رسمت مواقع التواصل الاجتماعي والميديا أو ما يسمّى بالعالم الافتراضي، معالم مرحلة تفاعلية جديدة في المجتمعات البشرية، لكن ليس بالضرورة كل تفاعل يمكن وصفه بالتفاعل الإيجابي، وليس بالضرورة ألا يتم تحويل هذا العالم إلى فرصة تتكامل مع الفرص الأخرى.
وتعتبر مواقع التواصل الاجتماعي مجالاً حرّا إلى حد ما لتعبير الفرد عن ذاته المفقودة في وحول الاستبداد والقمع، ومع ذلك يمكن اعتبار هذه المواقع أيضاً مرتعاً للاستخبارات وجمع المعلومات وكشف الهويات ورسم خارطة استهدافات لم تكن ظاهرة قبل ذلك، فضلاً عن فضاء آخر لهيمنة استبداد من نوع آخر، وتنفيساً للأفراد والمجتمعات المقموعة، يخفف من وطأة السّخط على السّلطات القامعة، مع إبقاء الحال على ما هو عليه، دون أدنى تغيير خارجي.
هذا فضلاً عن كشف ميول المجتمعات وتوجهاتها، وكحال أي وسيلة، فإن لصناع القرار ومبرمجين العقول دور محوري في هذه الوسائل والوسائط. ومن المبكر من وجهة نظري معرفة التداعيات الأخطر لهذه المواقع على وعي الفرد والمجتمعات، وعلى حصيلتها المعرفية، وقدراتها الإدراكية، وإنتاجها للمعارف ونوعيّتها، بل مطابقة ما يحدث فيها من جدليّات وفتن لحقيقة الواقع الخارجي.
إضافة لدورها في صناعة وعي افتراضي يفرض تصوراته ويقينياته على الواقع الخارجي الحقيقي، وهو ما قد يؤدي لسلوكيات خارجية عابرة للاستقرار الاجتماعي، ومخترقة لأمنه.
فكلنا يعلم كيف يتم تجنيد كثير من الشباب عبر هذه الوسائل، والوسائط، بل كيف يتم هدر أوقاتهم عليها، وصناعة شعور مزيف بالإنجاز، أو أمام الشعور بالعجز في نصرة القضايا المحقة والمصيرية كقضية الحرب على غزة على سبيل المثال، يخوض معاركه في هذه الوسائل بطريقه تعوّضه عن شعوره بالعجز، فيعتقد أنه بذلك أنجز مهمته وأدّى مسؤوليته اتجاهها، دون أدنى حراك خارجي يحقق تغييراً في هذه القضايا على أرض الواقع، وهو ما يعتبر هدر للطاقات والجهد، بينما المعركة الحقيقية تحدث في واقع مغاير موازٍ، يواجه تحديات عظام، يُسَخّر فيها أعداءها كل طاقتهم في ميدان المعركة الحقيقي، بينما أغلبنا يعيش معاركه المفصلية والمصيرية بالنسبة له في العالم الافتراضي البعيد عن الواقع.
لكن ذلك لا يعني أبدا سلبيتها بالمطلق، بل لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً هاماً برز بشكل جليّ بعد الحرب على غزة، حيث كسرت هذه الوسائل هيمنة الرواية الرسمية للحكومات الغربية على وسائل الاعلام التي كانت محصورة في محطات كبرى، وتعددت بذلك وسائل نقل الأخبار، وفهم الواقع السياسي خارج الإطار الرسمي للدولة، وإن لبس لباس حرية التعبير، والتعددية، لكن واقعه كان يجسد غالباً آراء موجهة بطريقة ناعمة، وهذا ما كسرته وسائل التواصل الاجتماعي، وكشفته لوعي الشعوب الغربية.
وما تداعي هذ الشعوب بأغلبها، وتظاهرات الجامعات الكبرى، إلا استجابة في الأعم الأغلب لطبيعة التفاعل بينها وبين مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة فيما يتعلق بأحداث غزة التي كشفت لهم الحقيقة، وأذابت جليد الرواية الرسمية الذي دام عقوداً.
نقدّم لكم في هذه المادة تحليلاً معمقاً لمسرح التواصل التفاعلي في حرب طوفان الأقصى. بإمكانكم تحميل الدراسة بشكل كامل أسفل المقتطف أدناه الذي يقتصر على توجهات النخب في العالم العربي والإسلامي منذ انطلاقة طوفان الأقصى، بالإضافة إلى خاتمة الدراسة.
وفق استقراء لواقع النخب في العالم العربي والإسلامي، من خلال رصد تفاعل أغلبها في مواقع التواصل الاجتماعي منذ انطلاق طوفان الأقصى يمكننا القول إنها انقسمت إلى عدة توجهات:
أولاً، نخبة مارست دورها المعتدل في قراءة الواقع، وتحليله وفق معطيات ومعلومات، ومعرفة مساحات تخصصها، وإن أبدت ملاحظات نقدية باتجاهات محددة، لكنها في صالح المسار العام، ولم تتحول منصتها إلى مصدراً لتصدير الفتن، وشق الصفوف.
ثانياً، نخبة كان دورها سلبيّا وغير متفاعل مع فلسطين وقضيتها، واكتفت بإكمال حياتها الاعتيادية، وكانت تركز على نشاطات ثقافية وأدبية، وأفكار بعيدة عن فلسطين وما يحدث في غزة، نأياً بالنفس عن أي ملاحقات أمنية، أو عن تهميشها وإبعادها عن ساحة التفاعل الثقافي، بالتالي تضرر مصالحها.
ثالثاً، نخب متفاعلة جدا وهذه انقسمت إلى:
- ناقلة للحدث، وناقدة لبعضه، تحت ضغط مشهدية الدم والمجازر، والخذلان العربي والإسلامي، واستفراد الصهاينة بغزة وأهلها ومقاومتها، لكن نقداً طال الواقع الميداني العسكري، وغالباً هي بعيدة عنه، وإن كان النقد حق، لكنه مقيد بشرط الزمان، والمكان، والفاعلية، وكلنا يدرك أنه في الحروب تؤجل النقود إلى وقف الحرب، وبعدها يصار إلى تقييمات وإعادة نظر، وسماع وجهات النظر الناقدة، فالأصل في النقد هو إحداث تغيير وتطوير من قبل المختص في ميدانه، وهذا غير متحقق إن من حيث التخصص، أو من حيث فاعلية التغيير والتطوير وقت الحرب من غير أهلها، أي المقاومين وقيادات المقاومة.
- نخبة واجهت هذه الفئة الناقدة، بنقد مضاد، بعضه شخصاني غير لائق ومتهافت، وبعضه عقلاني منطقي وعلمي أثرى الآراء، ونوع زوايا النظر، وطور وعي المتلقّي، وهؤلاء قلة.
- مجموعة من النخب لم تتفاعل مع الجدليات المطروحة، واكتفت بمواجهتها من خلال طرح الرؤى بأسلوب علمي ومنطقي، وقراءة الحدث السياسي وفق رؤية استراتيجية عميقة، أي قدمت البديل الصالح للمتابعين، دون التلوث بنيران الفتن، وبطريقة منهجية بعيدة المدى.
- نخبة وظيفتها كانت صناعة الفتنة بسبب التحيزات الإدراكية، مذهبية كانت أو طائفية، أو بسبب الشعور بالعجز، وعدم القدرة على نصرة غزة، لا بالكلام ولا بالفعل، فكانت تستثمر وجودها بطريقة سلبية.
- نخبة موجهة من قبل الحكومات الأمنية الإلكترونية، وهذه متواطئة مع كيان العدو ضد غزة، بالتالي كانت مهمتها صناعة الفتن لشق الصفوف، وتفكيك الإجماع حول المقاومة كخيار استراتيجي للأمة في مواجهة كيان الاحتلال، وللتقليل أو تشويه فعل المقاومة، والتشكيك بفاعلية محور المقاومة وضرب مصداقيته فيما يتعلق بنصرة فلسطين.
نموذج غزة هو النموذج الأجلى لدور الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، في عمليات الإغراق المعلوماتي وانهيار الإدراك، والفارق بين طريقة استخدام هذه الوسائل من خلال مبدأ إدارة الانتباه والوعي الافتراضي المبني على التدافع والتفقه من قبل النخب الالكترونية والإعلامية والثقافية غربية كانت أو عربية، وبين طريقة أغلب مثيلاتها في منطقتنا، وفق مبدأ المحاصرة وكي الوعي. وهو النموذج الكاشف للفارق الكبير بين ميدان المعركة العسكرية المتفوق في جبهات المقاومة، ومعركة الوعي في عقر دار جبهات المقاومة، أي حواضنها ونخبها، الذين خسر أغلبهم المعركة مراراً وتكراراً، وهو ما يتطلب انتباه، وإدارة جادة تضع في حسبانها أهم تحديات هذه الساحة وإشكاليّاتها، وكيف يمكن معالجتها فكرياً ومعرفياً، وما هي الوسائل لذلك والآليات، أو ما أسماه المفكر السياسي الأميركي جوزيف نايْ "الذكاء السياقي"، وهو القدرة على استيعاب ظروف الزمان والمكان والإمكان، وما يترتب عليها من ترتيب الأولويات، واختلاف الواجبات، ومَراتب المسؤوليات. فهذه ثغرة خطيرة يجب ردمها، فنجاحات ميدان العسكر، يهدرها غالبا خيبات معركة الوعي.
الكاتب: إيمان شمس الدين