في الوقت الذي تُجمع فيه كل النظريات الإعلامية والأخلاقية على مساندة المقاومة المحلية عند التعرّض لعدوان خارجي، يتميّز بعض الإعلام اللبناني بعكس ذلك، إذ تلاحظ جهوزيته الدائمة لمساندة العدوّ وخدمة أهدافه والتصويب على المقاومة عند أي عدوان (قناة MTV مثلا).
فكيف كانت تغطية بعض الفضائيات اللبنانية للحرب الإسرائيلية على لبنان خلال الأسابيع الأخيرة؟
هل كانت موضوعية فقط؟ أو داعمة للمقاومة ومواقفها وجهادها الميداني؟ أو حيادية؟
فيما يلي، عرضٌ للسلوك الإعلامي المحلي، مبنيّ على متابعة أبرز ثلاث محطات فضائية لبنانية، هي LBC وMTV وقناة الجديد.
الرسائل الداعمة والمعادية للمقاومة
إذا بدأنا من مفترق استهداف السيد حسن نصرالله، والتعامل الإعلامي معه من قبل هذه الفضائيات، فإن قناتي الجديد والLBC أبديتا عميق التأثر، الذي ظهر من خلال الأصوات الباكية والانفعالات الغاضبة وتجلّيات الحزن وسواها، في الوقت الذي ظهر فيه مذيعو MTV بحال من نشوة الظفر وتحقيق الانتصار، كما دلّت نبرات الصوت وملامح الوجه وطريقة الكلام.
منذ ذلك المنعطف التاريخي سلكت الفضائيات اللبنانية مسالك وعرة إعلامياً. كان -ومازال- مطلوباَ منها أن تقوم بالتغطية على مدار الساعة، وأن توزّع مراسليها في مناطق متعددة وجبهات ساخنة، وأن تفتح هواءها المباشر معظم الوقت لشخصيات سياسية وإعلامية وعسكرية، كثيرها غثّ وقليلها سمين.
لا مآخذ على أداء قناتي الجديد وال LBC، بقدر الانتقادات الكثيرة التي طالت قناة MTV لتموضعها بوجه المقاومة إلى جانب الخيارات المعادية لها.
- عملت محطة ال LBC على إلغاء برمجتها العادية لتكون على بثٍّ مباشر لكل ما له علاقة بالعدوان، حوارات ومراسلين وتغطية مباشرة ودائمة.
- لوحظ أيضاً إنتاج المحطة لبعض الفلاشات السريعة، منها على سبيل المثال فلاش ترويجي بعنوان "وحدتنا أقوى" وهو إنتاج يُحسب للقناة، خصوصاً بالنسبة لتوقيته، في أيام العدوان والنزوح الشيعي الموزّع في كل المناطق اللبنانية.
- نشرت القناة مجموعة جديدة من المراسلين الموزّعين بين الجنوب والبقاع كي تقدم للمشاهد فرصة متابعة الأحداث في معظم الأماكن، وعن قرب.
- يجب الإشارة والإشادة، بالدور الذي تقوم به مراسلة القناة في فلسطين المحتلة، آمال شحادة، من خلال صياغة معلوماتها، وتركيزها على الأثار السلبية للحرب في المجتمع الإسرائيلي.
- كان لافتاً أن الخطاب شبه العام للقناة، هو تبنّي وجهة نظر المقاومة والدفاع عن خياراتها وعن بيئتها، بحيث كان هناك ترجيح لمواقف المقاومة ونقل كل ما ينقل عنها. مثلا، التغطية الدائمة والمباشرة لجولات نواب حزب الله على المناطق وإفساح المجال والهواء لهم، ولمواقفهم، بينما هذا الأمر لا يهمّ قناة المر MTV.
- بطبيعة الحال استقبلت القناة ضيوفاً مؤيّدين للمقاومة وضيوفاً غير مؤيدين، لكنها لم تظهر عداءً صارخاً أو كراهية تحريضية أو لغة شماتة.
- هي الأكثر نشاطاً ميدانياً وحركة ميدانية أيضاً، من خلال مروحة كبيرة من المراسلين العاملين في مختلف المناطق اللبنانية.
- تقوم بالتغطية على مدار الساعة لكل الأحداث الناتجة عن الحرب.
- أعطت حيّزاً واسعاً من الاهتمام والمتابعة بالنقل المباشر للحملة الإغاثية الإماراتية "حملة إغاثة لبنان"، تحت عنوان "الإمارات تلبي نداء الإنسانية لتخفيف معاناة اللبنانيين" وفتحت الهواء للسفير اللبناني في الإمارات للحديث عن الحملة التي أطلقتها الإمارات (الأمر نفسه فعلته LBC)، وهو اهتمام يفسَّر بالحرص على العلاقة الإيجابية بين دولة الإمارات والقائمين على هذه المؤسسات الإعلامية، (لأسباب متعددة) على الرغم من التواطؤ السياسي الكبير الذي تقوم به الإمارات من خلال علاقاتها العلنية مع الكيان الإسرائيلي.
- على غرار قناة LBC، تعمد قناة الجديد خلال البث والتغطية إلى تقسيم شاشتها إلى خمس أو ست شاشات، لإعطاء مزيد من التفاصيل والصور المباشرة لجمهورها، ما يدلّ على الاهتمام بمتابعة أحداث الحرب وإعطائها الأولوية.
- لا يوجد لقناة الجديد مراسل من الداخل الفلسطيني مثل مؤسسات إعلامية أخرى، لكن مراسلها الموجود في عمق الجنوب اللبناني (محمد فرحات) منذ بداية الأحداث، يقوم بتغطية متميّزة.
- كان هناك تركيز كبير على مسألة التضامن اللبناني الداخلي وأهمية الاتفاق على المصلحة اللبنانية الاجتماعية والسياسية.
- تكاد تكون الفضائية الوحيدة التي تابعت بثّ برامج اعتيادية في الأوقات المستقطعة، فهي تفتح أثيرها لما كانت عليه قبل الحرب، وفي أوقات أخرى لا تتحرّج أبداً من عرض المسلسلات المحلية والتركية وسواها.
- خصّصت برنامجها الأسبوعي الاستقصائي "تحقيق" إلى مساحة لتمرير رسائل تناسب سياستها واتجاهاتها. فقد عملت كلود أبو ناضر هندي لتقدّم حلقة خاصة عن بضعة أطفال من قرى رميش وعين إبل! أُعطي الهواء والبث لثلاثة أطفال يحكون عن يومياتهم في الضيعة، كيف كان القصف، وكيف خرجوا من الضيعة، وأي طريق سلكوا...الخ. اختصرت هذه الفضائية بكل بساطة ولامبالاة، حرباً كاملة من الإبادة، في كلام ثلاثة أطفال يشتاقون لبيتهم وألعابهم في رميش وعين إبل، اللتين لم تعرفا يوماً واحداً من عمق المعاناة، التي يعيشها الجنوب والبقاع وبيروت. نحن هنا بصدد ولادة مصطلحٍ جديد، يصحّ أن نسميه "العنصرية الوطنية". يعني أن تكون عنصرياً في بلدك، ضد فئة أخرى بداخل الوطن نفسه، تختلف معك في الأولويات وتعريف العدو. (حلقة أخرى من برنامج تحقيق الاستقصائي عن الوجود الشيعي في منطقة جبيل تحديداً، والمخاوف الجديدة التي يعاني منها البعض).
- مارست القناة لعبة الرأي والرأي الآخر. استضافت أشخاصاً يؤيدون مواقف المقاومة، لكنها وضعتهم بمواجهة سياسيين أو إعلاميين كارهين للمقاومة، وعند سخونة الحوار يبتسم المذيع ويقول بتدليس ظاهر: نحن نحترم كل الآراء ونقدم الرأي والرأي الآخر! (مع التوهين الدائم بكل ما يطرح من مواقف داعمة للمقاومة).
- تعمل هذه الفضائية لترويج السردية الأميركية والإسرائيلية، التي تكرر مقولة "العودة 24 سنة إلى الوراء"، وأن حزب الله جرّ لبنان كلّه للحرب والمآسي والتشرد على الطرقات.
- كانت القناة سبّاقة في حديثها عن ضرورة تطبيق القرارات الأممية، ليس 1701 فحسب، بل نادت قبل سواها، بأن على لبنان العودة الآن، وبانكسار وإرغام، لتطبيق القرار 1559 وما قبله من قرارات، وصولا للقرار 425. على اعتبار أن الزمن عاد بلبنان ربع قرن للوراء.
- لوحظ تصويب القناة على المقارنة الدائمة بين التفوق التكنولوجي الإسرائيلي مع إمكانيات حزب الله، كنوعٍ من بثّ الروح الانهزامية ومجاراة الواقع، أمام امتلاك سلاح الجو والقوة التدميرية الهائلة لدى الجانب الإسرائيلي.
- عملت قناة MTV في الأيام الأولى التي تلت استهداف القيادات والسيد نصرالله، على التعاطي مع حزب الله وكأنه انتهى من الوجود اللبناني وزال بشكل تام. حتى أن أحد الضيوف المسيحيين وغير المؤيدين للمقاومة، "فرمل" اندفاع المذيعة المتحمّسة جداً في أحد الحوارات، وقال لها: مهلك مهلك، التوازن في البرلمان ما زال على حاله ولم يتغيّر شيء في موازين القوى السياسية والبرلمانية، فالكتل النيابية مازالت على حالها.
إن دلّ هذا النموذج الإعلامي على شيء، فهو يدلّ على العقلية السائدة في المناخ الإعلامي لدى البعض ممن يؤيد مواقف ال MTV وطروحاتها الإعلامية والسياسية. إنهم ينتظرون المقاومة وحزب الله عند أول منعطف كما يقول المثل. هذه الرسالة الإعلامية لا يمكن ترجمتها إلا بمعرفة مستوى التربّص الذي يكنّه بعض شركاء الوطن.
- الملاحظ أيضا، أن معظم الرسائل الإعلامية السلبية، كانت تطلق أولاً عبر الإعلام الإسرائيلي والخليجي، ثم يتلقّفها بعض الإعلام المحلّي ويناقشها أو يسوّق لها. نتحدث مثلاً عن سريان وتعميم مقولات مثل: "الجميع كان مخدوعاً بوهم الشعارات الزائفة لدى حزب الله، من صدّقها فالحق عليه، حتى الأمين العام السيد نصرالله لم يستطع حماية نفسه".
- غلبت على القناة المذكورة نبرة الشماتة والتشفّي ونبش الأحقاد وصناعة الفتن وإثارة التخويف من بيئة المقاومة.
تحديد الرسائل الإعلامية السلبية الموجّهة
- أجمعت أكثرية المحطات الإعلامية اللبنانية (وغير اللبنانية) على استخدام جملة "أكبر ضربة وجّهت للحزب منذ تأسيسه"، وقد استخدم هذا الطرح التعبيري كمدخل للاستفهام، عن كيفية الخروج من الأزمة، أو التعافي من الصدمة المترتّبة عليه، مع عدم التغافل عن اللهجة الشامتة التي كانت تواكب السؤال لدى بعض المذيعين والمذيعات وضيوفهم من المناوئين لنهج المقاومة، قناة MTV مثالاً.
- تداولت وسائل الإعلام، مصلح "التغيير القادم" بعد الضربات الإسرائيلية العنيفة، على اعتبار أن الضربات أقوى من احتمالها، وهي ستؤدّي لتراجع الحزب عن أهدافه وطروحاته. وفي الوقت الذي كان فيه طرح قناة الجديد وقناة ال LBC متوازناً وغير استفزازي عن تغييرات قد تأتي، كانت النبرة على MTV أكثر استعلاءً وهي تسأل بنوع من الفرح أو النصر عن السيناريوهات القادمة بعد هزيمة حزب الله. (لبنان ما بعد حزب الله!)
- طُرِح موضوع ضرورة الإسراع بانتخاب رئيس جمهورية، كرسالة إعلامية وسياسية بارزة منذ الليلة نفسها التي استهدف فيها مقرّ قيادة حزب الله. هذه الرسالة الإعلامية والسياسية أعطي الضوء الأخضر لها منذ استهداف السيد نصرالله وقبل الإعلان الرسمي عن استشهاده، بحيث كشف هذا التداول بوضوح عن النوايا الأميركية والإسرائيلية. وهي رسائل وُجّهت في البداية عبر الفضائيات العربية والإقليمية قبل أن يتحدث عنها الإعلام اللبناني، الذي قاربها بتلقائية موضوعية، كما فعلت قناة الجديد أو LBC، بخلاف قناة MTV التي طرحتها كاستثمار سياسي يجب توظيفه بقوّة للإجهاز النهائي على حزب الله وقوته في لبنان، مع الغمز الدائم من شخصية رئيس مجلس النواب نبيه بري باعتباره البقية الباقية من القوة الشيعية.
- واحدة من أهم الرسائل الإعلامية التي طرحت مؤخراً هي الترويج لمقولة "التخلّي الإيراني عن لبنان". وصل الأمر إلى إطلاق شعار "لقد باعوا الحزب والسيد والمقاومة مقابل النووي". هذه الرسالة كانت سيئة المفعول وسيّئة الأثر، لأنها أطلقت في أيام صعبة وظروف نفسية مضغوطة لدى البعض، ممن يمكن له تصديق أبسط ما يقال. وجرى تعميم بعض الأفكار من قبيل "الضربات هي للمشروع الإيراني في لبنان، إيران استعملت حزب الله كأداة لتحقيق مصالحها، لبنان رهينة تحت الوصاية الإيرانية التي ستنتهي الآن.
- الاستغراب وكثرة التساؤلات حول القدرات الفعلية للمقاومة. شكّلت هذه التساؤلات مناخات واسعة من الاستفسارات التي جاء بعضها عن حُسن نية، وبعضها عن سوء نيّة. وانتقل هذا العنوان من المؤسسات الإعلامية إلى الإعلاميين ثم إلى الضيوف المحاوَرين، ومنهم من يُطلق عليه تعريف "الخبير العسكري الاستراتيجي"، كثيرون من هؤلاء قالوا بشكل مباشر إنهم كانوا ينتظرون أن يطلق حزب الله 2000 صاروخ يومياً، فإذا بالرقم اليومي هو 200 الى 300 كحد أقصى. هذا الاستغراب وهذه التساؤلات أدّوا إلى استنتاجات احتمالية، ومنها مثلاً أن تكون الضربات الإسرائيلية قد طالتهم، أو أن ضرب القيادات أثّر على أداء المعارك وقدراتها القتالية.
- محاولات خلق أجواء انهزامية من خلال التركيز على قسوة الخسائر البشرية والمادية، التي لن تجد من يعوّضها إذا انتهت الحرب.