تبدو لافتة كمية التخويف وزرع الرعب في الإعلام العربي – الإسرائيلي من "تعاظم العملاق الإيراني في المنطقة"، وأن إيران قد أصبح صوتها عاليًا، وأن التكنولوجيا التي ستأخذها إيران من روسيا سوف يُسمع صداها لدى انصار الله في اليمن، وعند حزب الله الذي يملك مصانع لإنتاج الصواريخ، وكل حلفاء إيران في المنطقة. وبسبب ذلك، يرى هؤلاء أن السعودية مجبرة على تصنيع أسلحة دفاعية وتعزيز قدرات جيشها، للاستعداد لمواجهة إيران.
كما تبدو لافتة أيضًا، كيفية توظيف أي معلومة أو حركة عالمية تصدر في هذا السياق، ويتم تشبيكها وبناء تحليلات تتضمن كميات هائلة من المغالطات قادرة على تأسيس تشوهات معرفية للجماهير، تحرف الأنظار عن العدو الحقيقي وهو الكيان المؤقت، لتصبح إيران هي العدو الوحيد لشعوب المنطقة. إذ يتمّ كي الوعي الشعبي في مسألة من هو عدوّ الأمة، من خلال وضع الكيان في نفس الاصطفاف مع العرب، ويتم الاستشهاد بتصريحات وتقارير الإسرائيليين باعتبارهم قوة متقدمة معترفٌ بمخاوفها وتحذيراتها.
في الوقت الراهن، يتابع الاعلام الخليجي – الإسرائيلي عن كثب كل ما يصدر من معلومات حول الشراكة الدفاعية بين إيران وروسيا، التي تتطور يومًا بعد يوم. ومحاولة التحذير منها والضغط لإفشالها، من خلال وضع سيناريوهات أن هذه الشراكة بمثابة "كارثة للشرق الأوسط"، ما يحتّم على السعودية -تحديدًا- التحضّر لمواجهة "غزو إيراني" للمنطقة. حتى أن التقارير التي تنشرها المواقع الاستخبارية الغربية بهدف دقّ الأسافين بين روسيا وإيران، تتلقفها المنصات العربية وتستخدمها ضمن سياقات تهويلية وبعقلية التآمر لشدّ عصب أكبر قدر ممكن من الجماهير والنخب على حدّ سواء.
وفيما يلي نموذج حول كيف يتم الربط بين معلومات استخبارية وبين مستجدات ميدانية في صناعة سيناريو قائم على أنصاف الحقائق:
كيف أصبحت إيران تهديدًا للناتو؟
على المنصات الإعلامية الممولة خليجيًا، يجري تداول معلومات نشرها موقع إكسيوس، وهو موقع استخباري أمريكي شهير، بأن إيران تريد الحد من مدى الصواريخ التي تزود بها روسيا خوفًا من عقوبات جديدة من الغرب، وذلك بالتزامن مع موجة إعلامية من تصريحات بريطانية وأمريكية تحذّر من تعزيز التعاون الدفاعي مثل تطوير الأسلحة والتدريب. تضج الآن المواقع الغربية والخليجية بالمقالات التي تتحدث عن مستوى التعاون الذي وصل إلى حد توقيع مذكرة تفاهم بين البلدين لتوسيع التعاون الفضائي، وعن خطورة إرسال إيران لروسيا صواريخ بالستية بعيدة المدى.
أهم ما ورد في التقرير الصادر عن مسؤولين إسرائيليين، أن إيران، وفي محاولة لتخفيف التداعيات الدولية وعدم انتهاك قرار مجلس الأمن، تخطط لمنح روسيا فقط صواريخ يقل مداها عن 300 كيلومتر وتعديل صواريخ أخرى بحيث تظل ضمن معايير القرار، ويشمل ذلك نظام صاروخ فاتح 110، يبلغ مداه 300 كيلومتر، لكن الإيرانيين يخططون لتعديله حتى لا يخالف القرار. وأضاف التقرير الإسرائيلي أن الإيرانيين درسوا في الأصل أيضًا تزويد روسيا بصاروخ ذو الفقار، الذي يبلغ مداه 700 كيلومتر، لكنهم لم يعودوا يفكرون في إرسال هذا النظام. في حين لم ترد وزارة الخارجية الإيرانية والمتحدث باسم ممثل إيران لدى الأمم المتحدة على طلبات للتعليق.
يتم التعليق على هذا الخبر في الإعلام الخليجي على أن إيران ستُجري التعديلات على مديات الصواريخ بحيث لا يمكن أن يخطئ الصاروخ مثلًا ويقع في بولندا، فتتورط إيران مع الناتو، وأنها ستنقل صواريخ فاتح 110 وذو الفقار مفككة، في شحنات مختلفة، بحيث لو تم اعتراض هذه الشحنات لن يجدوا فيها إدانة لإيران، لأنها لا تريد مزيدًا من العقوبات ولا مواجهة مع الناتو. ويشددون على خطورة هذه المسألة، باعتبارها حيلة إيرانية لتجنّب العقوبات، والتحريض على أن الغرب قد أهمل الخطر الإيراني حتى وقف الخطر الإيراني على حدوده، وأصبحت إيران تهديدًا للناتو. وهكذا بعد إثبات أن إيران بهذا القدر من التهديد والخطورة لدرجة أنها قادرة أن تقف بوجه الناتو، ننتقل إلى المرحلة الأخرى وهي نقل الخطر إلى منطقتنا العربية.
