بعد خمسة أيام من توقيع اتفاقية كامب ديفيد في زمن أنور السادات في العام 1979، انقطعت العلاقات العربية مع مصر، وانتقلت جامعة الدول العربية إلى تونس، وطردت مصر من الجامعة. في العام 1990 استُأنفت العلاقات مع مصر في زمن الرئيس حسني مبارك، وعادت الجامعة إلى مقراتها في القاهرة. حينها قمنا كعائلة بزيارة القاهرة حيث كان يعمل والدي، خلال الزيارة كانت أكبر أزمة لدينا يومها أن يفاجئنا مرور إسرائيلي من أمامنا، وكان السؤال الذي يراودني كيف يستطيع المصريون تحمل رؤية الصهاينة يسيرون فوق تراب وشوارع وأزقة المحروسة.
التقينا في تلك المرحلة بأصدقاء مصريين، سألتهم السؤال الذي أرقني طوال الوقت قبل أن نطأ أرض القاهرة، كيف تستطيعون تحمل وجود الصهاينة على أرضكم؟ وجاء الجواب، هم لا يسيرون أبداً في الشوارع بيننا، ولا يتجرؤون على ذلك، ولو نزلوا إلى شوارع مصر، أي القاهرة، لكانوا تعرضوا للهجوم والضرب. بالفعل زرنا مصر لعدة سنوات تلت، وتنقلنا فيها من القناطر إلى بور سعيد إلى الإسكندرية ومناطق ومدن مختلفة، ولم نلمح إسرائيلي واحد ولم نسمع كلمة عبرية في الطرقات. لا يمكن وصف شعورنا بالإرتياح، وكم كبرت الثقة بمصر وأهلها في قلوبنا.
يخوض المصريون حربين ضروسين ضد الصهاينة، واحدة في داخل الوطن، عبر الرفض التام للتعامل معهم وتقبل وجودهم بينهم على الرغم من توقيع اتفاقية السلام، وحرب ثقافية وضعتهم في مواجهة أنفسهم وغيرهم من العرب: كانوا يُمتحنون عبرها إذا ما كانوا أوفياء لفلسطين كما كانت مصر جمال عبد الناصر أم لا؟
ما تزال مصر حتى يومنا هذا تُعد أملاً بالنسبة للعرب وللقضية الأولى فلسطين، فإذا كانت مصر قوية وثابتة فإن الأمل كبير، ومصر حينئذ ستفتح معبر رفح، وستمرر المعونات للفلسطينيين. ومن يراقب قنوات CBC المصرية يرى أن الحملة الدعائية للتبرعات المصرية تحت عنوان "حياة كريمة" تأخذ حيزاً كبيراً على هذه القناة، وعلى القنوات المصرية الأخرى، بالطبع لا يمكن أن تكون الحملات الدعائية محض صدفة، مع الاتهامات التي تواجهها مصر بالتقصير في فتح معبر رفح من أجل تمرير المساعدات للفلسطينيين، وقد شهدت حملة كبيرة ممنهجة على الإعلام العربي، كما تم لوم مصر لأنها لم تستقبل ما يكفي من الجرحى الفلسطينيين للعلاج.
البرلمان المصري ينتفض
ولكن ومنذ الأسبوع الأول تصدر البرلمان المصري المواقف من أجل دعم فلسطين، اذ طالب رئاسة الدول المصرية بفعل المزيد، وفي 12 تشرين الأول/ اكتوبر، طالب عضو البرلمان مصطفى بكري عقد جلسة عاجلة لمجلس الشعب المصري لمناقشة التطورات الهامة والخطيرة، وأبعاد العددوان الإسرائيلي على غزة، وعلى القضية الفلسطينية، والأمن القومي المصري وخاصة لناحية تهجير الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية. وصف بكري الفلسطينيين بـ "الأشقاء". كانت الجلسة تهدف لدعم موقف الرئيس عبد الفتاح السيسي في رفض حل القضية الفلسطينية على حساب أية أطراف أخرى، "حيث يتمسك الفلسطينيون بأرضهم ويرفضون خطة الوطن البديل". وحض على أن يكون لمجلس النواب، وهو يمثل الشعب المصري، دوره في دعم الموقف المصري والتأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني.
تزامنت هذه المواقف مع تأكيد وزير الخارجية المصري سامح شكري على فتح معبر رفح من الجهة المصرية، المغلق من الجهة الفلسطينية من قبل "اسرائيل"، لإدخال المساعدات للشعب الفلسطيني. كما تزامنت دعوة البرلمان مع المؤتمر الشعبي، الذي عقد في مصر ونظمته الحركة المدنية في مصر لدعم الشعب الفلسطيني ومقاومته، وطالب رؤوساء الحركة المدنية والمشاركون الضيوف بوجوب طرد السفير الصهيوني. وأعلنت الحركة عن مجموعة من المطالب من أجل فسطين من أجل دعم المقاومة خلال الحرب الدائرة، ولكن أبرز ما أشارت إليه، وهو ما يجول في خاطر الشعب المصري، "أن مصر طرف في الصراع العربي الصهيوني، وشركاء أصليون في مقاومة الكيان الصهيوني".
