صبيحة اليوم التالي لهجمات 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، عنونت صحيفة "لوموند" الفرنسية، "كلنا أميركيون"، بدفع كامل من الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، الذي قدم الدعم المادي والعسكري للولايات المتحدة في غزوها لأفغانستان. بعد حوالي 3 سنوات، وقف شيراك نفسه ضد غزو العراق، -إضافة للرئيس الألماني، غير هارد شرودو- ولم يشارك بمراقبة منطقتي الحظر الجوي شمال وجنوب البلاد، منتقداً بشدّة الازدواجية الأميركية، التي فرضت حصاراً على بغداد، بينما وصل حجم الصادرات النفطية العراقية لواشنطن ما قيمته 6.1 مليار دولار عام 2000 -في ظل ارتفاع اسعار النفط العالمية-. ويُعدّ التباين في الموقف الأوروبي تجاه الحروب التي شنّتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ ما بعد الحرب الباردة، أحد أبرز المفارقات التي توضح النهج البراغماتي السياسي التي تعتمده الدول الاوروبية. وبالتالي، لا يمكن وضع السياسات الإجرائية التي اتخذتها تلك الدول، لتأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي والمسال لمواجهة تداعيات القرار الروسي بعيد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إلا ضمن هذا الإطار.
بعد مرور عام تقريباً على بدء الحرب في أوكرانيا، تراجعت صادرات روسيا من الغاز الطبيعي إلى أوروبا بأكثر من النصف، نتيجة القرار الروسي بخفض التصدير رداً على العقوبات الغربية المفروضة عليها، إضافة للأعطال التي أصابت خطوط أنابيب نورد ستريم.
وبما ان 34% من محطات توليد الكهرباء الأوروبية تعمل بالغاز، انخرطت تلك الدول بحثاً عن أي مصدر متاح للغاز الطبيعي بغية تكديس أكبر قدر من المخزونات لتلبية احتياجاتها. وقامت بتحويل الجزء الأكبر من طلبها إلى الغاز الطبيعي المسال (LNG) الذي تنقله السفن من جميع أنحاء العالم. نتيجة لذلك، ارتفع السعر العالمي للغاز الطبيعي المسال بنسبة 1900% - وهي ذروة موسم تعبئة تخزين الغاز-، بحلول منتصف عام 2022.
على الرغم من أن ارتفاع الأسعار كان ضارًا بالقطاعات الصناعية الأوروبية، إلا انه كان مأساوياً بالنسبة للعديد من الدول التي تعتمد بشكل اساسي على الغاز أيضاً. فعلى سبيل المثال، لم تستطع باكستان التي يبلغ عدد سكانها حوالي 250 مليون شخص، تلبية احتياجات الاستهلاك الصناعي وتوليد الطاقة وعانت من انقطاع التيار الكهربائي، في الوقت الذي تحاول فيه البلاد التعافي بعد الفيضانات الأخيرة التي أغرقت ثلث البلاد تحت الماء، وتصل فيها درجات الحرارة إلى 45 درجة مئوية في بعض الأوقات من السنة. ويعود السبب في ذلك، ان موردي الغاز الطبيعي المسال قرروا تحويل التجارة إلى الدول الاوروبية التي تستطيع ان تدفع أسعارًا أعلى. وبالتالي، تم تحويل الشحنات المتجهة نحو الدول الفقيرة، إلى أوروبا، على الرغم من الاتفاقيات التعاقدية الموقعة منذ أشهر أو سنوات.
حيث أعلنت شركة النفط والغاز الإيطالية إيني، في 26 كانون الثاني/ يناير، عن فشل وتعطل خطة توريد الغاز الطبيعي المسال لباكستان الذي كان مقرراً في شباط/ فبراير وذلك بسبب تراجع أحد موردي الغاز الطبيعي المسال عن الوفاء بالالتزامات المتفق عليها. ووفقًا للحكومة الباكستانية، فإن كبار موردي الغاز الطبيعي المسال لم يفوا بعقودهم، مفضلين دفع غرامة عدم التسليم وإرسال الإمدادات إلى الدول الأكثر ثراءً لتحقيق أرباح أعلى.