كارثة الشرق الأوسط الحقيقية
في إطار التعليق على التعاون الروسي الإيراني، تحلل آلة الدعاية المعادية بأنه "كارثة الشرق الأوسط"، ذلك أن إيران لم تعد بحاجة إلى الاتفاق النووي، فهي ستحدّث جيشها من جديد، وستأخذ تكنولوجيا جديدة من روسيا سواء عسكرية أو مدنية، كما أن الروس من الممكن أن يساعدوا في تطوير البرنامج النووي الإيراني، معتبرين أن روسيا وإيران أصبحتا كيانًا واحدًا، وأن كل التكنولوجيا الروسية سيتم إهداؤها إلى إيران والعكس صحيح. يرى هؤلاء أن خطورة المشهد ليس فقط على الغرب وإنما على الشرق الأوسط أيضًا، بعدما تمّ توظيف تصريحات وزير الدفاع في حكومة صنعاء أن ثمة "خيارات تأديبية سيتمّ اتخاذها والإعلان عنها في الوقت المناسب"، وذلك ردًا على تولي قوات الجيش المصري "قوة المهام المشتركة 153 الدولية"، والتي يتركز نطاق عملها في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن. حيث ترى مصر أن تهديد اليمنيين الأساسي هو باب المندب، ويرون في ذلك أن إيران لا تهدد السعودية فقط، بل إنّ مصر من خلال توليها للقوة المشتركة قد انزلقت إلى اللعبة، ويتم التهويل والتضخيم بأن الوضع أصبح خارجًا عن السيطرة، مستندين على تحذيرات نتنياهو حول المسيرات الإيرانية التي يرى أنها أصبحت خطيرة جدًا، وأن إيران ستخرج من الحرب الروسية الأوكرانية أقوى بكثير بسبب الشراكة مع روسيا.
وهكذا، تم حشد الدول العربية من مصر إلى السعودية في حالة من الإحساس القومي، تمّ إدخال العنصر الإسرائيلي إليها بأسلوب سلس عبر بوابة تقاسم الشعور بالخطر، والواقع أن الكارثة الحقيقية على الشرق الأوسط في هذه المقاربة، هي الاصطفاف في خندق واحد مع الكيان الإسرائيلي، "الموافقة الاجتماعية" هي تقنية مستخدمة منذ القدم في الأساليب الخفية لكي الوعي، فبعد الموجهة الإعلامية الأولى الصادمة للشعوب العربية بعد إعلان التطبيع لبعض الدول، والعلاقات السعودية الإسرائيلية العلنية، يتم توظيف "خلق المخاطر" لتحصيل "موافقة اجتماعية"، فعندما يشعر الجمهور بالخطر، سيكون مذهولًا لدرجة أنه سيقبل أي شيء، ثم تتدحرج المقبولية حتى يستيقظ الجمهور ليجد أن الشراكة مع العدو أصبح أمرًا واقعًا وتحصيلًا حاصلًا.
سيناريوهات متناقضة: إيران قوية أم ضعيفة؟
لم يجف الحبر الذي كتب فيه سيناريو سقوط النظام الإيراني بسبب الاحتجاجات، حتى بدأ تركيب سيناريو إيران القوية، لا يعطي الاعلام الخليجي هذا الأمر أهمية، فقد أصبح محترفًا بالقفز بين المتناقضات. ويعرف جيّدًا كيف يتخطى "القناعة المسبقة"، خاصة في عصر مواقع التواصل التي جعلت من السهل على الناس أن تتخلّى عن الأفكار الثابتة.
بين قناعَتَي إيران الضعيفة وإيران القوية، سيسمع المرء معلومة لم يسمعها من قبل، لقد اكتشف فجأة أن إيران تملك من التكنولوجيا ما يجعل روسيا "العظيمة" تحتاجها منها. وفي نفس الوقت تحتل أخبار وتطورات الحرب الروسية الأوكرانية حيّزًا كبيرًا بين القضايا العالمية الأكثر إثارة للنفوس أو الاهتمام أو الفضول، والآن أصبح لدينا صدمة في مسألة من أكثر القضايا إثارة، وتبدأ السردية الجديدة بسوق المعطيات وضخّ التحليلات لخلق الخطر القادم من الدولة التي أصبحت مربكة وغامضة، ولا يعود مهمًا إذا كانت السردية الجديدة موافقة لما تم زرعه سابقًا، ولم يعد ثمة مشكلة في المصداقية، فثلاثية (الصدمة – الإثارة – الخطر) تعيد تموضع القناعات بنسبة 180 درجة دون أن يلاحظ المرء ذلك، وسيكون مقتنعًا أثناء ذلك، أنه لم يغيّر قناعاته، إنها تقنية "الالتفاف من الجهة الأخرى"، التي تمكّن من هدم قناعة وصنع أخرى مناقضة، باستدلالات غير منطقية، دون أن تتأثر المصداقية!
الكاتب: زينب عقيل