منذ أن تم إعلان الاتفاق السعودي الإيراني في العاصمة الصينية بكين، في آذار / مارس الماضي، بدأت العديد من القضايا الإشكالية في المنطقة، تأخذ مسار الحلّ على خلفية هذا الاتفاق ما بين الدولتين. لما يمثلاه ويمتلكاه، من حجم وتأثير على الكثير من الدول وقضايا وملفات المنطقة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي الدوافع الحقيقة لهذا الاتفاق، وما هي مصالح كل طرف فيه، وكيف سيعيد رسم المشهد السياسي في المنطقة مستقبلاً؟
الدوافع السعودية
الدوافع والاسباب التي أدت الى ذهاب محمد بن سلمان للاتفاق مع إيران. الأمر الاول هو ان ولي العهد السعودي عندما بدأ ما يسمى بعاصفة الحزم، كان يعتقد بانه خلال أشهر فقط، سوف يسيطر على اليمن ويصبح البحر الأحمر بيده، لا سيما انه في العام 2015 مع بداية العدوان، كان من بين الدول التي اعلنت تأييدها لهذا العدوان: السودان. لذلك إذا ما تمكّن محمد بن سلمان من السيطرة على اليمن، بالإضافة للتأييد السوداني له في هذا العدوان، سيصبح عندها ساحل البحر الأحمر بأغلبيته بيده.
السيطرة على البحر الاحمر
وبالتالي فإن دخول السعودية الى اليمن، كان له أهداف تتعلق بثروات اليمن مما لا شك فيه، وكان له علاقة وثيقة أيضاً، بالسيطرة على البحر الأحمر. لأن من يسيطر على هذا البحر، يصبح صاحب قرار نافذ على مستوى المنطقة والعالم.
وفي ظل المشروع الاقتصادي الذي طرحه بن سلمان، المعروف برؤية 2030، سيصبح البحر الأحمر حاجة ضرورية للسعودية، بالإضافة الى القدرة الاقتصادية القائمة.
هذه الرؤية 2030، مبنية على شراكة السعودية مع الولايات المتحدة الأمريكية، كانت وما زالت حتى الآن مبنية على ذلك. ويتطلع محمد بن سلمان الى أن حجم الاستثمار في هذه الرؤية، يصل إلى مبلغ قيمته 6 ترليون دولار (يعني 6 آلاف مليار دولار).
وبالتالي فإن هذا المبلغ في دولة مثل السعودية، يعتبر رقماً قياسياً في الاستثمار الاقتصادي العالمي، ويعني أن تتحول السعودية الى محور في المشاركة بالاقتصاد العالمي.
هذا النموذج اقتبسه بن سلمان من دبي، لكنه يريد تطبيق "دبي بشكل أوسع". تجربة دبي سيقوم بنقلها الى مدينة نيوم بحجمها العالمي، لتشكل السعودية حينها الربط بين القارات بموضوع الاقتصاد.
وإذا ما تأملنا في موقع البحر الأحمر الجيوستراتيجي، سنجد بأنه يقوم بوظيفة ربط القارات ببعضها، بحيث يربط آسيا وافريقيا وأوروبا، وخاصة في موضوع النقل البحري. ولهذا كانت السيطرة على هذا البحر، أحد أبرز وأهم أهداف العدوان السعودي على اليمن. ويقوم ولي العهد السعودي بهذا المشروع، بالتنسيق مع الأمريكيين، سواءً بالموضوع الاقتصادي، او بموضوع الحرب على اليمن والسيطرة على البحر الاحمر.
الحرب على اليمن
دخل محمد بن سلمان الحرب على اليمن، على قاعدة انه خلال أشهر فقط وينهي المعركة. إلا أنها استمرت من العام 2015 الى العام 2023، اي 8 سنوات.
وخلال السنتين الماضيتين، ثبت بالدليل القاطع، أنه لا يوجد اي قوة في العالم تستطيع الدخول الى صنعاء. وأثبتت عاصمة اليمن مرةً أخرى في العصر الحديث، بانها عصية على الاحتلال. فهي واحدةٌ من العواصم العربية التي لم يستطع ان يدخلها أحد خلال التاريخ. فأغلبية هذه العواصم قد احتلت باستثناء صنعاء، عبر 1000 سنة، ولم يدخل اليها غازٍ او مُحتَلّ.
وبالتالي، أصبح بن سلمان ومن معه أمام خيارين، خيار الحرب هو خيار غير مجدي، لأنه يعرض المشروع الاقتصادي للتأجيل او للانتهاء. ولا امكانيه لإقامه هكذا مشروع اقتصادي ضخم (رؤية 2030 ومدينة نيوم)، إلا في منطقة آمنة، وحسم السعودية للمعركة غير مقدور عليه، وهذا ما سيؤدي الى تأجيل المشروع.
رؤية 2030 لا يمكن ان تتحقق الا بالسلام مع إيران
لذلك ذهب الى المصالحة مع إيران في هذا الإطار، على اعتبار انه ما لم يستطع ان يحققه بالحرب، وايجاد الامن والاستقرار لمشروعه الاقتصادي، سيحققه من خلال السلام مع إيران. إذا فهدف محمد بن سلمان بالذهاب الى العلاقة مع إيران، هو من منطلق الحاجة، في إطار المشروع الاقتصادي، الذي يعجز عن تحقيقه، الا من خلال السلام كما ذكرنا، وليس من خلال الحرب العسكرية.
الأميركيون تركوا بن سلمان وحيداً في اليمن!
أمر اخر في هذا السياق، وهو بأن الامريكيين أكدوا ودعموا محمد بن سلمان في معركته باليمن، لكن هذا الدعم كيف كان؟ كان من خلال فتحهم لمخازن اسلحتهم امام بن سلمان لكي يشتري ما يحتاج إليه من أسلحة، إلا انهم لم يدخلوا الى جانبه في المعركة العسكرية، فتُرك بمفرده فيها، وهذا ما أصابه بخيبة امل وجعله يفكر ملياً في امكانية استمرار الحرب، سبب عدم الدخول الامريكي المباشر الى جانبه.
كما أن الدول العربية لم تدخل بجيوشها في هذه الحرب الى جانبه ايضا، باستثناء الامارات والسودان. وبالنسبة للسودان، فإنه لم يشارك عسكرياً بشكل رسمي في الحرب، اي من خلال الجيش السوداني (القوات المسلحة الرسمية)، بل من خلال قوات الدعم السريع، وميليشيات الجنجويد بقرار من عمر البشير.
تعاظم قوة إيران وتنامي دورها في الإقليم والعالم
ثم إن تنامي قوة إيران وتعاظمها، على المستوى الصناعي والتجاري والتكنولوجي والاقتصادي بشكل عام، بالإضافة الى تنامي القدرة العسكرية، مما لا شك فيه ان كل ذلك استوقف محمد بن سلمان كجار في الجغرافيا لإيران.
فمن ينظر الى إيران خلال العشر سنوات الماضية، بات يعلم بأن إمكانية اسقاطها بات مستحيلا. والقوى العالمية التي كانت تتسابق في الضغط على إيران لإسقاطها، باتت اليوم بناءً لتعاظم القدرات الإيرانية، تتسابق فيما بينها لتقيم العلاقات مع إيران. حيث فرضت الجمهورية الإسلامية نفسها كقوة اقليمية، لا يمكن إسقاطها او حتى تجاوزها في المنطقة، بل لاعب جديد على الساحة الدولية.
