الخميس 15 شباط , 2024 01:09

التجربة التركية في مواجهة الدولة العميقة

الرئيس التركي رجب طيب اردوغان

تشير الخبرة السياسية إلى تكرار نموذج الدولة العميقة في العديد من الدول خصوصاً في قارتي أوربا وأمريكا اللاتينية فمصطلح الدولة العميقة ليس حكراً على التجربة التركية، إلا أن المصطلح أصبح أكثر ارتباطاً بتركيا دون غيرها من الدول التي نشأ فيها، وعلى الرغم من أن الواقع السياسي التركي قبل وصول حزب العدالة والتنمية كان يبرهن على وجود تلك الدولة العميقة إلا أن دراسة أركانها كان يعد امراً بالغ الصعوبة دون انكشاف عناصرها وفك الألغاز التي تحيط بالكثير من ممارستها.

وتعتبر التجربة التركية من أشهر التجارب في هذا الصدد وذلك لأنها من التجارب المعاصرة التي ما زالت حية، إلى جانب الاهتمام الكبير بتلك التجربة من الرأي العام العالمي لما حققته الدولة التركية من تقدم في فترة لم تتجاوز عقد من الزمان، كما أنها من التجارب التي انكشفت فيها غالبية العناصر المشكلة لما يعرف بالدولة العميقة.

ومن أهم الخصائص المميزة للتجربة التركية حضور العامل الإسلامي، فعلى الرغم من هيمنة القوى العلمانية على الدولة واستئصال أي مظهر من مظاهر الدين سواء في العمل السياسي او الاجتماعي إلا أن مواجهة تلك الدولة العميقة تجسد في أحزاب ذات مرجعيات إسلامية حاولت العمل بشكل شرعي من خلال الانتخابات، وعادة ما كانت تحظى بالدعم الشعبي، ومع كل محاولة للدولة العميقة لتقويض تلك الأحزاب يزداد الدعم الشعبي لها عن ذي قبل.

ومن أهم تعريفات الدولة العميقة طبقاً للخبرة التركية أنها عبارة عن ” شبكة من العملاء الذين ينتمون إلى تنظيم غير رسمي، له مصالحه الواسعة وامتداداته في الداخل والخارج، وتمثل نقطة القوة فيه أن عناصره الأساسية لها وجودها في مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة، المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية، الأمر الذي يوفر لتلك العناصر فرصة توجيه أنشطة مؤسسات الدولة الرسمية والتأثير في القرار السياسي، وللدولة العميقة وجهان، أحدهما معلن وظاهر يتمثل في رجالها الذين يتولون مواقع متقدمة في مؤسسات الدولة والجيش والبرلمان والنقابات إلى جانب مؤسسات الإعلام ونجوم الفن والرياضة، والوجه الآخر خفي غير معلن يتولى تحريك الأطراف المعنية في مؤسسات الدولة لتنفيذ المخططات المرسومة".

وتُعرف كذلك الدولة العميقة في تركيا على أنها مجموعة من التحالفات النافذة والمناهضة للديمقراطية داخل النظام السياسي التركي، تتكون هذه التحالفات من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المخابرات المحلية والأجنبية والقوات المسلحة التركية والأمن والقضاء والمافيا، وهي تعبر عن دولة داخل الدولة، فالأجندة السياسية للدولة العميقة تتضمن الولاء للقومية ومصالح الدولة، ولكنها توظف العنف ووسائل الضغط الأخرى تاريخيا بطريقة خفية في الأغلب للتأثير على النخب السياسية والاقتصادية لضمان تحقق مصالح معينة ضمن الإطار الديمقراطي ظاهريا لخريطة القوى السياسية، من خلال ترسيخ اعتقاد بأن البلد دوما “على حافة الهاوية".

يعتبر ظهور الحركة القومية الطورانية التي تأثرت بالنظريات القومية في أوروبا، وكانت اسطنبول وسالونيك هما مركزا نشاطها، مدعومة بالأقليات غير المسلمة خصوصاً يهود الدونمة، المحرك الأساسي لزوال الدولة العثمانية، فقد نجح مصطفى كمال أتاتورك في 29 تشرين الأول/أكتوبر1923 في تأسيس دولة قومية تركية بديله عن الخلافة الإسلامية، وكان يسعى لأن تكون دولة عصرية حديثة على غرار الدول الغربية حيث كان يرى أن الوقت قد حان لأن ينظر الأتراك إلى مصالحهم ويقطعون صلتهم بالشعوب الإسلامية فأحل مبدأ القومية محل الخلافة.

وقام بحملة على المجتمع التقليدي في تركيا والمظاهر الدينية التي كانت تمثل أبرز معالمه وحارب ممارسات المجتمع وقمع رموزه وقام بإلغاء الخلافة الإسلامية في آذار/ مارس 1924 وكل المؤسسات المرتبطة بها، وكذلك ألغى المحاكم الشرعية الدينية وبدأ منذ عام 1925 في تغريب تركيا ثقافة وحضارة وممارسات، كما قام بتكريس دور الجيش كحارس للنظام الجديد.

