لا يكفي أن تدرس حرباً واحدة بشكل مستقل لتحكم على مدرسة عسكرية بالنجاح أو بالفشل بل لا بد من دراسة تطبيقات فن الحرب في هذه المعركة خاصة إذا كانت طويلة كمعركة المقاومة اللبنانية ضد العدو الصهيوني. حتى تخلص إلى استنتاج قوي ودروس وافية للحكم على المدرسة العسكرية التي تنتمي إليها هذه المعركة. في المقابل فإن تأثير هذه المدرسة السلبي على مناورة العدو وتطبيقاته لعقيدته القتالية وطرائق قتاله ومناهج تشغيل قواته يعني أن المدرسة ناجحة ويمكن دراستها والغوص فيها أكثر.
منذ انطلاقة المقاومة اللبنانية بعد اجتياح العام 1982 اختفى مصطلح الحرب الكلاسيكية أو حرب الجيوش من المفهوم العسكري الإسرائيلي وبدأت حقبة حرب المنظمات أو الشبكات التي طبقت مفهوم حرب العصابات وانتقلت به إلى مفهوم الحربين اللامتماثلة والهجينة (التي طبقت بشكل ممتاز في حرب أولي البأس في لبنان بين تشرين أول 2023 وتشرين ثاني 2024).
بالمقابل فإن جيش العدو طبق مجموعة كبيرة من التحولات في عقيدته القتالية لتتلاءم مع هذا النوع من الحروب غير الكلاسيكية التي لم تشهدها "إسرائيل" منذ انطلاقتها تقريباً. لأنه يمكن الجزم بأن المنظومة العسكرية الاسرائيلية القديمة أو الكلاسيكية توقفت عن الصراع العسكري مع الجيوش منذ معركة السلطان يعقوب عام 1982 ودخلت في نوع أعقد من الحروب وهو حرب العصابات بكافة أشكالها.
فهو أي العدو وإن كان قد شهدها بشكل مختصر في غزة والضفة بعد انطلاقة المقاومة الفلسطينية عام 1965 في طور المقاومة الأولى إلا أنه لم يشهدها بنفس الزخم الذي عايشه يومياً طيلة ما أسماه "حرب لبنان الأولى".
نتيجة لذلك دخل جيش العدو في عملية تكييف جذرية لمدرسته العسكرية لتلبي مطالب مواجهة حرب العصابات التي غرق بها منذ احتلاله لبيروت في 16 أيلول 1982.
اللافت أنه عندما طبق هذا التكييف لمدرسته القتالية في حالتي الدفاع والهجوم أعاد الوقوع بالخطأ مرة أخرى حيث اعتمد لمواجهة "حرب العصابات المنظمة" مجدداً على أدوات حرب الجيوش أو الحرب النظامية التي ترتكز على التفوق الجوي والاغراق الناري والعمليات الخاصة المبنية على شبكة استخبارات عسكرية قوية (فنياً وبشرياً).
إلا أنه واجه خلال الـ 42 عاماً الماضية عدواً متعلماً ومبدعاً رفع من مستوى حرب العصابات إلى فوق مستوى المفهوم الكلاسيكي المعروف بحرب "الغوار" التقليدية وأخذ يكيف ويضيف على مناهجها منظومات عملياتية (تعبوية) وتكتيكية جديدة تعتمد على دراسة ثغرات العدو ونواقصه وتكييف طرائقه العسكرية لقتاله بناء على الدروس المستخلصة مما أجبر العدو على بذل تفكير أكبر في تكييف نهجه القتالي يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة مع التحولات التي كان يفاجئه بها عدوه.
بين أيديكم توثيق وتحليل للمعركة الأخيرة التي شنها العدو على لبنان بين 23-9-2024 و27-11-2024 التي أسماها "سهام الشمال" وأسمتها المقاومة "معركة أولي البأس" والتي طبق فيها العدو بالتتالي ثلاث مناهج للحروب:
- حرب الصدمة والترويع (بين 23-9-2024 و1-10-2024)
- الحرب البر جوية (بين 2-10-2024 و16-10-2024)
- حرب المناورة البرية (بين 17-10-2024 و27-11-2024)
عكفنا على دراستها من جوانب متعددة واعادة تحقيق روايتها من مصادرها العلنية مع عرض للظروف التي حصلت فيها العمليات وتتبع هيكلياتها من الألف إلى الياء. وقد أعدنا بناء روايتها الكاملة بما أمكننا من تفاصيلها بأسلوب أكاديمي عسكري وذلك بهدف المساهمة في عرض سردية أقرب ما تكون من توثيق تاريخي لهذه المعركة.