عام 1991، وبـ 1200 طن من القنابل خلال أكثر من 500 طلعة جوية، استهدفت طائرات التحالف بقيادة الولايات المتحدة 28 مصفاة عراقية أخرجتها عن الخدمة. حيث كانت المنشآت الحيوية في البلاد تحت مرمى النيران بشكل متواصل. والأمر نفسه خلال الحرب المفروضة على إيران التي دامت 8 سنوات، الحرب على العراق التي استمرت 34 يوماً وحرب حلف الناتو على يوغسلافيا والتي استمرت حوالي 77 يوماً. حيث أكدت التجربة خلال تلك الحروب بالتحديد أن أولى الأهداف التي تستهدفها الدولة المعتدية هي المنشآت الحيوية والاستراتيجية التي سيؤدي تعطيلها إلى ضرر مباشر بالأمن القومي للبلاد كاستهداف محطات النفط والكهرباء الأساسية وسكك القطار ومعامل تصنيع الأسلحة وغيرها وبالتالي ادخال البلاد في دوامة من الظلام والفوضى والشلل الكامل مما سيؤدي بها حتماً إلى خسارة الحرب بعد عجزها عن خوضها أساساً.
كما أكدت التجربة أيضاً، أنه خلال الحروب السابقة التي شهدتها البشرية في مختلف أنحاء العالم وبسبب الفجوة التي قد تبرز أحياناً بين أسلحة الدفاع الجوي الحديثة التي تمتلكها الدولة المعتدية وأسلحة الدفاع التقليدية الذاتية التي تمتلكها الدولة المعتدى عليها، وضعف أنظمة الدفاع الجوي ضد الحرب السايبيرية والالكترونية أو ما قد تحمله الطائرات الهجومية والصواريخ الباليستية -خاصة تلك التي تطلق من خارج مدى أسلحة الدفاع الجوي- من مفاجآت. هذه الفجوة أو التفاوت بالقدرات ستضع حتماً كل الأهداف الحيوية والحساسة على قائمة بنك الأهداف ويصبح "اصطيادها" أمراً بمنتهى السهولة.
لتفادي هذا الأمر، وبناء على هذه التجربة والخبرات المتراكمة في الحروب عمدت الدول لاعتماد استراتيجية دفاعية سميت بـ "الدفاع السلبي" لتحييد عواصمها ومنشآتها الحيوية ومواردها ذات الأهمية والأهداف الحساسة عن الاستهداف.
والدفاع السلبي هو مجموعة من التدابير الوقائية التي تتخذها الدول لتحييد منشآتها عن الاستهداف وتقليل الأضرار التي من الممكن أن تأتي نتيجة الهجمات الجوية بشكل أساسي، إلى الحد الأدنى، دون الحاجة لاستخدام أسلحة. وفي الدفاع السلبي يمكن حتى للمواطنين والمؤسسات والمصانع أن يلعبوا دوراً فاعلاً في الوقت الذي تكون فيه القوات المسلحة تولي اهتمامها لتشغيل الأنظمة الدفاعية والمواجهة.
يتم اعداد الدفاع السلبي وقت السلم وتهيئته ليكون جاهزاً وقت الحرب. عبر بناء بنى تحتية أخرى تحت الأرض وتحصين المنشآت على اختلافها بشكل لا يمكن استهدافه.
مثلاً، في الدول ذات مساحة شاسعة سيبلغ عدد المدن حوالي 600 مدينة، ستحتاج لحمايتها عدد هائل من المدافع المضادة للطائرات وأكثر من مليون عنصر بشري لتغطية العملية عدا عن ان أنظمة الدفاع الجوي قد تلقى صعوبة في إمكانية توريدها وتنظيمها وتشكيلها. ولتفادي هذا الأمر يكون الحل الأمثل هو جعل هذه المنشآت خارجة عن نطاق رؤية العدو وكأنها غير موجودة عبر انشائها منذ البداية تحت الأرض أو في الجبال المحصنة.
الدفاع السلبي: إيران نموذجاً
وفق الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية يمكن تلخيص أهداف الدفاع السلبي الإيراني عبر:
-الحد من قدرة أنظمة الرادار والرصد للعدو واضعاف دقة الأسلحة لديه
-مواصلة أنشطة البنية التحتية على كامل الأراضي الإيرانية وتوفير الاحتياجات اللازمة للمواطنين حتى وقت الحرب
-الحد من الأضرار التي قد تحلق بالمعدات والمرافق الحيوية
-عدم تقديم أي هدف ثقيل للعدو وبالتالي سحب قائمة بنك الأهداف من يده
-تجريد العدو من إمكانية المبادرة وبالتالي تقليل حجم المفاجآت المحتملة
-زيادة عتبة مقاومة الشعب والحفاظ على ثقة الشعب بالانتصار
-الحفاظ على الأمن القومي للبلاد.
ويشمل نطاق تطبيق الدفاع السلبي ما يلي:
البنى التحتية الشاملة، مصانع الأدوية، الاتصالات، النقل والمواصلات، منشآت الطاقة والنفط والمنشآت النووية وأنظمة الدفاع وتصنيع الأسلحة..
ويجري ذلك عبر تطبيق العديد من المبادئ: الاخفاء، التمويه، التقسيم والتشتيت، الخداع والتحصين.
كانت إيران -منذ انتصار الثورة الإسلامية- من أكثر الدول التي تواجه تهديدات مستمرة نتيجة تموضعها الدولي في مواجهة الولايات المتحدة وكيان الاحتلال. ونتيجة لذلك تعرضت لعدد كبير من الاستهدافات التي جعلتها تؤمن انه "في أي ظرف من الظروف يجب أن يكون الدفاع عن الوطن في أفضل حالاته... أي أمة لا تستطيع الدفاع عن نفسها ليست على قيد الحياة، وأي أمة لا تعرف أهمية الدفاع ليست حيّة أبداً" وفق توصيف قائد الثورة الإسلامية الامام روح الله الخميني.
في نيسان عام 1988، استهدفت القوات الأميركية منشأتي نفط ايرانيتين "ساسان" و "سيري" في عملية أطلقت عليها اسم "فرس النبي" إضافة لاعتدائها على البحرية الإيرانية. بعد حوالي 4 أشهر على هذا الاعتداء. قامت واشنطن باستهداف طائرة مدنية إيرانية متوجهة إلى دبي بإطلاق صاروخ من منظومة (USS vincennes) راح على اثرها 290 ضحية غالبيتهم العظمى من الإيرانيين. يومها، رفضت الولايات المتحدة الاعتذار وفق ما جاء على لسان رئيسها آنذاك جورج بوش "لن نعتذر عن الولايات المتّحدة الأميركية أبداً. لستُ مهتماً بالحقائق". كما أتبعت ذلك بتكريم القبطان كوليام روجرز والضابط المسؤول عن تنسيق الحرب الجوية سكوت لوستيغ كمكافأة على هذه "البطولة".
هذه الحادثة حفرت بالوجدان الإيراني جيداً. والايرانيون -بطبيعتهم- يعرفون الانتقام على نار هادئة. حيث جاء الرد بعد سنوات عقب بدء البلاد ببناء المنشآت النووية تحت الأرض وتحصينها مثلا منشأة فوردو ونطنز إضافة للمدن الصاروخية بطريقة يجعل استهدافها جوياً أمراً مستحيلاً.
المدن الصاروخية الإيرانية تحت الأرض
تقع أكبر مدن الصواريخ والأسلحة الإيرانية في أعماق الأرض وتحت طبقات من الخرسانة وعلى امتداد 75 كلم والتي قد يصل عمقها لحوالي 50 طابقاً، وبطريقة معمارية هندسية تعكس حرفية في البناء والتصميم لحمايتها من القنابل المضادة للدروع والتحصينات. وهذا ما جنب الدولة الإيرانية والجيش مخاطر وعبء المراقبة الدائمة واللحظوية للأقمار الاصطناعية التي تكشف كل المساحات فوق الأرض.
في خطاب الإعلان عن منظومة الدفاع الجوي "بافار-375" في آب عام 2019 أكد الرئيس الإيراني السابق الشيخ حسن روحاني ان الجمهورية الإسلامية اليوم أصبحت محصنة وجاهزة لكل الاحتمالات مشيراً إلى أهمية الاستمرار بتطوير الإمكانيات. ورداً على الهجمات ضد تسليح إيران سخر الشيخ روحاني "عندما يطلق العدوّ صاروخاً باتجاهنا، لا يمكننا أن نكتفي بإلقاء خطاب نقول فيه: "سيّد صاروخ"، أرجوك لا تضرب بلدنا وأناسنا الأبرياء. يا أيها السيد المطلق للصاروخ، هل تتكرّم وتضغط زراً لتفجير الصاروخ في الهواء؟".
الكاتب: غرفة التحرير