ومنذ ذلك الحين (أي منذ قيام الجمهورية التركية) ظهرت قوى كبيرة تتحكم في تركيا منها: وسائل الإعلام القوية من صحف ومجلات وإذاعات، والقنوات التلفزيونية المتعددة، والمحاكم بمختلف مستوياتها ودرجاتها حتى الوصول إلى المحكمة الدستورية التي هي أعلى محكمة في تركيا، والتي أصبحت من أدوات القمع في يد العلمانيين المتطرفين، وكذلك المؤسسة العسكرية التي قامت بعدة انقلابات منذ عام 1960، وأعدمت رئيس الوزراء “عدنان مندريس”، وظلت قوية ومهيأة للانقضاض على كل حزب تراه خطرا على العلمانية في تركيا، حسب تقديرها واجتهادها، وإن خسرت بعض قوتها فى السنوات الأخيرة بفضل جهود أردوغان، وهناك الجامعات ورؤساء الجامعات وعمداؤها, ومؤسسة التعليم العالي التي تشرف على ما يقارب مائة جامعة, حيث تقوم بتصفية الأساتذة الذين يحملون اتجاهات إسلامية، وهناك المؤسسات المدنية القوية المعادية لكل اتجاه إسلامي، والنقابات اليسارية، والمؤسسة العسكرية السرية (الأرجنكون).

يرى فريق آخر أن بصمات أرجينكون بدأت تظهر على الحياة التركية بوضوح مع صعود القوي ذات التوجهات الإسلامية في الحياة السياسية التركية، وبالتحديد مع ظهور حزب السلامة الوطني عام 1972 وحصوله على 48 مقعد في البرلمان مكنته من المشاركة في الحكومة وتولى نجم الدين أربكان منصب نائب رئيس الوزراء،  فاستنفر العلمانيون المتطرفون قواهم وأصبح شغلهم الشاغل كيفية قطع الطريق عليهم وإفشال تجربتهم‏،‏ باعتبارهم يمثلون تهديدا مباشرا للعلمانية والتراث الكمالي‏.‏ وأصبحت هذه المهمة أحد أهداف منظمة ارجنكون‏‏، وأصبحت وراء أغلب القلاقل والاضطرابات التي شهدتها تركيا‏ منذ ذلك الحين حيث انتشرت في مختلف مفاصل الدولة حتى قدر أحد الخبراء أعضاءها بنحو‏40‏ ألف شخص‏.

في صيف 2007 اكتشف وكيل نيابة بمدينة اسطنبول مخزن سلاح وذخائر في منزل يعود لضابط تركي بإحدى ضواحي المدينة، وذلك أثناء التحقيق في قضية اغتيال ذات طابع سياسي غامض، وكان تصميم وكيل النيابة على كشف حادثة الاغتيال ومخزن السلاح الغريب، قد أوصل الأمور إلى ملف أرجنكون التي تم التحقيق بشأن نشاطاتها، وأوصلت التحقيقات في غضون شهور قليلة وكلاء النيابة العاملين في القضية إلى تورط ضباط عاملين في الجيش وإلى قلب المؤسسة العسكرية، واستدعى استمرار التحقيقات أن يطلب رئيس الوزراء من رئيس الأركان السماح لوكلاء النيابة بدخول ما يعرف بالغرفة الكونية في قيادة أركان الجيش، الغرفة التي يحفظ فيها أكثر أسرار المؤسسة العسكرية حساسية، ولم يحدث أن دخلها مسؤول مدني قط من قبل.

ولقد قامت سائل الإعلام التركية – وثيقة الصلة بمنظمة أرجنكون – بتلفيق العديد من القصص التي تشوِّه صورة الإسلاميين وتحاول إقناع الناس بأنهم ليسوا منحرفين سياسيا فحسب، ولكن منحطين أخلاقيا أيضا، وكان للمشايخ حظهم الأوفر من التشهير الذي تعمد تقديمهم بحسبانهم أفاقين وشهوانيين ولا هم لهم سوى ممارسة الجنس والاتجار في الأعراض، وكذلك حملات التشويه التي تخوف الأتراك من عودة الخلافة، ومن شبح الشريعة، وربطها بالتطرف والإرهاب.

بعد استعراض التجربة التركية فيما يخص الدولة العميقة نستطيع أن نصل إلى نتيجة مؤداها أن الدولة العميقة حالة يعاني منها كثير من الدول التي تخضع لحكومات سلطوية وتختلف درجة العمق باختلاف حجم الفساد المتوغل داخل أركان الدولة فكلما زاد الفساد أصبحت له هياكل وأطر وارتبطت مصالح الفاسدين وتشابكت وأصبحت المصالح تسير في نفس الاتجاه، مكونة دولة داخل الدولة.


الكاتب:

نسيب شمس

-كاتب وباحث سياسي




روزنامة المحور