مدينة نيوم نقطة التقاء أمريكا والصين
في هذه الاثناء، وفي الوقت الذي يقوم به محمد بن سلمان ببناء مشروعه الاقتصادي، ليكون نقطة الوصل ما بين القارات، لابد ان يكون لديه تواصل مع الصين. فالأخيرة تمثل ثقلاً اقتصادياً عالميا، وهذا ما يجب ان نلفت اليه، في ان محمد بن سلمان لم يذهب في علاقته بالاستثمار مع الصين، بعيداً عن الامريكيين.
فبالرغم من أن الشراكة الأمريكية الصينية، تعاني من المشاكل في الوقت الراهن والمدى المنظور، إلا أن امريكا تحتاج الى العلاقة والترابط والاستفادة من تنامي قدرات الصين الاقتصادية. ويعتبر الأمريكيون بأن مشروع مدينة نيوم، يمكن ان يكون نقطة الوصال ما بين الاقتصاد الصيني والاقتصاد الامريكي وغيره من الاقتصاديات. كما يمكن من خلال هذا المشروع، أن تستفيد منه امريكا اقتصادياً من الصين، ولو كانت العلاقة بينهما في باقي المجالات متوترة.
وإنشاء "مدينة نيوم" ليس مشروع محمد بن سلمان وحده، بل هو مشروع قائم على الشراكة مع أمريكا. وبالتالي ما لا يمكن لأمريكا ان تستفيد منه في العلاقة مع الصين مباشرة، نتيجة لحصول توترات، مثل ما يحدث في اوكرانيا حاليا، او بما يتعلق بتايوان او بحر الصين الجنوبي، عندها ستشكل نيوم نقطه التقاء اقتصادي غير مباشر ما بينهما.
فكلا الدولتين العظميتين لديهما المصلحة، في وجود منطقة وسط، يتم خلالها تمرير المصالح الاقتصادية، بعيداً عن التوترات في المناطق الأخرى. لذلك يمكننا التأكيد، بأن بن سلمان لم يذهب بالعلاقة والاستثمار مع الصين، بعيداً عن التوجه الامريكي.
التوتر السعودي الأمريكي تكتيكي
لذلك فإن ما نشاهده احيانا من توترات، بين محمد بن سلمان والإدارة الأمريكية، هي توترات تكتيكية وليست استراتيجية. وحتى إذا ما بحثنا في عمق التوترات التي تحصل بين الطرفين، سنتأكد من هذا الأمر، بل وسنلاحظ مصلحة أمريكية غير ظاهرة.
واحدة من الامور التي نقول بأن بن سلمان متباين فيها مع الأمريكيين، هي بموضوع أنه لا يخضع لطلب واشنطن برفع انتاج النفط. لكن في الحقيقة فإن تخفيض الانتاج هو لمصلحة أمريكا أيضاً لا العكس، ولمصلحة الاقتصاد الامريكي ايضاً وليس العكس. لكن كيف ذلك؟
بعد معركة اوكرانيا، وانقطاع استيراد اوروبا من الغاز والنفط الروسي، بات الامريكيون المصدر الاساسي لأوروبا كبديل، وامريكا تبيع موارد الطاقة هذه بـ 4 اضعاف سعرها. لذلك عندما يقوم بن سلمان بزيادة الانتاج النفطي، عندها ستتوفر حاجة اوروبا من موارد الطاقة المعروضة في السوق، وعندها ستنخفض الأسعار تلقائياً. لكن رفض السعودية لزيادة الإنتاج، سيقلّل من موارد الطاقة المعروضة في السوق، وعندها ستزداد الأسعار، ما يعني زيادة في الأرباح الأمريكية.
إذا ظاهر هذا الموضوع ان محمد بن سلمان لا يستجيب للطلب الأمريكي، أي ظاهره مناكفة للإدارة الأمريكية، لكن باطنه مصلحه للاقتصاد الامريكي وبالأخص في ظل العجز الاقتصادي الكبير الذي تعاني منه امريكا الآن. لذلك فإن ما يقال في الاعلام شيء، وحقيقة الامور شيء اخر.
هنا جاء الدور الصيني في حصول هذا الاتفاق، بناء لعدم ممانعة أمريكية، في أن تتدخل بكين لإيجاد تسوية ما، بين السعودية والجمهورية الإسلامية.
وبعدما كان هناك مفاوضات سابقة بين السعودية وإيران في العراق - لكنها لم تتقدم حينها- أراد السعوديون أن يدفعوا بهذه المفاوضات باتجاه التقدم، لذلك استعانوا بالصين.
المصلحة الإيرانية
اذاً مصلحة السعودية باتت واضحة، في ايجاد الاستقرار والامن في المنطقة، لتنفيذ المشروع الاقتصادي 2023 الذي يسعى لتحقيقه محمد بن سلمان، والتخفيف من حدة الاحتقان والتقاتل في المنطقة، عندها سيبرز السؤال التالي، ما هي مصلحة إيران من ذلك؟
إيران ايضا تبحث عن الهدوء والاستقرار في المنطقة، وإيران 2023 غير إيران 2003.
في العشر سنوات الماضية، تنامت قدرة إيران الاقتصادية نتيجة للحصار، وباتت دولة منتجة، ولديها اكتفاء ذاتي في الكثير من المجالات. بحيث باتت منتجة في المجال الزراعي، وفي المجال الصناعي، وفي المجال التكنولوجي. لذلك باتت بحاجة الى اسواق، وبحاجة ايضاً الى فك الحصار عن نفسها، الذي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية.
لذلك فإن لإيران مصلحة كبيرة بالذهاب الى التهدئة مع السعودية، لأن هذا الأمر سيؤدي الى فك الحصار عنها، ويخفف من حدة الأزمة الاقتصادية، وايضا لأنه سيخفف من تكاليف الحرب عليها. وعلينا هنا أن نعلم، بأن الحروب مكلفة على جميع الاطراف المشاركة فيها، خصوصاً إذا كانت مفتوحة ولا حدود لإنهائها.
وانطلاقاً من المصلحة الإيرانية ايضا، دفعت طهران باتجاه المصالحة مع السعودية. وعليه بات هناك مصلحة سعودية وامريكية وايرانية من هذا الاتفاق.
المصلحة الصينية
الصين ايضاً مستفيدة في هذا التفاهم، لأنها للمرة الاولى في تاريخها - تاريخ الصين الحديث- ترعى اتفاقية سياسية. فالصين خلال العقود الماضية، خرجت خارج السور المحيط بها في الموضوع الاقتصادي الى اقاص العالم. لكنها الآن للمرة الاولى في تاريخها تخرج من سورها لتكون متابعةً للاتفاقية السياسية السعودية الإيرانية. وهنا من المفيد الإشارةـ إلى أن الصين متابعة هذا الاتفاق وليست راعية له. لان راعي اي اتفاقيه له حق الانتقاد، وله حق المطالبة والمساءلة. بينما الصين في هذه الاتفاقية، تحمل صفة المتابعة لها، بحيث تتابع كلا الطرفين، وتسعى الى حل وتبديد اي نقاط خلاف، دون ان يكون لها القدرة او حق الضغط على كلاهما.
وبالنتيجة فإن هذه هي المرة الاولى التي تخرج فيها الصين كمتابع لاتفاقية سياسية، وهذا امر جديد يعتبر فرصة لها، لكي تحضر الى منطقة الشرق الأوسط، التي تعد اهم منطقه في العالم، ولأول مرة انطلاقاً من البعد السياسي للحضور.
وهذا الأمر يفيد إيران ايضا، في إطار عدائها لأمريكا، بحيث لم يكن لديها في السابق، قوة سياسية دولية عظمى متفاهمة معها، كما الصين. وعليه بالإضافة للاستفادة الإيرانية بالجانب الاقتصادي، ستستفيد أيضاً في مجال آخر، أي من خلال الحضور الصيني الى منطقة غرب آسيا في مقابل أمريكا.
انعكاسات هذا التفاهم على المنطقة
في ظل هذه التغيرات الإقليمية والدولية، من الطبيعي ان التفاهم السعودي الايراني، الذي تتابعه الصين، ولا ترفضه امريكا، بل تستفيد منه، سينعكس بطبيعة الحال على كل قضايا المنطقة.
من هذه القضايا سيكون بالتأكيد ما يحصل في لبنان، والملف اليمني تحصيل حاصل، علما بان الايرانيين لم يطلبوا من اليمنيين اي شيء حتى الان، في مواجهة العدوان السعودي على هذا البلد. فبطبيعة الحال، عندما تتراجع حدة الاحتقان بين إيران والسعودية، فإن هذا الامر سيلقي بظلاله على كل ساحات المنطقة.
ماذا أنهى التفاهم السعودي الإيراني من أزمات؟
أولاً، إضافة للفائدة السياسية والاقتصادية التي ذكرناها سابقا لكلا الدولتين والمنطقة، فإنه استطاع أن يخفف من الاحتقان المذهبي (السني الشيعي)، واستطاع ثانياً أن يخفف الاحتقان ذو الخلفية العرقية (عربي فارسي). وهذان الامران اساسيان بالنسبة للمنطقة (وقد عملت أمريكا دائماً على إشعالهما خلال الفترة السابقة). وبالتالي فإن الاحتقان المذهبي والعرقي سيتراجع في كل دول المنطقة لا سيما في اليمن، وسوريا، ولبنان، وغيرهم. ومقدمات هذا التفاهم، هي التي جعلت الدول الخليجية العربية، تسعى لعودة سوريا الى جامعة الدول العربية.
ماذا عن لبنان؟
لكن في لبنان الامر مختلف، وبات السؤال المطروح: لماذا لم يتأثر لبنان بهذا الاتفاق بعد، خاصه بما يتعلق بالانتخابات الرئاسية؟
الامر الأول، يبدو ان السعودية لم تضع القوى التي كانت تدعمها خلال المرحلة السابقة في أجواء الاتفاق، فلم تخبرهم ماذا تريد، ولم يصدر اي موقف من الرياض او اي طلب لها في هذا الإطار. ولذلك فان الاطراف اللبنانية المرتبطة بها، لا تزال على موقفها السابق بمواجهة القوى الوطنية.
وقد انتظرت هذه الجهات ملياً الإشارات حول موقف السعودية، لكن الاخيرة لم ترسل اي اشارة واضحة في هذا الجانب حتى الساعة.
من جانب آخر، صحيح ان هذه الجهات في لبنان هي منذ العام 2005، قد انضوت تحت المشروع السعودي، لكن بعض هذه الجهات مرتبط بأجندات غير سعودية ايضا، بالأمريكيين بشكل مباشر، وبغير الامريكيين بشكل غير مباشر!
كانت السعودية تشكل الغطاء لهذه الجهات، خلال السنوات السابقة، في مواجهة قوى المقاومة في لبنان.
الآن إذا ما أرادت السعودية المشاركة في التسوية في لبنان، ولقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع محمد بن سلمان، وما سيرشح عنه من معطيات وتطورات. عندها ماذا سيكون موقف الجهات المرتبطة بأجندات خارجية غير السعودية. ماذا ستفعل؟ ماذا سيكون موقفها؟ سينكشف الغطاء العربي عنها، وستظهر على حقيقتها. خاصةً وأنها هي التي كانت خلال السنوات الماضية تنادي بضرورة العلاقات مع الدول العربية، والانفتاح على الدول العربية، وترفع شعارات مثل: لبنان ذي الوجه العربي، والعمق العربي للبنان. ماذا ستقول هذه الجهات إذاً، عندما سيكون خيار السعودية هو التسوية في لبنان، وأن تكون علاقة الرياض متقاربة مع القوى الوطنية. ماذا ستفعل هذه القوى التي ستنكشف على حقيقتها، بأن كل ما كانت تدعو اليه هو مجرد شعارات لذر الرماد في العيون، في إطار الاستفادة من مناخات الفتنة التي كانت قائمة، لتمرير مشاريعهم، وهي استهداف القوى الوطنية وعلى رأسها المقاومة.