لقد أعاد طوفان الأقصى الحديث عن الصراع العربي الصهيوني في مصر، في حين أن المطلوب من اتفاقية التطبيع الإبراهيمية، هو إعلان نهاية هذا الصراع. والجميل أن المجتمعين في مصر أعلنوا ولأول مرة أن ما حدث في السابع من اكتوبر 2023 هو امتداد لنصر حرب السادس من اكتوبر 1973، وهنا كان يتحدث المصريون ولأول مرة عن أن السادس من اكتوبر هو نصر عربي وليس مصريا.
في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، عقدت جلسة أخرى للبرلمان المصري مزق فيها النائب ضياء الدين داوود اتفاقية السلام ما بين مصر والإحتلال الصهيوني، وقال في كلمته أمام رئيس الحكومة مصطفى مدبولي في الجلسة العامة للبرلمان "إن اتفاق التطبيع كبّل الدولة المصرية، ولم يكن له محل من الإعراب، وعلينا أن نمزقه [وقام بتمزيقه خلال الحديث] من أجل الأمن المصري والقومي"، وطالب "بسحب السفير المصري، وطرد السفير الصهيوني من القاهرة". كما تساءل داوود عن اتفاق التطبيع، وأن لا محل له من الإعراب، وأنه يجب ألّا يكون لمصر يد في أي صفقة تهدد القضية العربية والفلسطينية، والأمن القومي الرسمي.
وأوضح المصري، الذي انهال التصفيق له من أغلبية البرلمان حين مزّق اتفاقية السلام، وطالب بطرد السفير الصهيوني، أنه يجب فرض السيطرة المصرية على طرفي معبر رفح، وعدم تركه في يد الكيان، وحذر من خطر التهجير القسري الذي تريد تطبيقه الدولة العبرية، وشكر الأحداث لأنها "تثبت أن القضية [الفلسطينية] في وجدان كل طفل وشاب يتوارثها حتى تحقيق النصر القادم لا محالة، وهذه ليست كلمات لدغدغة المشاعر، النصر سيأتي في يوم من الأيام. علينا أن نورث أبناءنا هذه المفاهيم".
هذه ليست المرة الأولى التي يطالب فيها برلمانيون مصريون بطرد السفير الصهيوني وبإنهاء اتفاقية السلام. ففي العام 2012 وخلال اجتياح غزة حدث الشيء نفسه، ويومها طلب البرلمان من الحكومة وقف إمدادات الغاز المصري إلى الكيان، وكلّف رئيس المجلس سعد الكتاتني لجنة برلمانية مخصصة بمتابعة الحكومة في تنفيذ قرارات البرلمان. وقال بيان المجلس يومها، إن "مصر الثورة وبرلمان الشعب لا يمكنه إلا ان يكون درعاً قوياً للدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وقضية فلسطين، التي يجب أن تعود قضية مركزية لمصر وللأمة العربية". ثم تحدث البيان عن مصالح مصر القومية والوطنية وعن انتماءها العربي واعتبر فلسطين خط دفاع استراتيجي متقدم عن مصر وأمنها الوطني.
ولكن ما حدث بعد ذلك أنه تم تفجير أنابيب الغاز في سيناء من قبل مجموعات داعش، وانقطع الغاز المصري عن الكيان، فقام برفع دعوة بسبب التزام مصر عبر عقود صارمة بتوريد الغاز المصري للصهاينة، مما فرض على مصر بنود جزائية مكلفة، ودخلت بعدها بالتزامات قامت من خلالها باستقبال الغاز من حقل الليفان، الذي يسيطر عليه الكيان، من أجل ضغطه وتصديره عبر مصر إلى أوروبا. المهم في القضية، أن نفهم أن البرلمان المصري يعبّر عن مطالب الشعب المصري فعلياً، ولكنه لا يستطيع أن يلزم الحكومة أو السلطة التنفيذية بما فيها الرئاسة بمخالفة بنود اتفاقية كامب ديفيد، وبالعقود الصارمة التي أبرمها أنور السادات مع الكيان. وأن الأمر يحتاج في مصر لما هو أكبر بكثير، إنه يحتاج إلى موقف وطني وقومي عربي جامع، وهذا يصعب تحقيقه في المرحلة الحالية، مع دخول ممالك في الخليج في اتفاقيات التطبيع، وغياب سوريا القسري، والتي ما تزال تحارب الإرهاب المدعوم، ويحتل جزءً من أراضيها قوتا احتلال هما الولايات المتحدة، وتركيا.
ويجب الإلتفات دائماً، إلى أن السلام مع الكيان المؤقت لا يمكن صنعه دون سوريا، كما لا يمكن محاربته دون مصر، ولكن المسارات والفجوات اتسّعت.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU