الإثنين 19 شباط , 2024 12:43

الدولة العميقة في مصر: الجيش والرئيس

الرئيس عبد الفتاح السيسي برفقة ضباط في الجيش المصري

يثير مصطلح الدولة العميقة شيئا من الحوار وكثيرا من الخرافات منذ أن دخل القاموس السياسي المصري بُعيد ثورة 25 كانون الثاني/يناير، والتصق هذا المصطلح في كثير من استخداماته بآخر جديد مثله، وهو فلول نظام حسني مبارك في بيروقراطية الدولة، حيث صار المعنى هو أركان هذا النظام، والمستفيدون منه الذين ظلوا في مواقعهم كامنين، وبنفوذهم متشبثين، وبأملهم في إعادة إنتاج هذا النظام متمسكين.

ولأن استخدام مصطلح الدولة العميقة في غير محله ما زال مستمراً ومؤدياً إلى خلط بين ظواهر لا يصح خلطها، وإلى إرباك التفاعلات السياسية المرتبكة بما يكفي، وجب تحريره، وإلقاء الضوء عليه من خلال تحليل جوهر مسألة الدولة المعاصرة، وتعريف ما هو طبيعي وغير طبيعي وما يعتبر محموداً أو مرذولاً في العمق، الذي تتسم به هذه الدولة.

إن للدولة معنيين كل منهما أوسع بكثير من الحكومة أو النظام في أي بلد، فأما المعنى الأول القانوني فهو ينصرف إلى ثلاثة عناصر أحدهما فقط هو الحكومة، التي يسبقها بالضرورة، وبحكم طبائع الأمور عنصران هما الشعب والإقليم أو الأرض، وأما المعنى الثاني السياسي فيُقصد به المؤسسات والأجهزة، التي تتميز بحكم طابعها بالاستمرارية بخلاف تلك، التي تتغير بسبب ارتباطها بنظام الحكم أو الحكومة بمعناها الواسع.

ولما كانت الاستمرارية في مؤسسات الدولة وأجهزتها هي القاعدة، فمن الطبيعي أن تتراكم لديها مع مرور الزمن أنماط سلوك وقواعد في الإدارة، وربما تقاليد في العمل لا يسهل تبديلها، لأن تواترها على مدى فترات طويلة يؤدى إلى تجذرها بدرجة أو بأخرى، وهذا التجذر هو الذي يجعلها عميقة مع اختلاف مدى هذا العمق من حالة إلى أخرى.

كان الهدف من القسم السابق هو التأصيل للمفهوم المجرد للدولة العميقة حتى يمكن الفصل بين مكوناتها المختلفة ودراسة العلاقات بينها، ابتعادا عن التهويل في حجمها، وعن نسبة كل عثرات التحول الديمقراطي إليها. وإذا نظرنا من خلال التعريف السابق للحالة المصرية عقب ثورة 25 كانون الثاني/يناير، تظهر جليا علامات صراع إرادات بين القيادة المنتخبة ومراكز قوى داخل الدولة وخارجها؛ مثل:

الاستقلال التام للجيش عن أية رقابة مدنية منتخبة، وهو ما انعكس في عدة مواقف، مثل: إعفاء موازنة القوات المسلحة من الإشراف البرلماني فيما اشتهرت بوثيقة السلمي، وما انتشر من شائعات حول تهديد قيادات المجلس العسكري لرئيس مجلس الشعب، إذا فشل الأخير في إنشاء الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور. وكذلك ما تردد عن محاولات الرئيس محمد مرسي عزل الفريق السيسي قبل انقلابه بعدة أشهر، تلك التي باءت بالفشل. وتأثير القيادة العسكرية على السلطة القضائية، كما انعكس في تهريب المتهمين في القضية الشهيرة بالتمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، بعد اجتماع أعضاء بارزين بمجلس الشيوخ الأميركي مع المجلس العسكري المصري؛ وأيضا وجود شبكات داخل أجهزة الدولة المختلفة كالأجهزة الأمنية والمحافظات ومرافق الخدمات تتوانى عمدا عن التعاون مع القيادة المنتخبة؛

لجوء تلك الدولة العميقة لكافة الأدوات التقليدية من عنف مباشر، والاستناد على موارد الدولة وقوتها للتواطؤ مع أطراف خارج جهاز الدولة (مثل القائمين على حملة تمرد أو البلطجية، أو كبار رجال الأعمال الذين تمتعوا بنفوذ كبير في أثناء حكم حسني مبارك، وإسباغ صيغة متماسكة فكريا لتفسير وتسويق تحركاتها بالتعاون مع رموز ثقافية وإعلامية مختلفة.

إذًا ما شكل الدولة العميقة في الحالة المصرية ومن أطرافها؟ كيف تناغمت حركة أطراف بهذا القدر من التنوع والانتشار في جهات مختلفة في مصر في اتجاه واحد بهدف إفشال القيادة المدنية، والعدول عن مكتسبات الثورة ومع تتبع بعض المحرّكات التاريخية التي أفضت إلى نشأتها.