لذلك لبنان سيتأثر، ولو مؤخراً من هذا التفاهم، ومن المؤكد بأن محمد بن سلمان يسعى بشكل جاد ومحسوم الى تصفير مشاكل السعودية الخارجية في المنطقة. وبالتالي فان لبنان سيتجه حتما نحو التهدئة.
ماذا عن الكيان المؤقت؟
السؤال الحقيقي الذي يطرح حول التفاهم السعودي الايراني كيف سيتعاطى الكيان المؤقت مع هذا التفاهم؟ ومع من سيتشارك في إثارة القلائل في المنطقة، فهو يعتبر نفسه خاسراً، بل والخاسر الأول، جراء هذا التفاهم والتقارب بين طهران والرياض.
لذلك فإن الكيان المؤقت يلزمه جهات في لبنان وفي غير لبنان، لإبقاء المنطقة في حالة توتر. وعليه فإن ما نحذر منه وما لا نتمناه، هو أن نصل الى مرحلة، يجد فيها كيان الاحتلال الإسرائيلي أدوات له في لبنان والمنطقة، تساعده في إثارة المشاكل في المنطقة وفي الدول العربية ومنها لبنان.
ثم هناك سؤال آخر يطرح، هل سيتأثر لبنان جراء هذا التفاهم، على المستوى السياسي فقط؟
بالتأكيد لا، لأن هذه الاتفاقية وغيرها من المناخات الإيجابية، ستنعكس على كل جوانب الواقع اللبناني، ولو بعد حين: سنة أو سنتين.
دول العالم تتسابق لترميم العلاقة مع إيران
الأمر الآخر بالنسبة للساحة اللبنانية، وانطلاقاً مما ذكرناه سابقاً، بأن العالم كان يتسابق على من يضعف إيران، أما الآن فهو يتسابق على من يبني علاقة معها. لذلك فإن أوروبا اليوم تحتاج الى العلاقة مع إيران، أكثر من أي وقت مضى، في إطار الاستفادة من قدرات إيران، خصوصاً على صعيد الطاقة من غاز ونفط (بعد أزمتها جراء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا). وعليه فإن الدول الأوروبية بحاجة الى بناء علاقات طبيعية مع إيران، ولبنان يشكل ساحة من ساحات التلاقي مع طهران.
لذا فإن اهتمام فرنسا بلبنان، هو ليس كرمى لعيون اللبنانيين فحسب، بل يأتي في إطار سياسة تنتهجها فرنسا، انطلاقاً من لبنان باتجاه دول المنطقة، وسوريا والعراق وإيران (أي دول المقاومة والممانعة في المنطقة). لأن أوروبا بشكل عام وفرنسا بشكل خاص، كما قال رئيسها إيمانويل ماكرون مؤخراً: "على أوروبا أن تعيد النظر في علاقتها الاستراتيجية مع أمريكا"، لأن الأخيرة لا تبحث إلا عن مصالحها، ولا شريك استراتيجي لها، بل إن كل هذه الدول بالنسبة لواشنطن هي أدوات. حتى ألمانيا، فالكثير يظن بأنها دولة ذات سيادة، لكنها في الحقيقة محتلّة، من خلال القواعد العسكرية الأمريكية في هذا البلد. ولا يستطيع المستشار الألماني ولا غيره، اتخاذ أي قرار بعيداً عن المصلحة الأمريكية. بل إن واشنطن هي من تأتي بالمستشار الألماني، لأن قواعدها العسكرية منتشرة في كل أرجاء ألمانيا. وهذا غائب عن الجميع، مع الإشارة إلى أن المانيا هي ثاني أكبر دولة في قارة أوروبا بعد بريطانيا.
إذاً أمام هذا الواقع، فإن المستقبل في المنطقة هو لدول المقاومة والممانعة، وهذا ما يخشاه كيان الاحتلال. هذا الكيان منذ أن زُرع في هذه المنطقة، زُرع لكي يخدم المشروع الاستعماري، سواءً البريطاني بداية ولاحقاً الأمريكي. السؤال الذي يُطرح: في ظل تراجع قوة هذا الكيان في المنطقة، وعدم قدرته على خدمة المشروع الاستعماري، هل مازال هذا الاستعمار ومنه الولايات المتحدة الامريكية قادراً على دفع كلفة إبقاء هذا الكيان في المنطقة؟ فهذا الكيان صُنع من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية وعسكرية وإلى ما هنالك. وقد فشلت إسرائيل خلال العقود السابقة في تحقيق هذه الأهداف، ولم تستطع السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وتلاشت أطماعها من النيل الى الفرات، نتيجة قوى محور المقاومة وفي مقدمتها الجمهورية الإسلامية في إيران.
ثم ان مشروع مدينة نيوم السعودي، الشريك الأساسي فيه هو أمريكا، وعليه فإن السؤال الأساسي: هل أن الأمريكيين في الشراكة الاستراتيجية استعاضوا عن الكيان المؤقت بدولة أخرى اسمها السعودية، ويعلّقون عليها الآمال لخدمة مشروعهم الاستراتيجي على مستوى الشراكة والدور الأساسي في المنطقة، وواشنطن باتت تعتبر بأن إمكانية حياة إسرائيل في هذه المنطقة باتت مستحيلة. وذلك يعود الى تعاظم قدرة وقوة حركات ودول محور المقاومة وفي مقدمتهم إيران.
لذلك السعودية لم تذهب الى التطبيع العلني، والإمارات ذهبت الى ذلك، والبحرين كذلك ذهبت الى التطبيع العلني، المغرب والسودان أيضا. فالسعودية كانت تتريّث في ذلك، لأنها سوف تلعب دور البديل في المنطقة، في إطار الشراكة العالمية على المستوى الاقتصادي. وهذا ما يتطلع اليه محمد بن سلمان، في أن تصبح بلاده دولة أساسية في الموضوع الاقتصادي.
وعليه فإن الخاسر الأول، هو الكيان المؤقت. والكلام عن أن كيان الاحتلال لن يعيش أكثر من 80 عاماً - وبعيداً عن البعد العسكري للموضوع مثل إمكانية دخول المقاومة الى فلسطين المحتلة، والمقاومة قادرة على ذلك بكل أطيافها – لأن محور المقاومة استطاع خلال العقود الماضية إفشال الهدف الأساسي من وجود إسرائيل، فبات أمر زوالها طبيعياً ومنتظراً لأنه انتفت المصلحة من وجودها. فإسرائيل اليوم محاصرة من جميع الجهات: الأسوار من جهة الأردن، الأسوار من جهة سوريا ولبنان، والآن تعمل على إنشاء سور اسمنتي من الجهة المصرية.
وفي ظل هذا الواقع، يطرح السؤال نفسه: كيف ستخدم إسرائيل المشروع الغربي، وهل يستعاض عنها بمشاريع واستراتيجيات أخرى؟
تفجير أفريقيا هدف المشروع الأمريكي الجديد للمنطقة
إذا هذه الحال في منطقة المشرق العربي، حيث أمريكا خسرت، وبدّلت مشروعها (إسرائيل) بمشروع آخر (السعودية)، وتحاول أن تحدّ من الخسائر. وأمريكا اليوم ليست في موقع المنتصر، ولا في موقع المهزوم، بل في موقع الفاشل. تريد أن تحدّ من الخسائر وتقوم بمشاريع بديلة في منطقة غرب آسيا. ولكن أيضاً، لا تريد لهذه المنطقة أن تهدأ. فهي عجزت عن تحقيق أهدافها في منطقة المشرق العربي، لذلك تسعى الى تحقيق ذلك في منطقة المغرب العربي.
إن أحداث السودان تندرج ضمن هذا الإطار، فقد فتح الأميركي معركة جديدة في دول المغرب العربي، بعد فشل مشروعه في المشرق العربي. لتبقى الأمتين العربية والإسلامية في حالة استنزاف دائم. والقاعدة انه حيث تعجز أمريكا تهدّأ، وحيث تستطيع تفجّر. أمريكا تعمل على التعطيل وتعمل أيضاً على التفجير. وانفجار الأوضاع في السودان هو مقدمة لانفجارات سوف تليه في منطقة المغرب العربي. فالوضع السوداني يشكّل حالة خطرة على الوضع في مصر، والجزائر، وليبيا (التي ما زالت الأوضاع فيها مشتعلة منذ سنوات)، وتونس. حيث تقوم الإدارة الأمريكية بصب الزيت على النار، لإشعال فتيل الحرب بين الجزائر والمغرب. وبعيداً عن أن المغرب قد طبّع مع كيان الاحتلال أو لم يطبع، أمريكا تريد لهذه الحرب أن تشتعل ما بين هاتين الدولتين، تحت عنوان التطبيع أو بذريعة الصحراء الغربية، وهو موضوع إشكال تاريخي، فلماذا يتم إحياؤه الآن!
أمريكا كما دمرت دول المشرق العربي، فهي تعمل الآن على تدمير دول المغرب العربي. وتسعى لأن لا يكون هناك جيش قوي في العالم العربي: ان لا يكون الجيش المصري، والجيش المغربي، والجيش الجزائري،.. يجب أن تفكك وتضعف كل هذه الجيوش.
صحيح بأن إسرائيل لم تستطع تحقيق مصالح أمريكا، لكن هذا لا يعني أن الحلم بإطالة عمر الكيان المؤقت انتهى. هذا الحلم ما زال قائماً. لذلك فإن المستفيد الأول من التنافس أو التصادم إن حصل، ما بين الجزائر والمغرب، سيكون أمريكا والكيان المؤقت. والمستفيد الأول مما حصل في السودان، ومحاولة التقسيم في هذا البلد (قبل وبعد انفصال جنوب السودان)، هو الولايات المتحدة والكيان المؤقت.
وفي هذا الإطار نلفت إلى أن الصهاينة يعتبرون بأن نهر النيل، وبالتحديد "النيل الأزرق"، هو من المياه المقدسة لبني إسرائيل. ولذلك علينا أن ننتبه بأن حدود "من النيل الى الفرات" للكيان، هو ليس من مصر الى العراق، بل من أوغندا وكل الدول الأفريقية التي يمرّ فيها مجرى هذا النهر والمناطق المحيطة به، وكذلك الأمر بالنسبة لنهر الفرات، أي العراق وسوريا وصولاً إلى تركيا. لذلك فإن "إسرائيل" هذه حدودها الحقيقية، وهو ما أطلق عليه الرئيس الأسبق للكيان المؤقت شيمون بيريز اسم "الشرق الأوسط الكبير"، الذي يصل الى العمقين الافريقي والآسيوي.
من هنا، ينبغي الحذر وبعد أن أفشل محور المقاومة المشروع الأمريكي في الشرق، أن تعمد واشنطن الى التعويض عن ذلك، بإشعال الفتن والحروب والمعارك في المغرب العربي.
لكن انطلاقاً مما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ذات مرة من شعار: "حيث يجب أن نكون سنكون". فهل نشهد يوماً ما، بأن قوى المقاومة متواجدة في منطقة المغرب العربي، لمواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني هناك أيضاً؟