عمدت الولايات المتحدّة الى تصوير صندوق النقد الدولي على انه "المخلّص" لأزمات الدول الاقتصادية فيما لم يكن سوى "فخ" لإيقاعها تحت "الاستعمار المالي" الأمريكي من خلال العديد من الأساليب والبنود، من أهمها الخصخصة والمديونية ومبدأ المشروطية، وتفتعل واشنطن الأزمات في الدول حتى تتسلّل عبر صندوق النقد الى الدول لتسطو على مفاصل الدولة الاقتصادية ومؤسساتها بما يخدم مصالحها وأجنداتها الرأسمالية.
وربما العراق هو الدولة الأكثر تضرراً من سياسات صندوق النقد الدولي منذ احتلاله عبر قوانين "بريمر" التي سمحت بتوغّل الشركات الامريكية في البلد وسادت فيه الاحتكارات، وطبعاً ليس النموذج العراقي هو الوحيد. ولتلخيص الدور الشرس لصندوق النقد الدولي تشير بعض الأوساط الاقتصادية الامريكية الى ان "سياسته تتعارض مع حقوق الانسان"!
كان النظام العالمي في أربعينيات القرن الماضي يعيش انتشار وتفاقم الأزمات الاقتصادية، وتخبُّطاً في السياسات المالية، فضلاً عن الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية، وهو الشيء الذي دفع القوى العالمية، بقيادة الولايات المتحدة، إلى عقد اجتماع أممي في عام 1945، ضم 44 دولة، نتج عنه توقيع اتفاقية بريتون وودز، التي تم بموجبها إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين.
وكان الهدف الرئيس من إنشاء صندوق النقد الدولي هو تحقيق النمو الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، إضافة إلى منع وقوع الأزمات المالية، من خلال إلزام الدول الأعضاء باعتماد سياسات اقتصادية سليمة، وقد عمد الى تأمين موارده من الدول الأعضاء. تمثل حصة البلد العضو في الأساس انعكاسًا للحجم الاقتصادي النسبي للبلد العضو ومركزه في الاقتصاد العالمي، كما تحدد هذه الحصة مدى قدرة البلد العضو في التأثير على قرارات صندوق النقد الدولي.
وبما أن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا هما الدولتان الأقل تأثرًا وضررًا في الحرب العالمية الثانية، فإن الحصص الأكبر في صندوق النقد تعود لهما، ما يعطي لهاتين الدولتين القدرة على التأثير والتحكم بقرارات صندوق النقد الدولي، فلذلك يمكن القول بأن الصندوق ما هو إلا لحماية أصحاب القرار فيه، وأن حقيقة أهدافه جاءت على قاعدة "ما لم تغيره الحرب سيغيره الاقتصاد".
اتبعت الولايات المتحدة يعرف "بنظرية الصدمة"، وهي نظرية للعالم فريدمان غايتها السماح للشركات الأمريكية العابرة للقارات أن تتحكم باقتصاد بلدان بأكملها، فبما أن الشعوب لا تقبل إطلاقا أن تصبح حياتها واقتصادها بيد حفنة من رجال الأعمال الأجانب فلا بد إذًا من صدمة كبيرة لأهل البلد تجعلهم فاقدي الوعي حتى يقبلوا بالتغيرات الجديدة.
