بدأ حزب الله باكراً بعملية المراجعة والتعافي، وهو ما كانت أولى نتائجه تعيين قادة جدد في الوحدات الشاغرة بعد عمليات الاغتيال التي طالت عدد من القادة خلال الحرب، وهو الأمر الذي عمل عليه القادة أنفسهم، كخطط طوارئ. غير أن الصورة التي بدأت تضح رويداً، مع انكشاف جملة من التفاصيل التي تتعلق بما جرى، كعملية تفجير البيجر التي تمت قبل سنوات، تتمركز أسئلة كبرى وسط المشهد. ليس فقط عند أصحاب القرار، بل عند البيئة الحاضنة من جهة أخرى. ولو أن بعض علامات الاستفهام تستغل من قبل "الشركاء في الوطن" لفرض مناخ معين وتوظيف ما جرى لصالح سياسي.
عدد كبير من التحليلات ومقالات الرأي والمقابلات أجريت خلال الفترة الماضية، لملئ بعض الفجوات التي خلفتها الحرب والتي شهدت أحداثاً متسارعة بشكل لافت، جعلت من ضخامة الأسئة أمراً يتطلب وعياً ادراكياً ومعرفة تاريخية تحليلة صحيحة لإيجاد أجوبة شافية لما جرى. ويمكن الحديث عن عدد من الأسئلة في هذا العرض.
هل فشل الردع بعد العام 2022 في حماية لبنان؟
نحن عشنا في لبنان من سنة 2006 إلى سنة 2022 تقريباً صفر اعتداء إسرائيلي على لبنان صار هناك محاولات مرة في البقاع وأكثر من مرة في الجنوب ولكن دائماً كانت هذه الاعتداءات تواجه من قبل المقاومة وسرعان ما تعود الأمور إلى نصابها ويستعيد لبنان الردع الذي كان شبه مطلق، هذا النموذج الذي نستطيع أن نقول نجح بين 2006 و2022.
الردع القائم بين المقاومة وكيان الاحتلال هو ردع لامتماثل، وهو نظام يخدم لوقت محدد وهو بحاجة إلى "تطوير الدعائم" بعد كل مرحلة وهو يختلف بحسب نوع العدو وطبيعته والأسلحة المتوفرة له والبيئة الاستراتيجية وبحسب ما توصيف الاكاديمي حسام مطر، فإن هذا الردع بحاجة إلى "إعادة شحن". واذا وصل الردع إلى لحظة وسقط، هذا لا يعني أنه كان فاشلاً، على العكس، فهو نجح لـ18 عاماً وأثبت فعاليته، عندما اجتاحت فوضى الربيع العربي المنطقة، واحتل التكفيريون الأراضي السورية، عندها لم تتجرأ إسرائيل على استغلال الظروف لمهاجمة لبنان بل وحقق اللبنانيون خلالها مكتسبات عدة من خلال فرض ترسيم الحدود البحرية والحفاظ على الثروات النفطية.
لماذا انتهى الردع؟
لسببين أساسيين بالحد الأدنى. السبب الأول، أن ما نسميه ميزان الردع كان خلال السنوات الماضية يتغير تدريجياً بطريقة غير منظورة لصالح الإسرائيليين، نتيجة تحول التقني والتكنولوجي والاستخباري. جاء حدث 7 أكتوبر ليفرض التغيير، في ظل وجود اليمين المتطرف والذي استغل الوضع القائم لتنفيذ الهجوم بدلاً من الانكفاء، خاصة أن المجتمع أصبح قابل وجاهز لإحتمال الخسائر
هل جبهة الاسناد هي التي سببت الحرب على لبنان؟
7 أكتوبر جاء في لحظة كانت الحكومة اليمينية المتطرفة تتخذ خطوات تصعيدية مثلا ضم الضفة الغربية، وتهويد القدس، واجراءات تصعيدية على الحافة اللبنانية، واستراتيجية ايران و حلفائها بالاستنزاف، ورغبة الولايات المتحدة بالانكفاء أكثر عن المنطقة والانشغال بأولوياتها، وهذا ما أنضج الرغبة الاسرائيلية بفتح معارك تعيد التوازنات. وبناء عليه خرج بنيامين نتنياهو ليقول بأنه يريد تغيير الشرق الأوسط وهو ما لم يتوصل إليه خلال يومين أي فترة وجيرة. وبالتالي، هو استفاد مما جرى ليقول بأنه يريد تغيير الواقع.