في تموز/ يوليو 2022، لم تجلب مناقصة حكومية باكستانية لشراء 72 شحنة من الغاز الطبيعي المسال بقيمة مليار دولار أي ايفاء من الموردين على الإطلاق. وأدى التأخير في المدفوعات النقدية من برنامج صندوق النقد الدولي إلى جعل اسلام آباد، تكافح لشراء الغاز من الأسواق، مما أجبر العمال في المصانع والمطاعم والشركات على العمل لساعات أقل وبأجور أقل.
ومع ارتفاع احتمالية بقاء الوضع على ما عليه خلال العام 2023، على أقل تقدير، مما يجعل الدول الأوروبية أكثر اعتمادًا على الغاز الطبيعي المسال لإعادة ملء مرافق التخزين الهامة هذا الصيف. بالإضافة إلى ذلك، يشير أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى اهتمام كبير، بتوقيع عقود طويلة الأجل لاكتساب أي إمدادات جديدة من الغاز في السنوات القليلة المقبلة. تستثمر ألمانيا ودول أوروبية أخرى في وحدات تخزين إضافية عائمة وإعادة تحويل الغاز إلى غاز خلال السنوات العديدة القادمة ، مما يمكنها من امتصاص المزيد من الغاز الطبيعي المسال.
خلال السنوات الماضية، تعهدت الدول الاوروبية، بإنهاء كل الدعم العام لمشاريع الوقود الأحفوري الدولية، والعمل على إيجاد بديل وتزكية اللجوء إلى الطاقة النظيفة. وأصرت أيضاً، على أنه يجب عدم تزويد البلدان الفقيرة بالتمويل لبناء بنية تحتية للغاز. بينما، لم يمنع أي شيء الشركات متعددة الجنسيات الموجودة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من استخدام رأس مالها لتطوير احتياطيات الغاز في البلدان الفقيرة للتصدير إلى الدول الأكثر ثراءً في شرق آسيا وأوروبا.
ويعتبر مدير الطاقة والتنمية في معهد بريكثرو، فيجايا راماشاندران، (وهو مركز أبحاث عالمي يحدد ويعزز الحلول التكنولوجية لتحديات التنمية البيئية والبشرية)، ان ما تقوم به الدول الاوروبية هو نفاق واضح. فالاتحاد الاوروبي يدفع بشكل خبيث الاستعمار الأخضر الذي يفرض قيودًا صارمة على الدعم المالي الذي قد يساعد البلدان الفقيرة على زيادة إمدادات الطاقة الحيوية لإخراج سكانها من الفقر والبؤس مع منح أنفسهم، أقصى قدر من المرونة لاستخدام الوقود الأحفوري من أجل أمن الطاقة الخاصة بهم... عليك فقط ان تسأل ألمانيا عن انبعاثاتها المتزايدة بسبب الاستخدام الهائل للفحم... وهذا يعني أن الدول الفقيرة يجب أن تذهب بدون وقود كاف لمنازلها ومدارسها ومستشفياتها ومصانعها بينما تهنئ الدول الغنية نفسها على مخزونات الغاز لديها واتفاقيات الشراء متعددة السنوات مع المنتجين حول العالم. ويضيف "السياسات الأوروبية لمنع تمويل مشاريع الغاز لا تخفف من حدة الفقر ولا تعالج تغير المناخ".
ومن المرجح أن تقوم الحكومات الأوروبية برفض مساعدة الدول النامية والغنية بالغاز، على دفع ثمن الغاز، لأن ذلك سيتعارض مع سياستها بعدم دعم الوقود الأحفوري. لكنها في الوقت عينه، تستمر بسرقة عقود الغاز التي كانت كبرى الشركات النفطية العالمية قد التزمت بها مع تلك الدول. فبلجيكا مثلاً، في طريقها لاستخدام المزيد من الغاز، لأنها تغلق محطاتها النووية تباعاً، ومن المرتقب أن يتم تجميد عمل مفاعل "دويل 3" في شباط/فبراير في تيهانغ، الذي يقع على بعد 50 كلم عن الحدود مع ألمانيا.
الكاتب: مريم السبلاني