فكيف أغرق صندوق النقد الدولي العديد من بلدان العالم في مزيد من الانهيارات الاقتصادية والمالية؟
تأثير صندوق النقد في الاقتصادي التشيلي نموذجاً
أول بلد تم تطبيق النظرية عليه كان تشيلي الذي كان النظام الاقتصادي فيه شيوعيًا، بدأ الأمر بتدبير انقلاب عسكري فيه دعمته الولايات المتحدة الأميركية برئاسة نيكسون، و بعد الانقلاب جاءت الصدمة على شاكلة ارتفاع كبير بالأسعار و أعمال شغب، و اعتقالات تعسفية وخطف علني في وضح النهار وفوضى عارمة في البلاد و ارتفاع في مستويات البطالة، فكانت البلاد تسير مسرعة نحو الهاوية حتى أصيب الناس بشلل في التفكير و الفهم، فلم يعودوا قادرين على استيعاب ما يجري وكيف الخلاص، و في لحظة الصدمة هذه جاءت الحلول الممنهجة من صندوق النقد الدولي التي ستنقذ البلد على حدّ قولهم، و ذلك عبر تحول اقتصاد تشيلي لاقتصاد سوق حرة، أي أن ترفع الدولة يدها عن الاقتصاد بشكل كامل كي تتمكن الشركات الأمريكية من سيادته، فقبلت الدولة بذلك و الشعب أيضا قبله و انتصرت نظرية الصدمة.
هيمنة الولايات المتحدة على اقتصاد العراق: قانون "بريمر"
لم تكن تشيلي إلا الحلقة الأولى في نظرية الصدمة، حيث طبقت هذه النظرية على عدة بلدان من أميركا الجنوبية ثم على الإتحاد السوفياتي ثم على العراق وغيرها، ومن الجدير بالذكر أن دونالد رامسفلد وزير الدفاع الأميركي أبان حرب العراق كان يومًا ما تلميذًا للدكتور فريدمان صاحب نظرية الصدمة وهو الداعم الأول لقانون "بريمر".
هذا ما يظهر لنا أن سبب قبول الشعب العراقي والدولة العراقية بقانون "بريمر" لم يكن فقط بسبب الوجود العسكري الأميركي فيها ولكن كان بسبب الصدمة التي افتعلتها أميركا في العراق وإذا تطرّقنا إلى بنود قانون بريمر نجد أن الهدف الرئيسي يصب في منظومة الليبرالية التي تخدم المصالح الأميركية، وأبرز هذه البنود:
_ البند رقم 12: سياسة تحرير التجارة.
_ البند رقم 54: سياسة تحرير التجارة لعام 2004.
_ البند رقم 39: الاستثمار الأجنبي (معدل بموجب الأمر 46) (20 كانون الأول 2003) - تحرير التجارة "استقلال البنك المركزي؛ وضع قواعد لأسواق العملات والأوراق المالية الجديدة؛ السياسات المعلنة للعلامات التجارية وبراءات الاختراع، وحقوق النشر، والعقود العامة، وتسوية الديون، وخصخصة مؤسسات الدولة وبالتالي وضع الشروط الأساسية للاقتصاد السياسي النيوليبرالي الذي كانت الولايات المتحدة تنوي إطلاقه في العراق.
_ البند رقم 17: وضع سلطة التحالف المؤقتة، القوة المتعددة الجنسيات في العراق، بعض البعثات والأفراد في العراق.
_ البند رقم 18: إجراءات ضمان استقلالية البنك المركزي العراقي (7 تموز 2003).
_ البند رقم 81: قانون براءات الاختراع والتصميم الصناعي والمعلومات غير المكشوف عنها والدوائر المتكاملة والأصناف النباتية (26 نيسان 2004) - وفقًا للأمر 81، الفقرة 66 - [ب]، الصادر عن L. Paul Bremer [CFR]، يُحظر الآن في العراق حفظ البذور المصممة حديثًا (وليس البذور التقليدية) ويجوز لها زراعة البذور فقط من أجل غذائها من الموزعين الأمريكيين المعتمدين والمرخصين.
_ البند رقم 36: لائحة توزيع النفط (الملحق أ) (3 تشرين الأول 2003).
إن هذه البنود توضح الهدف من تدخل أميركا بالعراق إذ تقع جميعًا في خدمة المصالح الأميركية، وعليه فإن تحرير التجارة هو بند رئيسي، والهدف منه تطبيق السياسات الليبرالية التي تتبعها الولايات المتحدة. هذا التحرير للسوق سيخول للعملة الأميركية بأن تجتاح الدول العربية، وهذا من أحد أهم أهداف صندوق النقد الدولي، إضافة لأن البند رقم 18 يشير الى استقلالية البنك المركزي العراقي، وهذا كما قال البروفيسور كاتاسونوف يعني جعل البنك المركزي العراقي بنكًا لخدمة الفيدرالية الأميركية كما هو الحال في بنك روسيا.
أما البند رقم 39 فيسلط الضوء على الخصخصة و التي هي أفضل طريقة لفرض الهيمنة الأميركية، فغياب الدولة يخول للولايات المتحدة التحكم بالشركات المحلية وبالقطاعات الاقتصادية، فلا نستطيع إخفاء أن ما تملكه أميركا من سلطة عبر شركاتها متعددة الجنسيات هو أمر مقلق وطريق من طرق السيطرة، و البند رقم 81 يوضح ذلك فالهدف منه هو الحدّ من الاكتشافات العلمية، والتطوّر في أحد أهم القطاعات الاقتصادية وهو القطاع الزراعي، والهدف أن يبقى هذا القطاع معتمدًا على الشركات الأميركية وأن تبقى العراق في تبعية تامة للولايات المتحدة الأميركية.
ويبيّن المدوّن التونسي نور الدين عبد الله كشيد في مقالته في مجلة MTA POST، أن برامج هذا الصندوق ما هي إلا تجسيد لرؤية المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية والعولمة الرأسمالية، وأهمها: تحرير أسواق المال والتجارة، إزالة الحواجز لانسياب السلع والتدفقات النقدية، تقليص الخدمات الحكومية، وقف الدعم وتطبيق سياسة التخاصية لتوسيع السوق الرأسمالي وتأمين فرص أرحب للاحتكارات الرأسمالية.
التجربة الماليزية مع صندوق النقد
وهناك من الدول التي نجحت في معاكسة هذه السياسات الاستعمارية للصندوق، ولعل التجربة الماليزية خير مثال، فماليزيا التي نجحت بقيادة مهاتير محمد عام 1998 في إنقاذ الاقتصاد ليس لأنها لم تنصاع "لشروط" صندوق النقد الدولي بل عمدت لمعاكسته تماما بحيث نفذت خطة معاكسة.
تونس: نموذج المديونية لصندوق النقد
أما في تونس اليوم التي تنزلق في هاوية المديونية والتبعية لهذه المؤسسة المالية، رغم خروجها من تحت وطأة الاستعمار بميراث من التبعية والاستعمار الاقتصادي القاسي، إلا أنها اليوم تسقط في ورطة سياسات صندوق النقد الدولي وأشباهه، وهذا نتاج لانسياق قديم، إذ نجحوا في جرّها إلى الاعتماد على سياسات الاقتراض بحجج متعددة منها تقليص نسب الفقر ودعم الاقتصاديات النامية، أما واقعًا فإن كل حكومة تمسك بزمام الدولة ستجد نفسها أمام موروث متفاقم من الاقتراض، ومن سياسات إغراق الدولة ومؤسساتها في مستنقع الاقتراض والتبعية. ولرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي رأي في هذا إذ جاء في كتابه "من الفكر الإسلامي في تونس" (صـ13): "إن كل المساعدات التي يبذلها الأوروبي سوف تساهم مساهمة فعلية في زيادة التبعية والارتباط".
الواقع أن الادعاء بحيادية تلك "المؤسسات المالية والنقدية" وبأنها معزولة عن المنظومة الاستعمارية، هو كذبة كبيرة. ولا يوجد دليل أحسن من الرجوع إلى الأرقام والتجارب التي مرت بها الدول الواقعة في فخ هذه المؤسسات المقرضة، فما هذه المؤسسات إلا "مؤسسات مالية استعمارية" تسعى لإفقار الشعوب ونهب ثرواتها لحساب رفاهية "دكتاتوريات المقرضين" عبر "غزو اقتصادي" مقنّع يرتدي ثوب مساعدة "الدولة المتعثرة" و "التصحيح الاقتصادي".
ولعل أفضل تعبير عن مسؤولية صندوق النقد وما يشبهه مؤسسات مالية في الإفقار وضرب لمؤسسة حقوق الإنسان والتنمية، هو ما قاله الخبير الاقتصادي والمحامي الأمريكي ألفريد دي زاياس، الذي أكد سابقاً أن سياسات صندوق النقد الدولي تتعارض مع حقوق الإنسان، ودعا لإعادة النظر في سياسته المتناقضة، وقال دي زاياس أيضا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أكتوبر الماضي، إنه يجب على القائمين على تلك المنظمة ألا يتجاهلوا حقوق الإنسان عند منح القروض، وأن يتم التعامل فقط مع الدول التي تفي بالتزاماتها على صعيد التنمية واحترام الحقوق.
كما أكد هذه النظرية البروفيسور فالنتين كاتاسونوف وهو عالم اقتصاد روسي، متخصص في الاقتصاد البيئي والعلاقات النقدية الدولية والبنوك والذهب في التمويل العالمي في تصريح له في مقابلة مع الإعلامي خالد الرشد في برنامج رحلة في الذاكرة، حيث أشار الى أنه عمل في منظومة البنك الدولي على مدى خمس سنوات و نصف، وشارك في أحد المشاريع التي قدم بموجبها هذا البنك أموالًا لروسيا الاتحادية، ما مكّنه أن يلمس من الداخل كيف رُتِّبت هذه الأمور، وأضاف كاتاسونوف، أننا إذا تطرقنا إلى مبادئ البنك الدولي نجد أنها تختلف جوهريًا عن مبادئ صندوق النقد الدولي.
صندوق النقد الدولي: مصالح الرأسمالية الامريكية أولا!
لقد أسس صندوق النقد الدولي من أجل تقديم القروض للبلدان التي بدأ الضعف يعتري عملتها الوطنية، كان القرض يتيح المحافظة على استقرار سعر صرف العملة. أما البنك الدولي للإنشاء والتعمير، فقد قدم قروضًا للدول الأوروبية المدمرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتقديم المساعدة في إعادة إعمار ما دُمّر، وللتنمية في الدول الأوروبية المدمَّرة، ما يوضح أن هذه القروض كانت تعطى من أجل مشاريع استثمارية معينة مرتبطة فقط بالبنى التحتية ولكن فيما بعد أصبح البنك يقدم قروضًا لمشاريع أخرى.
وبغض النظر عن هذه الفروقات، فإن هاتين المؤسستين تسيران في اتجاه واحد. فالبنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي يضعان مصالح الرأسمال الأمريكي في المقام الأول.
و قد وضح البروفيسور كاتاسونوف فكرة القروض المقيدة التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية، و هي قروض لا يمكن إنفاقها إلا لأهداف معينة، وهي شراء سلع محددة لشركات يحددّها المقرضون (أي من الشركات متعددة الجنسيات)، فإذا افترضنا أن أي دولة تحصل على قرض من البنك الدولي، فإن ذلك لا يعني أنها تستطيع أخذ هذا القرض نقدًا والتصرف به كما يبتغي، لذا فإن شروط الإقراض قاسية جدًا، و نادرًا ما تصل الأموال لمؤسسات محددة في البلد المقترض، وإنما تذهب فورًا للدفع مقابل سلع وخدمات محددة في شركات محددة، وبناءً على ذلك تجري المشاريع المقرضة. وأشار البروفيسور، أنه في هذه الحالة فإن المساعدة لا تقدّم للبلد المقترض، بقدر ما تقدم لشركات موجودة على أراضي الولايات المتحدة الأميركية والتي يتم إجبار الدولة المقترضة بأخذ السلع والخدمات التي تحتاجها منها.