بالمقابل، كان هناك هاجس في 7 أكتوبر، وهو ما ظهرت عليه إسرائيل بأنها بحاجة للدعم الأميركي والحماية والأميركية والذخيرة الأميركية أيضاً وهي عبء على الولايات المتحدة، وكان نتنياهو يحاول إظهار صورة أخرى بأن إسرائيل هي ليست عبء بل "رصيد" لواشنطن، وأنه بهذه الحروب، يفعل ما عجزت واشنطن عن فعله وهو "تغيير الشرق الاوسط".
لهذا السبب فإن الحرب ليست ناتجة عن جبهة إسناد. بل تحركها الوقائع الجيوسياسية، وموازين القوى والمصالح العميقة للدول. ولذلك، في شهر كانون الأول/ديسمبر، صرح الاسرائيليون بأنه "حتى لو توقفت جبهة الاسناد، نحن لن نوقف الحرب حتى يتم تغيير الواقع الأمني في لبنان". ويأتي هذا التصريح قبل 9 أشهرمن بدء الحرب على لبنان.
لماذا لم ينجح حزب الله في منع تحول ما يجري في الجنوب إلى حرب شاملة على لبنان؟
الاسرائيلي كان يرى الموازين مختلة نتيجة التفوق الهائل في التكنولوجيا والاستخبارات، وهو دخل إلى المعركة عارف بوجود الفجوة في موازين القوى. وهذا يدركه فعلاً حتى قبل 7 أكتوبر.
مع دخول الحزب في جبهة الاسناد في 8 أكتوبر، فهو بالنتيجة قد فقد عنصر المفاجأة، مع دخول الحرب الفعلية على لبنان. وهنا، يجب التأكيد على أن الردع يؤدي دوره الكامل، عند وجود ضبابية وغموض بنوع الأسلحة والسقوف والاستراتيجية المتبعة، وهذا ما لم يكن موجوداً مع بداية الحرب، نتيجة هذه الفجوة، والمراكمة الاستخباراتية المعلوماتية لسنوات مضت.
من ناحية أخرى، فإن إدارة حزب الله لمعركة الاسناد كان ذكياً، باستعمال وتوظيف كل صاروخ أو هدف ضمن معادلة محددة وبدقة، دون حصول أي أمر عشوائياً. ولو لم يكن هناك نية إسرائيلية سابقة بافتعال حرب، فإن جبهة الاسناد لم تكن لتؤدي إلى حرب.
هل لا يزال هناك "محور المقاومة"؟
يشبه خطان نيتناهو، خطاب جورج بوش الابن عام 2001، عندما أعلن نيته خلق "شرق أوسط جديد". يصف مطر الشرق الأوسط بأنه "لعنة"، كلما أتى أحدهم محاولاً تغيير الواقع فيه، قلبت الأمور. فالولايات المتحدة مثلاً، تورطت آنذاك بحرب افغانستان والعراق وقال أن المنطقة دخلت في العصر الأميركي. بعدها قلبت الطاولة: خرجوا من حرب العراق بهزيمة أسوأ من حرب فيتنام، وسقط الاسلام السياسي وخرج محور المقاومة قوياً. وانحرف المشروع إلى مكان لم يكن يتوقع أحد أن يذهب إليه. والأمر نفسه عام 1973، عندما ولدت الثورة الاسلامية في إيران، كما عام 1982 وولادة المقاومة في لبنان.
من جهة أخرى، فإن 80% من الشعوب العربية هي ضد التطبيع مع كيان الاحتلال. وهو ما يجعل خيار المقاومة هو خيار الشعوب. والواقع، أنه من الممكن ان تتغير إستراتيجية من استراتيجيات المحور، بحسب الظروف وموازين القوى، لكنه بالتالي، قادر على تطوير استراتيجيات أخرى، للتعامل مع الواقع الجديد، مع الاشارة أن الحرب لم تنته بعد، وأي تحريك بحجر الشطرنج، بالشرق الأوسط وهو المنطقة شديدة التعقيد، يفتح عدد كبير من الاحتمالات، لا يستطع أحد توقعه مباشرة، بل يكشفه الوقت.
وبالتالي، محور المقاومة باقٍ بشكل جديد، واستراتيجية جديدة، كذلك حركات المقاومة والتحرر في كل المنطقة، على ضوء التجربة التي راكموها خلال السنوات الماضية.
الكاتب: غرفة التحرير