ساهمت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركيةCIA منذ نشأتها في تنفيذ السياسة الخارجية الاميركية، إلا أن هذا الدور كان مرتبطاً بجملة من الشروط، فالوكالة لم تكن مجرد أداة أو وسيلة لتنفيذ سياسات أو عمليات محددة، بل شكلت محوراً بارزاً داخل أجهزة صناعة القرار السياسي الأميركي من خلال مساهمتها.
ولقد سلط مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأسبق جون ادغار هوفر في مذكراته الضوء على عمل هذه الوكالة منتقداً جهودها لاختراق الحدود الكوبية وتنفيذ عمليات عسكرية ضد النظام الشيوعي وكيف انتهى الإنزال العسكري الذي تم سنة 1961 في جزيرة الخنازير آنذاك إلى الفشل.
كانت الوكالة أداة فعالة لتنفيذ سياسة "الدومينو" التي انتهجتها الادارة الاميركية في الستينيات، وهي تقوم على دعم الانظمة المهددة من الشيوعية.
وكانت حرب فيتنام من أبرز تجليات سياسة "الدومينو"، حيث غاصت الولايات المتحدة في هذه الحرب بسبب خطأ في التقديرات التي قدمتها الوكالة بناء على عمل بيروقراطي روتيني لم يراع جملة من العناصر غي تحديد معالم القرار السياسي وتوجيه أهدافه ومتابعة جميع حلقاته تنفيذاً وتقييماً. ومن المعلوم أن هزيمة حرب فيتنام كان لها أثر بالغ على المستوى السيكولوجي والعسكري لقرارات السياسة الخارجية الاميركية لعقدين بعد الهزيمة.
ولعل أعمق فشل واجهته الوكالة هو، عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران على الشاه عام 1979، حيث فشلت الوكالة في تقدير الموقف في إيران، ومن ثم فشلت إدارة الرئيس جيمي كارتر في مواجهة أزمة الرهائن الأميركية في طهران، ويومها عزا الكونغرس عجز السياسة الأميركية في مواجهة المستجدات في إيران إلى المخاطرة وسوء التقدير في قرارات الادارة التي اعتمدت على تقييم وكالة الاستخبارات المركزية للوضعية الاقتصادية والسياسية قبل الثورة ولم يكن موفقاً، واعتمدت عليها لتنفيذ عملية إنزال جوي لإنقاذ الرهائن وفشلت المحاولة، رغم وجود أكبر عدد من العملاء والمتعاونين المحترفين في منطقة العملية وكان عددهم يقارب ال70 شخصا.
ولتلافي ما حدث في إيران، انتهجت الوكالة في الثمانينات اسلوباً جديداً للتعامل مع الحركات الاسلامية، فمن ناحية جرى تنفيذ استراتيجية لمواجهة هذه الظاهرة، ومن ناحية تحتفظ الادارة الاميركية بقنوات اتصال شبه دائمة مع بعض زعماء هذه الحركات.
ولكن الوكالة غرقت في المزيد من الاخفاقات، فقد تم إغتيال الرئيس المصري أنور السادات، على رغم وجود أحد أبرز عناصر وكالة الاستخبارات الاميركية "وليم باكلي" في فريق الحماية للرئيس، وهو نفسه تحول الى رهينة في بيروت، وكان مسؤول محطة الاستخبارات في بيروت.
وفي مطلع الألفية الثانية ترهل جسم الوكالة، وتحولت الى جهاز شبه بيروقراطي بُعيد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة. وذهب السعي الاستخباري نحو الجانب الاقتصادي.
وبُعيد أحداث 11 أيلول /سبتمبر 2001 تجلى الاخفاق الكبير، حيث تبين أن وكالة الامن القومي رصدت بعض المحادثات، ولكن ضاعت المعلومات في الترجمة وتشابك الاجهزة الاستخبارية، وبناء على هذا الاخفاق جاء القرار الرئاسي بانشاء وزارة الامن الوطني، بسبب ضعف التنسيق بين أجهزة المخابرات الأميركية؛ جاء تشكيل الوزارة ليدمج في داخلها مختلف عناصر الوكالات الفدرالية الـ 22 المعنية بالشؤون الأمنية والمدنية التي تضم حوالي 170 ألف موظف اتحادي، فضلاً على الكثير من المؤسسات الفدرالية المعنية بشؤون مكافحة الإرهاب وزيادة الحماية للمنشآت الأساسية والبنى التحتية وخطوط الاتصالات وشبكات الكومبيوتر. وقد وقّع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن على التشريع القاضي بإنشاء الوزارة يوم 25 تشرين الثاني 2002، بعد أن كان مجلس الشيوخ قد صادق بالإجماع يوم 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2002، على مشروع قانون لإنشاء وزارة للأمن الداخلي في الولايات المتحدة بعد أن سبقه مجلس النواب في التصديق عليه.
وقال الرئيس بوش الابن في بيان مكتوب إلى الكونغرس: "لقد اتخذت خطوة تاريخية لحماية الشعب الأميركي". كما أشار السيناتور جوزيف ليبرمان، أحد الذين صاغوا قانون إنشاء الوزارة الجديدة، إلى "أن تمرير القانون يعد حدثاً مهماً في تاريخ الولايات المتحدة، (إذ) سنكون في مأمن نتيجة إنشاء وزارة تُعنى بشؤون الأمن الداخلي، فالكثيرون منا أحسّوا بأن الحكومة غير منتظمة بصورة خطيرة فيما يتعلق بدفاعات الأمن الداخلي عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر (...). بموجب القانون، ستجمع للمرة الأولى في التاريخ الأميركي كل معلومات الاستخبارات والمعلومات الأمنية تحت سقف واحد".
وقد عيّن الرئيس بوش في البدء مستشار الأمن الداخلي في البيت الأبيض توم ريدج على رأس الوزارة، وهو الذي أشرف على أكبر عملية لإعادة التنظيم، شهدتها الحكومة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية. إلا أنه ما لبث أن استقال، بعد أن أمضى 20 شهراً في الوزارة الجديدة، عمل أثناءها على دمج 22 وكالة أمنية ومدنية، من بينها حرس السواحل والخدمة السرية والجمارك والهجرة والتجنيس في وزارة واحدة، ذلك الدمج الذي لم يقتصر على آليات الوكالات، مثل أسلوب العمل والحسابات وشؤون الأفراد وأنظمة المعلمومات؛ وإنما الأهم هو دمج ثقافة تلك الوكالات أيضاً.
وتأتي أهمية هذه الوزارة- فضلاً على إشرافها العام على الأمن الداخلي، وما يتعلق به داخلياً - من مهامها فيما يتعلق بالجانب الخارجي؛ إذ أنها تقدم التقارير للرئيس الأميركي حول مصادر التهديدات الخارجية، وأيها أكثر إلحاحاً وشدة من الآخر، وهذا ما نلاحظه من انتشار موظفيها في معظم سفارات الولايات المتحدة في العالم، إذ لا تكاد تخلو سفارة أو مكتب تجاري للولايات المتحدة في العالم، من موظفين تابعين لهذه الوزارة.
تعتبر الوزارة ثالث أكبر الوزارات الفدرالية الأميركية بعد وزارة الدفاع ووزارة شؤون قدامى المحاربين في إدارة الرئيس باراك أوباما ترأس وزارة الأمن الداخلي في الولايات المتحدة جانيت نابوليتانو، والتي اعتبرت أول امرأة تشغل المنصب وثالث وزيرة للوزارة منذ انشائها.
الكاتب: نسيب شمس