كما أكمل البروفيسور كاتاسونوف بأن المؤسسة الفعلية التي تربط البلدان بنظام الرأسمال الأمريكي هي صندوق النقد الدولي، ويتلخّص الأمر في أن صندوق النقد الدولي أنشأ أصلا لضمان استقرار عملات الدول الأعضاء في هذا الصندوق ذاته، وبعد أن حلّت اتفاقية "جمايكا" المالية محل نظام بريتون وودز العالمي (اتفاقية جامايكا كانت مجموعة من الاتفاقات الدولية التي صدقت على انتهاء نظام بريتون المالي، سمحت الاتفاقيات لسعر الذهب بالعَوْم مقابل الدولار و العملات الأخرى) وتمّ فك ارتباط الدولار بالذهب، كفّ صندوق النقد الدولي عن لعب دوره السابق، ولم يعد معروفًا الغرض منه، من حينها بدأ الصندوق يرتّب عمله لا لمساعدة البلدان المقترضة في ضمان استقرار سعر عملتها، بل لتنفيذ برامج الولايات المتحدة الأميركية الاقتصادية، وهذا يعني التزام الدول المقترضة بحزمة من المبادئ التي فعلا تربط بشدة اقتصاد البلد المقترض بالطرف المقرض، في هذه الحالة التي نحن فيها فإن المقرضين هم الولايات المتحدة الأميركية أو الغرب بشكل واسع، و يقتصر طلب الدائن بتحرير أو لبرلة العلاقات الاقتصادية الخارجية، وإلغاء كل تحكّم بسعر صرف العملة، وأسعار السوق الداخلي، ما يعني إلغاء مكافحة الاحتكار والتخلي عن ضبط الأسعار. هذه المسائل لا تلغى من الناحية الشكلية بل هي تكفّ وحسب عن أداء وظائفها، يلي ذلك تقليص نفقات الميزانية وتطبيق عملية الخصخصة، وتطوير الأسواق المالية، وهذا كلّه يخدم أصحاب العملة العالمية (الدولار) لأن تطبيق هذه المبادئ يساعد في تطوير علاقات السوق، وهذا يعني خلق طلب إضافي على عملة الدولار.
يبين كاتاسونوف كيف تتحكم الدولة الأميركية بالدول الأعضاء بطرق داخلية، فمثلا نجد أن بنك روسيا قد تغيرت سياساته عما كانت عليه في زمن الإتحاد السوفياتي، إذ أن الأموال آنذاك كانت ملكًا للبلد الذي يطبعها، أما الآن فقد بات بنك روسيا تابعا للدولة الأميركية، وذلك بسبب أن بنك روسيا أصبح عمليَا فرعَا للنظام الفيدرالي الأمريكي، وأصبح من الأصح تسميته بأنه إدارة للنقد لا مصرفًا مركزيًا، و يعود ذلك لأن إدارة النقد هي مؤسسة تصدر أوراقًا للعملة الوطنية تبعًا لما تشتريه في السوق من العملات الأجنبية، و في حين أن العملة يجب أن تتأثر بحسب القيمة الفعلية للسلع المحلية مقابل السلع الأجنبية، إلا أنه في هذه الحالة نجد أن سعر صرف الروبل منخفض عن القيمة التي يحددها السوق وذلك بسبب أن البنك الروسي يقوم بضخ الروبل لشراء العملة الأجنبية، مما يخلق طلبًا على الدولار، وبطبيعة الحال سيزيد من قيمة الدولار بالنسبة للروبل، ويخفض من سعر صرفها، و هذا ما يسمى بالتقييد المصطنع.
مزيد من الانهيار الاقتصادي للدول
إذا نجد هنا أن هذه القروض التي يقدمها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لم تكن مفيدة لأغلب الدول المستضعفة، إنما كانت القروض بوابة لمزيد من الانهيار الاقتصادي والتعثر المالي، بل وزيادة معدلات البطالة في تلك الدول.
وقد أبدى الباحث في الشأن السياسي الأستاذ أحمد كردش في مقالة له على موقع قناة الجزيرة أسباب فشل هذه القروض، وأبرزها أن الحلول والمعالجات موحدة لجميع دول العالم الثالث، فتقريبا كل الدول طلب منها نفس المعالجات الاقتصادية (رغم التناقص والاختلاف بين واقعها الاقتصادي) والتي تنحصر في إزالة التعريفات الجمركية على الواردات وفرض سياسات تقشفية حادة، هذه الحلول لم تكن موجّهة أبدًا للمشاكل الحقيقية التي تواجه اقتصاد الدولة الممنوح لها القرض، كما أن بعض توجيهات الصندوق ساهمت في تدمير الموارد والصناعات المحلية للدول المقترضة، بقصد أو بدون قصد، مما يدعم الافتراض بأن الصندوق موجه من دول كبرى بعينها. إضافة إلى أن صندوق النقد الدولي لا يهتم بضبط ومحاسبة الأنظمة الفاسدة في قنوات القروض، مثل اهتمامه بالتأكد أن الدولة قادرة على سداد القروض ما يمكن زمرة حاكمة من الثراء على حساب الشعب الذي يتحمل تكلفة القرض وفوائده، كما أن لسياسات النقد التدميرية التي ينتهجها الصندوق تحت مسمى إصلاحات اقتصادية، تساهم في إضعاف قيمة العملة المحلية وتهاوي احتياطات البنوك المركزية. وأخيرا فإن مطالبة الصندوق الدائمة للدول المقترضة بفتح الاقتصاد وتحرير الأسواق ورفع يد الدولة هو تجاهل واضح لخصوصية الوضع الاقتصادي الحساس للفئات التي ترزح تحت خط الفقر وإلى ضعف الصناعة المحلية في تلك الدول مما يزيد من معاناة هذه الفئات ويقود الصناعة المحلية للانهيار العاجل.
إن قوانين النظام الداخلي للصندوق تبيّن كيف أن هناك نقاط مثيرة للجدل، وضعت بشكل يضمن حدوث ما ورد أعلاه نوضحها في الآتي:
_حقوق التصويت في الصندوق متعلقة بحجم حصة الدولة العضو في الصندوق (أي حصة إسهاماته المالية) ، وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا قد ساهمت بأكبر حصة (من الدولار ومن الذهب) ، فإنها لم تضمن لنفسها قوة تصويتية تكاد تبلغ الضعف فقط، بل أيضا استطاعت التمتع بنظام حق التصويت المرجح (الفيتو) منذ تأسيس الصندوق.
_ لتقديم المشورة لأعضائه بشأن السياسات الاقتصادية أو لإقراضهم، يتمتع الصندوق بحق الاطلاع على كل تفاصيل الوضع الاقتصادي للبلد وعلى كل الأسرار المالية والنقدية لهذا الأخير.
_ مبدأ المشروطية الذي يقضي بأن الموافقة على التمويل المطلوب أمسى يتوقف على تنفيذ شروط معينة تتعدى الشروط المتفق عليها بشأن فترات السداد ومعدلات الفائدة على القرض ويتوجب على الدولة المقترضة تحرير خطاب نوايا يقضي بالتزامها بهذه الشروط.
- الاتفاقيات التي تعقدها الحكومات مع صندوق النقد لا تنضوي تحت مظلة الاتفاقيات الدولية، وبالتالي فإنها لا تحتاج تصويتًا برلمانيًا أو موافقة برلمانات تلك الدول، كما يعتبر صندوق النقد الدولي مدينًا مميزًا، أي أن القروض الممنوحة من قبله لها أولوية تامة في السداد.
