يأتي العدوان الأميركيّ الإسرائيليّ على إيران باغتيال ضيفها المدنيّ رئيس المكتب السياسيّ لحركة المقاومة الإسلاميّة حماس "إسماعيل هنيّة" في طهران، بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2024، بعد المحاولة الردعيّة الإيرانيّة الأولى إثر العدوان على قنصليتها داخل دمشق في شهر نيسان الماضي، وكان سبقه بساعات اغتيال القائد الجهادي في حزب الله "فؤاد شكر" داخل ضاحية بيروت الجنوبيّة، بعد محاولات حزب الله الردعيّة المتواليّة إثر استهداف "صالح العاروي" القيادي السياسيّ والعسكريّ في "حماس" داخل الضاحية، والاستهدافات المتفرّقة لقادته العسكريّين "جواد الطويل، أبو طالب، وأبو نعمة" في جنوب لبنان.
أمّا نفي صلة الأميركي عن العدوان السافر في طهران وذلك الغادر في لبنان، لا يعني عدم منحه الغطاء له ونفض يده عن تورّطه بالتعاون الاستخباري على الأقل، فلا يوجد تباين يصل إلى حد التناقض بين إسرائيل وأميركا، وإن وجدت تباينات فهي تلتقي بشكل وثيق على الأعمال الأساسيّة، ولا يوجد أي تباعد بينهما على مستوى الحرب الجارية في غزّة والمواجهة القائمة مع جبهات الإسناد.
لعلّ من المفيد التذكير أن رأس الإرهاب العالميّ أي الولايات أو الويلات المتحدة الأميركيّة، هي التي وضعت اسم "فؤاد شكر" على قائمة الإرهاب والمطلوبين، وذهب "نتنياهو" ليستهدف عدوًا مشتركًا لهما، بعد أن مهّد لذلك بأيّام تحت وقع تصفيق أغلب أعضاء الكونغرس الأميركيّ أثناء خطابه بينهم بتاريخ 24 تموز/ يوليو 2024، تسويغًا للعدوان واستعراضًا للعلاقة العضويّة العميقة والمصلحيّة الوظيفيّة التبادليّة بينهما، بكل ما يتصل بأمن إسرائيل وإمدادها بالسلاح والذخائر والأساطيل ومنظومات الاعتراض، وكل ما يلزم ويطمئن هذا الكيان اللقيط والمؤقّت.
كما يقود تحليل مضمون الاتصال الأخير ما بين "بايدن" و"نتنياهو" إلى نتيجة صارمة مؤدّاها صيانة أمن "إسرائيل"، وهي التي تجمع بين ما ورد في خبر الاتصال من التشديد على "الدفاع عن إسرائيل" والحثّ المزعوم على "تهدئة الأمور".
لا ريب أن استراتيجيّة الدفاع عن أمن "إسرائيل" هي الأساس، وتحصيل الأمن فحواه ممارسة العدوان الذي تتواطأ فيه أميركا وإسرائيل. وبناءً عليه، تذهب "إسرائيل" لممارسة إجراءاتها العدوانيّة لتوفير أعلى درجات ما تحتاجه من الأمن. وما يجعلها تكبح اندفاعتها، هي القواعد الردعيّة القائمة بموجب قدرات ونشاط محور المقاومة، وليس عدم الرغبة الأميركيّة بارتكاب المجازر، وهي المشهود لها بجرائمها ومجازرها وحروبها وأعمالها العدوانيّة.
أما تركيز الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة حملتها على "إسرائيل" في تمهيدها للعقاب المؤثّر تبقى مسألة أخرى مرتبطة برؤية "إيران الإسلاميّة" وطريقتها في فن إدارة المواجهة وتركيز الصراع، واختيارها إيلام الولايات المتحدة الأميركيّة بضرب إسرائيل.
تلازمت المساعي الأميركيّة والإسرائيليّة بشكل دائم منذ بداية الحرب على غزّة بهدف فك الجبهات وتعطيل وحدة الساحات. وبالموازاة لم يتوقّف الدعم الوفير الذي وفّرته الولايات المتحدة الأميركيّة لإسرائيل، وقد بلغ الذروة مقارنة بتقدير التقديمات السنويّة منذ نشأة الكيان الصهيونيّ وإلى هذا التاريخ، وهناك التزامات مشتركة من شأنها أن ترفع من الأكلاف الباهظة ونوعية الدعم وأشكاله المتنوّعة وتحديدًا بإزاء ما سيرشح من التطوّرات وارتفاع الحاجات حتى نهاية العدوان أو نهاية هذا العام.
يجدر التنويه إلى أن العامل الشخصيّ لا يحدّد وجهة "إسرائيل" أو "أميركا" رغم أهميّته ونطاق صلاحيّاته وإمكانيّاته في استغلال أو استدراج المواقف، إلّا أنّه يبقى ضمن نطاق تركيبة أخذ القرار في الدولة العميقة، وتحكمه الاستراتيجيّات العدوانيّة المتواطئ عليها مسبقًا بينهما.
يجيد "نتنياهو" التمثيل واستدراج العروض وتحسين الشروط لما يريد، وكذلك يحرص على تلميع صورته وتحسين موقفه رغم التناقضات التي يعانيها مع التجمّعات في المغتصبات الاستيطانيّة الإسرائيليّة وما يشهده من مآزق نتيجة تردّي الأوضاع وتراجع الاقتصاد وإجهاد الجيش وإرباك البنية السياسيّة والأمنيّة.
إنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ "بنيامين نتنياهو" ليس المحدّد الوحيد في مآلات الأمور، إنّما هو عنصر مساهم من موقعه ونتيجة كلّ رأسماله الشخصي وتاريخه السياسيّ وما ينتزعه من أدوار، فهناك عناصر أخرى محدّدة، ومنها، دور رئيس الولايات المتحدة الأميركيّة وحزبه والسياسات العامة الحاكمة ومنهجية انتاج القرار الأميركيّ ضمن المؤسّسات الدستوريّة والأجهزة والقوى الضاغطة، وكذلك التفاعل الإسرائيليّ مع الموقف الأميركي، وإعادة تقدير الموقف داخل المؤسّستين العسكريّة والأمنيّة في أميركا وإسرائيل، وما يقتضيه الفعل وردّة الفعل بين أطراف الصراع، وسلوك مكوّنات محور المقاومة بمختلف وضعيّاته مستقلًّا ومنسّقًا ومشتركًا.
كلّها عوامل تتداخل وتتفاعل مع غيرها من المؤثّرات المختلفة لترسو الوجهة على تقديرات لا يمكن اختزالها أو عزلها عن بعضها البعض.
إن إمعان النظر إلى مراحل بدء العدوان على غزّة، ثمّ رفح، والحديث عن الانتقال إلى جنين وإشعال الجبهة اللبنانية، يفضي إلى الموقف الأميركي عينه والإسرائيليّ كذلك، بينما آلة الحرب مستمرّة في مخاضاتها لاستكمال العدوان من أجل إطفاء شعلة وإرادة المقاومة. وفي هذا الإطار ينبغي التشديد، بأنّه لا يتوقّع أي شيء إيجابيّ من السياسة الأميركيّة بل هي تتناغم مع الإرادة الإسرائيليّة، ويتناوبان بأساليب قد تتعدّد ولكنها تتّحد من حيث الهدف.
يسلك "بايدن" طريقه الأخير للخروج عن الخدمة، ويبدو أن "نتنياهو" أيضًا لن يطول به المقام حتى يرحل، لكن الصراع قائم، وجوهره إزالة إسرائيل وإخراج القواعد الأميركيّة من غرب آسيا، عساه يتوقّف هذا الإجرام العنيف وحملة الإبادة الجماعيّة والتهجير القسري، على أمل أن ترتفع راية المقاومة وتكون يدها هي العليا مع اقتراب لحظة العقاب المؤثّر.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع