ضد حزب الله، كتدمير مواقع الأسلحة وتفخيخ أجهزة الاتصالات واغتيال الأمين العام، تثير أسئلة ملحة حول قدرة الدولة العبرية على اختراق عدوها اللدود، محاولة الإجابة على تساؤلات، كيف تمكنت من ذلك؟ وأين تكمن الثغرات في صفوف حزب الله الشيعي؟ وهل سيلجأ حزب الله إلى شكل أكثر تواضعاً من حرب العصابات بعد الضربات الإسرائيلية الموجعة؟
- بحسب تحليلات فرانس 24 ومحرّريها "ضعفت الحركة الشيعية اللبنانية كثيراً جراء اغتيال نصر الله، والقضاء على كل قيادتها العسكرية تقريباً، واختراق نظام اتصالاتها".
- استهل مارك ضو مقالة تحليلية مطوّلة عبر فرانس 24 باستعادة مقولة سماحة السيد نصرالله، "نريدهم [الجنود الإسرائيليين] أن يدخلوا الأراضي اللبنانية (...) إذا جاؤوا إلينا، فسيجدون منا كل ترحيب، لأن ما يعتبرونه تهديداً، نعتبره نحن فرصة تاريخية". فكتب ضو (الشامت) "هكذا قال حسن نصر الله ساخراً خلال خطاب ألقاه في 19 أيلول الماضي قبل اغتياله. كان ذلك آخر خطاب لزعيم حزب الله قبل اغتيال الجيش الإسرائيلي له بعد ذلك بثمانية أيام، في قصفٍ مكثّف لمقر الحزب تحت الأرض في الضاحية الجنوبية لبيروت".
- ترى فرانس 24 أنه "على الرغم من أن الحزب الموالي لإيران كان يحلم بهذه المواجهة المباشرة مع إسرائيل لكنه لم يعتقد أنها ستقوده إلى هذه الحالة الحالية من الفوضى بعد اغتيال أمينه العام وتصفية جميع أفراد قيادته العسكرية تقريباً. كما أن الانفجارات الأخيرة لأجهزة النداء الآلي/ البيجر التي يستخدمها عناصر حزب الله تشير إلى اختراق إسرائيلي عميق مفترض لمنظومة اتصالات الحزب".
- تحت عنوان "الانتشاء بخطاب النصر الإلهي" رأى مارك ضو في فرنس 24 (هو ينقل وجهات نظر غربية محضة ويعبّر عن نمط التفكير المعادي) أن الضغوط العسكرية الإسرائيلية والضربات التي تعرض لها الحزب في الأسابيع الأخيرة، تجبره على العودة كما في بداية نشأته، إلى الأساسيات التي كانت في بداية الثمانينات، أي الاعتماد فقط على الدعم المالي واللوجستي من إيران. ورأى أن محاولة لملمة جراحه ستستغرق شهورا إن لم يكن سنوات، لأن إسرائيل تسيطر على طرق إمدادات الأسلحة. ولن تسمح إسرائيل لحزب الله بتجميع ترسانة جديدة كما حدث على مدى السنوات العشرين الماضية، وفق تقدير كريستوف عياد، مراسل صحيفة لوموند الذي ألّف كتاب "الجغرافيا السياسية لحزب الله"، بحيث تكون الخلاصة وفق تحليلات فرانس 24، أن حزب الله سيعود إلى شكل أكثر تواضعاً من أشكال حرب العصابات.
- بحسب مواقف فرانس 24 ورؤيتها الإعلامية، فإنّ الإستراتيجية الجديدة لحزب الله لا تتطلب قيادة أو أنظمة اتصالات متطورة للغاية، "إن وحدات حزب الله تتكون من خلايا مستقلة تشمل جميع أشكال المقاتلين داخل مجموعة واحدة". فهم غالباً ما يتألفون من رجال من جنوب لبنان يحفظون عن ظهر قلب التضاريس ومخابئ الأسلحة والأنفاق، وبالتالي فهم قادرون تماماً على القتال من مكانهم"، وبحسب القناة فإنّ حزب الله "الذي يعوّل منذ البداية على أن أي حرب برية قادمة ستكون تكراراً لحرب تموز 2006، وقع في فخّ خطابه حول النصر الإلهي، وأن ما جرى آنذاك سيجري أيضاً في قادم الأيام". وغالبا ما تكون هذه مشكلة المنتصرين، مثل فرنسا التي كانت تستعد للحرب في 1939 بذات عقلية الحرب العالمية الأولى 1914-1918: من خلال إنشاء خط ماجينو الذي سقط لاحقاً".
- أوردت فرانس 24 أن "الجيش الإسرائيلي فشل في 2006، لأنه اعتقد أن بإمكانه التعامل بفعالية مع مجموعة حرب عصابات صغيرة عبر عملياته العسكرية. ومع ذلك، فإنه وجد نفسه في مواجهة مقاتلين أحسنوا التجهز والتدريب. وإذا كان حزب الله قد مني بانتكاسات كبيرة للغاية في 2024، فلأنه اعتقد أنه سيكرر حرب 2006". لكن ديفيد وود، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، قال إن حزب الله ليس في موقف ضعف حيث يقبل أي شروط من أجل الحصول على هدنة.
خاتمة
- تبدو تغطية المحطة الفرنسية فرانس 24 أقرب إلى تبنّي وجهات النظر الإسرائيلية، من وجهات النظر اللبنانية أو الفلسطينية التي تتبنّى خيار المقاومة.
- هي نموذج لانحياز الإعلام الغربي نحو السرديات الإسرائيلية، من خلال عدم الإضاءة على المجازر الإسرائيلية، وعدم استخدام مصطلح الإبادة، الذي يوصّف التوحّش الإسرائيلي سواء في فلسطين أو لبنان.
- لا وجود للتغطية الإعلامية الإنسانية، التي تنقل آلام الناس وأوجاعهم. تكتفي فرانس 24 بتغطية إخبارية جامدة، على مسافة واحدة من الظالم والمظلوم، ومن الضحية والجلاد.
- على الرغم من كونها محطة فرنسية رسمية لكنها لم تدافع عن الرئيس الفرنسي ماكرون، حين هاجمه نتنياهو وهاجم سياساته.
ظهر الفارق المهني كبيراً بين السلوك الإعلامي لفرانس 24 والسلوك المهني للـ بي بي سي مثلاً، على الرغم من السياسة البريطانية المناصرة علناً والداعمة للعدو الصهيوني ولمواقفه الاحتلالية والاستيطانية، والسياسة الفرنسية غير الراضية عن سياسة نتنياهو.