ختامًا، قد نختلف حول تقييمنا لدور صندوق النقد الدولي ومدى نجاحه، ولكن بالتأكيد أن الآثار الاقتصادية الكارثية التي ظهرت على أغلب الدول المقترضة، تظهر دورًا خفيًا يلعبه صندوق النقد الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. وعلى الصعيد المحلي فإن لبنان على بعد خطوات من توقيع اتفاق مشروط مع صندوق النقد الدولي ، الذي يعاني من أزمات معيشية ومالية و اجتماعية، وقد تكون مفتعلة، وليست بعيدة عن نظرية الصدمة، التي قد تجبر اللبنانيين بالرضوخ لخيارات صندوق النقد الدولي، إلا في حالة واحدة وهي معرفة إدارة الأزمة كما حدث في العديد من الدول التي استطاعت تسديد كامل قروضها لصندوق النقد الدولي ككوريا الجنوبية، البرازيل، وروسيا والأرجنتين والأوروغواي، وتركيا ولاتفيا وهنغاريا، ومقدونيا ورومانيا وآيسلندا، هذه الدول استطاعت إدارة القروض التي استعانت بها من صندوق النقد دون الانغماس في هاوية الديون.
إضافة للدول التي استطاعت فك أزماتها وحل مشاكلها الاقتصادية دون اللجوء لصندوق النقد الدولي، كماليزيا مثلا فقد قام مهاتير محمد بتوجيه سؤال للقائمين على صندوق النقد الدولي بعد عرضهم للمساعدة لماليزيا السؤال التالي: هل ستكونون مسؤولون معنا إذا ما وقعت تداعيات سلبية من القرض والمعالجات المقترحة؟ فأجابوه: طبعا لا.. لسنا مسؤولين معك، إننا نمنح القرض ونعطي المقترحات، وأنتم المسؤولون بعد ذلك عن كل أمر، ولا شأن لنا بالتداعيات، فرد عليهم «مهاتير» سريعا: إذن لا نريد منكم قرضًا ولا مقترحات، ونحن أدرى بشؤوننا، وبسواعد وعقول أبنائنا، وسوف أعتمد على بلدي وشعبي، وبالفعل اعتمدت ماليزيا على نفسها وذلك عبر اجراءات اقتصادية عديدة، منها خطتها الخاصة لمواجهة الأزمة، وتضمّنت فرض ضوابط العملة على حساب رأس المال (وليس على حساب رأس المال الجاري)، وإلغاء التداول على الرينجيت خارج ماليزيا، وتجميد تخارج الأجانب من محافظهم المالية بالسوق الماليزي (قيمتها حوالي 18 مليار دولار) لمدة 12 شهرًا، وربط الرينجيت بالدولار الأمريكي، في محاولة لمنع المضاربة على الرينجيت، سياسة ماليزيا الحاسمة وغير التقليدية في إدارة الأزمة، والمتمثلة في ربط الدولار بالرينجيت، أعطت الحكومة مزيدًا من السيطرة على سياستها الاقتصادية وحجّمت المضاربات على العملة. وفي نفس الوقت نجحت ماليزيا في تجنب خطر أن تصبح قيمة الرينجت مبالغ فيها مع مرور الوقت، ثم أجرت ماليزيا عملية إعادة هيكلة، لنظامها المالي. وشملت عملية تحقيق الاستقرار المالي، إنشاء مؤسسات لشراء القروض المتعثرة وإعادة رسملة المؤسسات المالية، ودمج بعضها، وتطوير سوق السندات المحلية.
كل هذه الخطوات ساهمت بإخراج ماليزيا من أزمتها الاقتصادية و بالتالي هناك سبل غير صندوق النقد الدولي للخروج من الأزمات، أو عبر الصندوق و لكن مع السيطرة على القروض و صبها في صالح البلد المقترض لا لصالح البلد المقرض فقط، ويبقى التساؤل ما هي السياسات التي يجب على الدول المقترضة اتباعها لاستغلال صندوق النقد الدولي لصالحها، وهل يحتاج صندوق النقد الدولي إلى إصلاح إداري أو إعادة هيكلة ليصبح أكثر إنسانية وعدالة وهل تعيد الدول المستضعفة حساباتها بخصوص اعتمادها على الاقتراض من الصندوق خاصة في حال استمرار الشروط التي تعود بالسلب على اقتصاداتها، تساؤل سيحمل المستقبل إجابات عنه ومن يدري ربما المستقبل القريب جدًا.
الكاتب: مروة قبيسي