كانت لافتة هي المواقف التركية المتتالية من معركة طوفان الأقصى سواء من رئيس الدولة رجب طيب أردوغان أو القيادات الحزبية الموالية والمعارضة والتي كانت تدعو في أحسن حالاتها إلى وقف قتل المدنيين من الطرفين. كان واضحاً أن تركيا التي أرسلت أسطول الحرية، للمساعدات في العام 2010، إلى شواطئ غزة قد تغيّرت. خاصة وأن عملية ترميم وإصلاح العلاقة ما بين تركيا والعدو الصهيوني استغرقت سنوات.
تم اصلاح ما انكسر بين تركيا والكيان الصهيوني في 22 آذار/ مارس 2013، وقدّم يومها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعتذاراً هاتفياً لأردوغان، واعترف بحصول بعض الأخطاء العملية والتي تسببت بضحايا على متن السفينة مرمرة وتعهد بدفع تعويضات لأهالي الضحايا، مقابل اتفاق مع أردوغان على عدم ملاحقة أية جهة قد تكون مسؤولة عن الحادث قانونياً. ثم اتفق الجانبان على تطبيع العلاقات وإعادة تبادل السفراء. وتمت المكالمة الهاتفية بتشجيع من الرئيس الأميركي باراك أوباما وقتها.
إذن تركيا لا ترتبط بعلاقة عضوية من خلال حلف الناتو مع الولايات المتحدة الأميركية، لذلك لم يكن مستغرباً منذ بداية طوفان الأقصى أنها لن تذهب بعيداً في مساندة الشعب الفلسطيني، وقررت أن تبقى على الحياد بما يتعلق بهذه المعركة بالتحديد، لكنها ليس تركيا أردوغان فقط بل تصريحات الأحزاب السياسية والنواب بشكل عام اتخذت هذا الموقف، لم تقف عند حدود الحياد، بل بدأت بإرسال المساعدات الغذائية الزراعية للصهاينة، لأن معظم المستعمرين في غلاف غزة وإيلات وشمال فلسطين المحتلة هجروا بيوتهم والأراضي الزراعية هرباً من صواريخ المقاومة، مما أدى إلى نقص في الخضار والفواكه، في حين أن أهل غزة يرزخون تحت الحصار، لا دواء ولا ماء ولا غذاء ولا كهرباء. وإن كان ثوران الشارع التركي اليساري تحديداً، كما حدث في باقي اوروبا والعالم الغربي هو الذي دفع بأردوغان لإتخاذ مواقف مثل المطالبة بوقف العدوان أو تحييد المدنيين أو ما إلى ذلك.
نفط إسرائيل يمر عبر تركيا
الأمر المهم، الذي يلجم أردوغان عن اتخاذ مواقف مبدئية من الحرب الإسرائيلية على غزة اليوم، له علاقة بتوفير حاجة الكيان الصهيوني للنفط والتي يحصل على النسبة الأعلى منها من أذربيجان وكازاخستان ويتم تصديرها عبر الأراضي التركية، وهذا ما أشرنا إليه في مقال نشرناه في موقع الخنادق في 3 تشرين الثاني/نوفمبر. كما أن حجم الصادرات التركية إلى الكيان تبلغ قيمتها 6,4 مليار، بينما واردات تركيا من الآلات المعدنية والوقود من الكيان تبلغ أكثر من ملياري دولار. فيما التبادل التجاري ما بين تركيا والكيان قد قطع شوطاً مهماً منذ العام 2000. ولذلك عندما ينتشر أحد الفيديوهات لنائبة في مجلس الشعب التركي تتحدث عن دعم غزة، تطالب فيه بارسال اللاجئين السوريين للقتال معهم كأفضل حل لدعم غزة فعلينا ان نفهم ماهية الموقف التركي وحقيقة أمره. السؤال المهم هنا، هل ستكون المظاهرات الشعبية في تركيا قادرة على تغيير الموقف الرسمي التركي، والذي أعلن نفسه على الحياد؟ لا يبدو ان هذه التظاهرات وأغلبها عفوي وغاضب قد يغير شيئاً في الموقف الرسمي التركي حيال الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
لكن من المهم فهم العلاقة الإقتصادية العميقة ما بين تركيا والكيان الصهيوني في مجالات الطيران المدني والسياحة، حيث يبلغ عدد السياح الصهاينة إلى تركيا عشرات الآلاف سنوياً، وفي مجالات الصناعات العسكرية وأهمها الطيران المسيّر والدبابات والأسلحة، والأتراك بشكل عام لا يعترضون على العلاقة ما بين تركيا والكيان، ولكن مجازر الكيان غير المسبوقة في غزة وممارساته العنصرية في قتل المدنيين هزّ الضمير العالمي، والذي لم يعد يصدق بأن حكوماته الديمقراطية تصادق على هذه المجازر ضد الأطفال والعزل والتي لم يعد بالإمكان مواراتها. وفي محاولاته لعدم إغضاب الكيان قام اردوغان بالإتصال برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ليعلن عن مواساته والتعزية بالضحايا المدنيين دون التواصل مع حركة حماس، رغم أنه أعلن لاحقاً أنه لا يعتبرها حركة إرهابية.
العديد من الكتاب الأتراك دعوا إلى التعامل بواقعية وحكمة مع الوضع في غزة، مع الأخذ في الحسبان أمنها ومستقبلها، ومنهم طه أقيول، ولكنه في الوقت نفسه كان مؤيداً لموقف أردوغان الحيادي، لأن اول المتضررين كان من موقف اردوغان المساند للأخوان المسلمين وبالذات حماس، هو الإقتصاد التركي. علينا الالتفات هنا، مع أن المسيرات الشعبية المؤيدة لغزة عالمياً كانت كبيرة جداً، وتساهم بالضغط على الكيان لوقف العدوان على غزة، ولكن هذا لا يعني إنتهاء دعم الكيان من جديد، والإستمرار بحمايته، والأمر نفسه ينطبق على تركيا. ولا يخفى على أحد عمق العلاقة ما بين تركيا والولايات المتحدة، ومدى ارتفاع مستوى التعاون الإقتصادي فيما بينهما من أجل سحبها من تحت العباءة الروسية بشكل نهائي.
تركيا حريصة على مصالحها مع الغرب
بغض النظر عن تصريحات أردوغان في الأيام الأخيرة والمتتالية والمتناقضة أحيانا، حول ان ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية وليس حرباً، والدعوة إلى حل، لا تعني شيئاً جذرياً في تغيير الموقف، وبحسب الخبير بالشؤون التركية الدكتور محمد نورالدين، فإن جل ما يهم أردوغان هو الحفاظ على 57% من أنصاره والذين قد يتفرقوا من حوله إذا لم يتخذ مواقف شفوية من النوع الذي يصرح به عند الحديث عن الصراع في فلسطين. وهي مواقف استعراضية لإرضاء الشارع الغاضب من هول الإبادة التي يرتكبها الصهاينة في غزة، ولكن الواقع أن جل ما يهم الأتراك سواء كانوا في المعارضة أو الحكومة هو الإستمرار بالعلاقة مع الغرب وبالذات مع الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي "إسرائيل" بسبب ارتباط المصالح الإقتصادية والتجارية. ويقول نورالدين، إن هناك توجهاً في تركيا نحو تغيير الرأي العام ما بين الأتراك الذين ينتمون إلى الأحزاب الإسلامية بشكل عام، وتغيير المزاج العام بحيث يعكس حياداً دائماً نحو الصراع ما بين الصهاينة والفلسطينيين.
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU