الجمعة 06 تشرين أول , 2023 01:54

تحصين الاقتصاد ضد واشنطن: حاجة أوروبية بالدرجة الأولى

الاتحاد الأوروبي

تركت الحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة على عدد كبير من دول العالم أثارها وارخت بثقلها على عجلة التنمية لتلك الدول. وعلى الرغم من الإجراءات الاقتصادية العدائية التي طالت "المحور المعادي للغرب"، نالت الدول الأوروبية الحليفة لواشنطن نصيبها أيضاً، اذ ترزح اليوم تحت وطأة الأزمات الاقتصادية المتتالية، بينما تهندس الإدارة الأميركية طريق تورط الأوروبيين أكثر فأكثر، رغبة في سحب البساط من تحت أقدامهم، ووضع اليد على الموارد التي كانت من حصتهم في عدد من الدول خاصة الافريقية.

ارتكزت الإرادة الأميركية لسنوات حيال الدول الاوروبية، على تخلي الأخيرة عن واردات الطاقة الرخيصة من روسيا وصادرات المصنوعات المتقدمة إلى الصين. مع بدء الحرب في أوكرانيا، أصبحت هذه المطالب أكثر الحاحاً، واستجابت لها الحكومات الأوروبية إلى حد كبير. حيث صوت الاتحاد الأوروبي لصالح فرض حظر على النفط الروسي في الأيام الأولى للحرب.

تولت ألمانيا اتخاذ الخطوة الأولى مع اعتماد أول استراتيجية شاملة لما أسمته "إزالة المخاطر"، بما يتعلق بتجارتها مع الصين على الرغم من أنها أكثر الدول الأوروبية اعتماداً عليها.

كانت التكلفة مرتفعة. وبدأت بكين مسارها التنازلي بحسب توقعات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تشي بأن أداؤها هذا العام أسوأ من أي اقتصاد متقدم آخر.  من المؤكد أن هناك العديد من الأسباب وراء الأزمة الاقتصادية في بكين: أسعار الفائدة مرتفعة، وتعطل سلاسل التوريد. ويقول عالم الاجتماع فولفجانج ستريك، بناء على الواقع الألماني "من غير المنطقي أن يطلب من ألمانيا المشاركة في حرب اقتصادية هي إلى حد ما حرب ضد ألمانيا ذاتها".

وبحسب دراسة أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن معظم الأوروبيين الذي يعتبرون روسيا تهديداً على أعتابهم، لا يشعرون بنفس الطريقة تجاه الصين. في حين يرغب 62% على مستوى القارة، في أن تظل أوروبا محايدة إذا دخلت الولايات المتحدة والصين في صراع حول تايوان. وعلى الرغم من ذلك، فإن دعوة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التي أطلقها في نيسان/ أبريل الماضي، لزملائه الأوروبيين مشدداً فيها على ضرورة الحفاظ على "استقلالهم الاستراتيجي" في الشؤون الصينية الأمريكية وتجنب الانجراف وراء "منطق الكتلة ضد الكتلة"، انقلبت عليه، بعد أن تمت مواجهته، ليس فقط من قبل السياسيين الأمريكيين بل من بعض حلفائه الأوروبيين أيضاً.

سابقاً، كانت تحتفظ الدول الأوروبية بهامش من المناورة لتسليك أمورهم وقد ترجم ذلك عملياً بتحفظ فرنسا وألمانيا للمشاركة في غزو العراق. وهو الأمر الذي لم يعد متاحاً اليوم.

يجيب كريستوفر كالدويل، مؤلف كتاب "تأملات في الثورة في أوروبا: الهجرة والإسلام والغرب" أن ذلك يرجع جزئياً إلى أن دول أوروبا تعتمد عسكرياً على الولايات المتحدة. وبما أن معظمها خصصت ميزانية أقل بكثير من 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع لسنوات عديدة، فمن المحتمل أنها أكثر اعتماداً مما كانت عليه قبل عقدين من الزمن. لكن النظام الذي تسعى الولايات المتحدة من خلاله إلى وضع قوانين للعالم بأسره له علاقة بالاقتصاد أكثر من ارتباطه بالقوة الغاشمة. على مدى العقدين الماضيين، استخدمت الولايات المتحدة مجموعة جديدة من الأدوات الغامضة في كثير من الأحيان لمكافأة أولئك الذين يساعدونها ومعاقبة أولئك الذين يتجاهلونها.

