في السياسية لا يوجد قانون يحكم وسائلها، ولا قواعد يستند عليها الساسة في ممارساتهم وإن كان هنالك قانون في السياسة فهو الكذب والخداع، يقول السياسيون لا عداء دائم ولا صداقة دائمة، بل هنالك مصلحة دائمة، وهذه من أصول اللعبة السياسية ومنطلق للصراع من أجل المصالح، وتتطلب المصالح عنصر القوة التي يفرض فيها الجانب القوي سياسته على الجانب الضعيف، هذه المعادلة يمكن إلصاقها كمثال على مجريات الكثير من القضايا الدولية والعالمية، ومن زواية أخرى يرى البعض أن من قواعد السياسة صداقة وعداء في وقت واحد، صداقة هنا في ضوء مصلحة معينة، وعداء هناك في ضوء مصلحة أخرى، ولقاء هنا بسبب مصلحة مسماة، وفراق هناك بسبب مصلحة أخرى، وتوافق ينمّ عن مصلحة مشخّصة وشجار ينمّ عن مصلحة مشخّصة بخطوات برغماتية دقيقة، وفي ضوء ما سبق يسأل كثيرون عن التحولات السياسية التركية تجاه سوريا. على إثر اندلاع بما يسمى بثورات الربيع العربي ارتأت الحكومة التركية التدخل والمشاركة الحذرة في هذه العاصفة، من خلال ثلاثة رؤئ إستراتيجية حاكمة للسياسة الخارجية، وهي العثمانية الجديدة التي تحدد التوجه الخارجي لحزب العدالة والتنمية بالأساس، حيث يسعى الحزب إلى تحديد التجانس بين التراث العثماني و الإسلامي في الداخل والخارج، والكمالية التي يتبناها العلمانيون في تركيا، والتي ارتبطت بمؤسس الجمهورية في البلاد والتي تختلف بصورة واضحة عن توجه العثمانية الجديدة، والديغولية التركية والتي يمكن تسميتها بالطريق الثالث داخل تركيا، وهي آخر الرؤى الإستراتيجية التركية تطورًا وفيها تتلاقى العثمانية الجديدة والكمالية، فعلى الرغم من الخلافات بين الرؤيتين السابق الإشارة إليهما فإنهما معًا لديهما شعور قوي بالوطنية والإنتماء للدولة التركية، وبالتالي يمكن القول إن موقف أنقرة من ثورات الربيع العربي قد مرّ بأربع مراحل مختلفة وهي:
1_ مرحلة التحرك الحذر أحادي الجانب.
2_ الترحيب بثورات الربيع العربي.
3_ الحذر حيال تقديم دعم واضح وصرح لأن المصالح الاقتصادية التركية الهامة بالمنطقة كانت معرضة للخطر.
4_ التردد في قبول الضغوط الدولية لإحداث التغيير في المنطقة والإنتقاد الهادئ لحلف الناتو.
اتّبعت تركيا سياسة استباقية زائدة في سوريا من خلال فتح حدودها للمتطرفين الإرهابيين للمشاركة في أعمال العنف والتخريب، وتقديم الدعم العسكري واللوجستي لجميع الخارجين على الحكومة السورية منذ عام 2012، وتوجيه السلاح التركي نحو الشعب السوري ساعية لاستغلال أحداث المنطقة في السيطرة على المجتمعات والأنظمة السياسية العربية، وقد تجلّت هذه الخطوة في دعم تجربة مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي، ولكن سرعان ما تبدّلت المواقف بعد التأثيرات الإقتصادية التي عصفت بالداخل التركي، وتراجع الـتأييد الشعبي لسياسة الحزب الحاكم، وما أن تناولنا ضلوع الاعتبارات الأمنية بدور أسياسي في إعادة صوغ الموقف التركي حيال دمشق حتى برز المحدد الأمني في تشكيل السياسة الخارجية، ولا سيما في ظل تنامي التخوفات من تأجيج المشكلة الكردية وخصوصًا في اتساع مساحة الحدود المشتركة مع سوريا 877 كم، والسعي الفاشل لأكراد سوريا إلى تأسيس إقليم حكم ذاتي على غرار إقليم كردستان العراق. كيف تحوّلت أنقرة من أم حامية إلى بائعة لحلفائها في أسواق النخاسة؟.
مع تثاقل الأعباء التي أنهكت الداخل التركي نتيجة سياستها الخارجية تجاه الأزمة السورية خصوصًا، كان من الضروري اتخاذ بعض القرارات الضرورية والمهمة لتفادي المزيد من الخسائر، سواء على المستوى الإقتصادي والمستوى السياسي ولعل أبرزها هو التخلص من المسلّحين الموالين لها عبر زجّهم على جبات القتال في ليبيا وأذربيجان، في محاولة لإيجاد حل يُفضي إلى أقل خسائر ممكنة، وفي المقابل عملت على إعادة النظر في إدارة الشمال السوري من خلال إحلال القوات التركية بدلًا من وجود فصائل مسلحة متعددة الإنتمائات، وتذويب القادة التي أعدّتهم مسبقًا لتحقيق مصالحها في المنطقة، وكانت أخرها محاولة تسميم زعيم هيئة تحرير الشام أبي محمد الجولاني أحد أبرز أذرعها خلال جولة له في مدينة إدلب عبر أحد مساعديه الموالين لتركيا، وقد سبقت هذه الحادثة مقتل متزعم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي على يد قوات خاصة أمريكية في مناطق تخضع لسيطرة قوات الإحتلال التركي، وأشارت كل المعطيات على أن البغدادي كان يتنقل بين سوريا وتركيا تحت إشراف الاستخبارات التركية إلى حين بيع ملفه إلى إدارة ترامب لتحقيق مكاسب سياسية داخلية في واشنطن.
من العرض السابق أعلاه يتضح تمامًا تقلص الدور التركي في الأزمة السورية، وتبدّل للمواقف السياسية وخاصة في الآونة الأخيرة، بعد أن ضجت وسائل الأعلام العربية والدولية بالحديث عن التقارب السوري التركي برعاية روسية وعراقية لتقريب وجهات النظر وإنهاء الخلافات المركزية، وبعد أن أعلن الرئيس التركي نيته دعوة الرئيس السوري بشار الأسد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا في إطار تحرك يستهدف استعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق، ولعل أبرز تصريح للرئيس التركي الذي يمكن وصفه بالتغيير الجذري والمحوري بأن التنظيمات الإرهابية هي من تمانع تطبيع العلاقات مع سوريا، فكيف تحوّل الصديق إلى إرهابي بين ليلة وضحاها؟!