ولغهم دوافع الدولة العميقة في الفترة السابقة على ثورة 1952؛ كانت قيادات الجيش قد حاربت في مواقع عدة أثناء الحربين العالميتين، والثورة العربية على الدولة العثمانية، وحرب فلسطين في 1948، وقد انخرط كثيرون منهم كذلك في الجمعيات السرية من أجل القضايا القومية العربية. لقد كان ينمو في وعي هذه الفئة من الضباط كلما ازداد سفور الاحتلال والمؤامرات الأوروبية والعثمانية على الحركات القومية العربية، ومع نشأة إسرائيل في قلب المنطقة العربية – بأن التغيير المنشود لن يأتي من خلال عمل سياسي وطني، بل على أيدي العسكريين. ومن رحم الاتصالات بين هذه القيادات بمجموعات من صغار الضباط في الجيش المصري الذين طمحوا في الاستقلال وتوزعوا على أسلحة مختلفة في الجيش. ولدت شبكة علاقات شخصية بين ضباط متقاربي الفكر والسن، مؤمنين بأحقية العسكريين بقيادة الحراك الوطني من أجل الاستقلال، وهي التي اعتُمد عليها في ثورة 1952 وبعده.

وتعمّقت هرمية الجهاز الإداري في مصر في عهد عبد الناصر وتركزت كافة السلطات في يد منصب رئيس الجمهورية، الذي طغت عليه بدوره الكاريزما الشخصية لعبد الناصر. هذه المركزية الشديدة وشخصنة منصب الرئاسة وطغيانه على السلطة التنفيذية أرست القاعدة التي سار عليها جهاز الإدارة حتى الآن، وهي اضمحلال المؤسسة في ظل شخص رئيس الجمهورية. ولهذا تسيّس الجهاز الإداري، واصطبغ بصبغة التوجه السياسي للرئيس. وفي غياب هيئة نيابية منتخبة أغلب فترة حكم عبد الناصر، وهيمنة الاتحاد الاشتراكي على نواب الشعب المنتخبين حين وُجدوا، فقد تركز حكم الدولة ورسم وتنفيذ السياسات الداخلية والخارجية في شخص عبد الناصر، وحال ذلك دون تمتع جهاز الإدارة في مصر بالمؤسسية.

وفي مطلع عام 2019 انتقل التوازن بين الجيش والرئيس خطوة أخرى مع التعديلات الدستورية الأخيرة. لقد تعالَت – بعد التعديلات-الأصوات المنذرة بانتصار الجيش على الرئاسة بما كفلته التعديلات للجيش من وصاية دستورية على الدولة والديمقراطية. إلا أن نظرة أدق تُظهر أن السيسي يعمّق من نفوذه الشخصي بقدر ما يقدّم للجيش من امتيازات.

تشير الدراسات حول الدولة العميقة في مصر إلى عنصرين أساسيين يشكلان عقيدتها التي تحدد بها وجهة الدولة، وتحشد بها المجتمع من ورائها، وهما:

تمثّل الدولة ومسؤولية حمايتها والتقدم بها في القوات المسلحة، وليس في أي قيادة مدنية ديمقراطية، والتعامل مع الإسلام السياسي كمسألة أمنية لا كمسألة سياسية وطني. وعادة ما تتظاهر أصوات الدولة العميقة بثبات هذه العقيدة طوال التاريخ المصري، وذلك من خلال الحديث عن “عقيدة” عَلَم وقديمة قدم التاريخ للدولة المصرية.

بقي ركن أخير لرسم صورة متكاملة لعمل الدولة العميقة في مصر، وهو الأدوات التي تعتمد عليها من خارج الأجهزة الرسمية لتحقيق أهدافها. وأول هذه الأدوات هو ما ذُكر في بداية البحث عن قيام الدولة العميقة بـمحاولة “عسكرة” المجتمع بأكمله بداية من النخب وحتى المواطنين البسطاء، لتجندهم للدفاع عن الوضع القائم. وهذه “العسكرة” تأخذ مسارات عديدة بعدد الفئات المجتمعية التي تنحاز للدولة العميقة وتسخّر ما لديها من إمكانيات لدعمها.

وأخيرا، تظل الأدوات الأكبر بيد الدولة العميقة هي المعلومات التي تتوفر لديها عن الدولة والخبرة الطويلة لدى الموظفين البيروقراطيين التي تنقص المنتخَبين حديثا. وكذلك شبكات الفساد التي تتفرّع منها إلى المؤسسات المختلفة في الدولة، بسبب الانتقائية في الرقابة، وضعف سيادة القانون، فتضعف تلك المؤسسات ويزيد اعتمادها على العلاقات الشخصية والقواعد غير الرسمية. ويغدو كل ذلك سهلا في ظل وقوف الأجهزة الأمنية حائلا دون الديمقراطية والتعددية السياسية والشفافية.

لا شك، أن دراسة التاريخ المصري الحديث والمعاصر يساعد على فهم أدوار وأدوات الدولة العميقة في بشكل أوضح ولا يستغرب الباحث عمق هذه الدولة وتجذرها في مصر، وتطورها، وتشابكاتها، وتعقيداتها.


الكاتب:

نسيب شمس

-كاتب وباحث سياسي




روزنامة المحور