هذه المجموعة من الأدوات أصبحت الآن أقل غموضاً بعض الشيء، وذلك بفضل اثنين من علماء السياسة، هنري فاريل من جونز هوبكنز وأبراهام نيومان من جورج تاون. ويكشف كتابهما الذي نشر الشهر الماضي بعنوان "الإمبراطورية السرية: كيف حولت أمريكا الاقتصاد العالمي كسلاح" كيف تستفيد الولايات المتحدة من مجموعة من المؤسسات التي بنيت في أواخر القرن الماضي كوسيلة محايدة لتبسيط الأسواق العالمية.

وتشمل هذه المؤسسات الدولار ونظام الرسائل المصرفية المعروف باسم سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك)، والذي يقع مقره في بلجيكا ويديره مجلس إدارة دولي ولكنه عرضة للضغوط الأمريكية. ومما يساعد على ذلك أن صعود الإنترنت جعل الولايات المتحدة موطناً لكثير من الدوائر والبنية التحتية في العالم السلكي، بما في ذلك بعض مراكز الحوسبة السحابية الرئيسية في Amazon Web Services و Microsoft و Google.

لدى الولايات المتحدة الآن القدرة على مسح سلاسل الاتصالات والتوريد في العالم والتأثير عليها، إذا اختارت ذلك. وبعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، اختارت ذلك. لقد حولت المؤسسات التي كان بإمكانها الوصول إليها إلى سلاح دفاعي (كما رأت الأشياء آنذاك) في الحرب على الإرهاب. كتب السيد فاريل والسيد نيومان: "لحماية أمريكا، حولت واشنطن ببطء ولكن بثبات الشبكات الاقتصادية المزدهرة إلى أدوات للهيمنة".

وتقول مجلة نيويورك تايمز الأميركية، أن صناع السياسات الأميركيون استخدموا الاقتصاد العالمي كسلاح على نحو يصعب على الديمقراطيات تسجيله، ناهيك عن التأثير. هناك الكثير من الشكاوى الشعبوية المشروعة التي يجب تقديمها حول هذا النوع من سيطرة النخبة: تسمع طوال الوقت في إيطاليا وبولندا، على سبيل المثال، كيف حاصر الاتحاد الأوروبي الدول الأعضاء في برامج صندوق التعافي بعد كوفيد ثم أرفق شروطاً غير معقولة لتسليم الأموال.

الشيء الأكثر لفتاً للنظر في نقد فاريل نيومان - وربما مصدر قوته - هو أنه ليس شعبوياً. إن فهم المؤلفين للصراع الروسي الأوكراني - باعتباره هجوماً روسياً غير مبرر من قبل زعيم "يبدو أنه يعتقد أن الحرب الباردة لم تنته أبدا" - يختلف قليلا عن فهم وزارة الخارجية. حتى روايتهم للإمبراطورية التنظيمية الأمريكية هي وصف أكثر من مجرد قبضة. يلمح المؤلفون إلى أنهم لن يكونوا قلقين للغاية بشأن هذه الوسائل التنظيمية إذا خدموا فقط غايات أكثر قيمة - على سبيل المثال، مكافحة تغير المناخ بدلاً من حماية الهيمنة الأمريكية، بحسب فاريل.

ويخلص فوريل إلى القول أنه أيا كان الغرض من استخدام هذا التسليح، فإن تسليح الاقتصاد العالمي يثبت أنه أداة لا يمكن الاعتماد عليها للقوة الأمريكية. المشكلة هي أنه في الاقتصاد كما كان موجوداً منذ الحرب الباردة، يتاجر الجميع إلى حد كبير مع الجميع. وقد ردت الدول التي لديها أكبر سبب للخوف من الولايات المتحدة بمحاولة بناء ترتيبات بديلة. على مدى العام ونصف العام الماضيين، أظهرت روسيا مرونة في مواجهة حرب اقتصادية شاملة من المرجح أن تستخدمها الصين وإيران كنموذج. وعلى النقيض من ذلك، فإن تلك البلدان الأكثر صداقة للولايات المتحدة - سويسرا قبل عقد من الزمان، وألمانيا اليوم - عانت لأنها لم تقم بعد بتحصين اقتصاداتها من القنابل ضد السلاح الاقتصادي الأمريكي.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور