إن تاريخ الولايات المتحدة حول استثمار العمل الإعلامي وإنشاء أو تمويل القنوات الإعلامية يزخر بالشواهد والأدلة، خدمةً للأجندة الأمريكية ومصالح الولايات المتحدة، وباعتبار أن المملكة السعودية من الأذرع الأمريكية الأساسية في المنطقة وتمثل أحد وكلائها التي تعتمد عليها في توظيف وتسييس المسارات الإعلامية بما يخدم سياساتها، فإن قضية التمويل الأمريكي-السعودي في لبنان هي قضية حساسة لا بد من تأطيرها وتسليط الضوء عليها رغم جلائها ووضوحها، بما يدرأ الفتن عن الجمهور والرأي العام الذي بات متأثرا بالضخ الهائل من المعلومات المفبركة والسرديات المضللة والتجييش والتحريض. وتعتبر الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي هي اليد الفاعلة في هذا المجال لقيادة التمويل وتوزيع الأدوار والجهود العالمية بما يصب في خدمة المصالح الأمريكية.
فما هو دور الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي لا سيما على الأرض اللبنانية عبر تمويلها لقنوات محلية دون غيرها؟ وهل تعمل على إذكاء الفتنة الأهلية وإعلاء المصالح الأمريكية على المصلحة الوطنية؟
الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي
تلك الوكالة التي تسمى (USAGM) هي منظمة رسمية تابعة للإدارة الأمريكية، قائمة على قانون سميث موندت عام 1948، ويتمثل دورها في الإشراف على جميع أنشطة البث وتوفير الإدارة الاستراتيجية للوكالة. وهي بمثابة جدار حماية بين صانعي السياسة في الحكومة الأمريكية والصحفيين.
ومن أهم ما تقوم به هذه الوكالة:
• توزيع بث الوسائط المتعددة، بالإضافة إلى الدعم الفني والإداري لشبكات البث. وتدير شبكة عالمية من مواقع الإرسال ونظامًا واسعًا من دوائر الأقمار الصناعية والألياف البصرية المؤجرة، جنبًا إلى جنب مع نظام توصيل الإنترنت سريع النمو الذي يخدم جميع مذيعي USAGM.
• توزيع المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الشبكات على جماهيرهم بأكثر الطرق فعالية من حيث التكلفة والموثوقية والفعالية.
• تدريب مئات الصحفيين والمحررين والمذيعين ومديري وسائل الإعلام كل عام تحت سلطتها في جميع أنحاء العالم.
تصريح ديفيد هيل بخصوص التمويل الأمريكي للوسائل الإعلامية
بناء على ما تقدم بخصوص التخطيط الأمريكي للتحكم بالمسرح العالمي من خلال التأثير على الوسائل الإعلامية والضغط على الرأي العام في المنطقة، يمكننا الرجوع إلى تصريح وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل، في أيلول 2020، خلال جلسة استماع في لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ الذي اعترف بأن الولايات المتحدة قد أمنت "للبنان 10 مليارات دولار، قامت بتوزيعها على القوى الأمنية من جهة، وعلى منظمات المجتمع المدني من جهة أخرى، خلال سنوات من أجل التنمية الاقتصادية والدعم الإنساني".
وقد عبّر بوضوح عن الجهات التي وجهت لها المساعدات والتي تشمل بالدرجة الأولى الوسائل الإعلامية الموالية لأمريكا حيث قال "لا أحد قدم مساعدات لبيروت كما قدمت لها الولايات المتحدة، تلك المبالغ دفعت لبيروت عقب الانفجار وجزء معتبر من هذا المبلغ الضخم ذهب إلى رؤساء ونشطاء في أحزاب ووسائل إعلام ومواقع إلكترونية ومنصات تواصل اجتماعي وحركات مجتمع مدني لمواجهة حزب الله والقوى المتحالفة معه".
التمويل السعودي لـ MTV وفضيحة "ويكيليكس" 2012:
أن يجتمع مندوبون من وزارة الخارجية ووزارة المالية ووزارة الثقافة والإعلام ومن الرئاسة العامة للاستخبارات في المملكة العربية السعودية كي يدرسوا مشروعاً إعلامياً ثم يأتي "قرار سامٍ" ملكي بالموافقة على تمويل المشروع بملايين الدولارات شرط التزام قواعد معينة... فهذا يدلّ على الجدية والخطورة التي تتعاطى بها المملكة السعودية فيما يتعلّق بخططها الإعلامية الخارجية، والتي لطالما صبت في صالح الأجندة الأمريكية التي تشغلها في المنطقة.
فبالعودة إلى اجتماع قمّة جمع مندوبون من تلك اللحان، الذي أقرّ فيه آل سعود تمويل محطة تلفزيونية لبنانية "تعاني من ظروف مالية صعبة"، نرى أن ملايين الدولارات قد دفعت لقاء تنفيذ تعاليم النظام السعودي وخدمة مصالح المملكة وسياستها. هذا ما اشترطه صراحة الأمراء السعوديون مقابل تمويل محطة "إم تي في" MTV اللبنانية عام ٢٠١٢ كما تبيّن الوثائق المسرّبة من وزارة الخارجية السعودية حسبما تشير وثائق "ويكيليكس".
وفي اجتماعات "سرية جداً" في الرياض ومراسلات "سريّة وعاجلة" بين السفارة السعودية في بيروت ورئيس مجلس إدارة "إم تي في" ميشال المرّ والمملكة، وضع المرّ محطته "إعلامياً وتقنياً وسياسياً" بين أيدي النظام السعودي لقاء دعم مالي أقلّ بكثير مما رَغِب. أربع وثائق صادرة عن الخارجية السعودية تؤكد كيف رهن المرّ محطته "اللبنانية المستقلة" للقرار السعودي. المجتمعون طالبوا أيضاً بأن يكون هناك خطّة عمل تلتزمها القناة اللبنانية بهدف "خدمة قضايا المملكة ومواجهة الإعلام المعادي لها في لبنان وغيره" من البلدان.
بيار الضاهر، تحسين الخيّاط وميشال المرّ تلقّوا أموالاً من السعودية والإمارات
بالتزامن مع قطع الطرقات المنظّم في جغرافيات بالغة الدّقة وشلّ البلاد، في اليوم التالي لجلسة "الواتس أب"، وسيادة منطق "الثورة للثورة"، بدا تدخل الدول الإقليمية في دعم جماعات محدّدة من المتظاهرين، وشخصيات ووسائل إعلام بعينها.
ورغم كل الصراع بين معسكري قطر وتركيا من جهة والإمارات والسعودية من جهة أخرى، إلا أن هذه الأدوات الأميركية التي لا تتفّق فيما بينها إلا على أمن إسرائيل وتخريب العالم العربي، انخرطت بالتدريج في لعبة تمويل مرتزقتها، التي تنفّذ على الأرض سيناريو يشبه الانقلاب، مستغلةً انتفاضة شعبية انفجرت في لحظة ارتكاب السلطة خطأها القاتل.
رئيس مجلس إدارة ال بي سي آي"، بيار الضاهر، اعترف للرئيس سعد الحريري، كيف تلقّى أموالاً من السعودية والإمارات، مع زميليه تحسين الخيّاط وميشال المرّ، في جلسة عوّض بها الحريري انقطاعه عن لقاء السفيرين السعودي والإماراتي، على عكس باقي الدول الأخرى، لا سيما الأوروبية منها. السعوديون والإماراتيون أيضاً موّلوا رئيس حزب القوات سمير جعجع، لكي يعود ويذكّر اللبنانيين بميليشياته وحواجزه "السلمية".
الكاتب: غرفة التحرير