يواجه الكيان المؤقت معضلة مزدوجة، أولًا "الهجرة المعاكسة" التي تعد إشكالية قديمة تفاقمت الآن طرديًا مع انعدام الأمن والخوف الذي يلاحق المستوطنين الإسرائيليين. ثانيًا " الهجرة الداخلية" وخصوصًا من غلاف غزة والجبهة الشمالية إثر عملية طوفان الأقصى التي تركت تأثيرها على كل إسرائيلي وأشعرته ان فلسطين لم تعد أرضاً آمنة وصالحة للعيش بالنسبة للإسرائيليين.
الهجرة المعاكسة "السقوط الأخير"
يقصد بالهجرة المعاكسة هجرة اليهود المقيمين في فلسطين عنها في عدة اتجاهات نحو أوروبا وأمريكا وغيرها من دول العالم دون توفر نيّة العودة إليها. وفي هذا السياق، يشير تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، أُجري بين عامي 2015 و2016، إلى أنّ "أي مواجهة عسكرية محتدمة مقبلة مع "إسرائيل" ستجعل المستوطنين الإسرائيليين يغادرونها وينسلخون عنها نهائيًا". وبناء على التطورات الأخيرة بعد عملية "طوفان الأقصى" أصبحت "الهجرة المعاكسة" معضلة وجودية تتسم بمواجهات عسكرية في غزة وجبهة الشمال تهدد الكيان مجددًا ب "انسلاخ المستوطنين نهائيًا"، وتقويض الزعم بأن "فلسطين المحتلة هي أكثر الأماكن أمنًا لليهود". وفي هذا الإطار، تتجلى الحقيقة مرة أخرى بين الانتماء الزائف المبني على رابط هشّ مع كيان مؤقت، يقابلها مواجهة وصمود في الأرض ورفض التهجير القسري من فلسطينيي غزة. بغض النظر عن أي نتيجة ستؤول إليها الحرب اليوم ستزداد "الهجرة المعاكسة" التي كانت تؤرق قادة ومفكرين قبل الحرب، ستصبح اليوم وغدًا أكثر عمقًا واتساعًا، وبالأخص اليهود الغربيين منهم (الاشكناز) المتربعين على قمة الهرم الاجتماعي.
وفي سياق متصل، لدى أكثر من 40% من الإسرائيليين جنسيات أجنبية، حصلوا عليها من آبائهم وأجدادهم أوعن طريق الزواج، ما يسهل عليهم خيار الهجرة إذا أرادوا. يربط كتاب “الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين”، لمؤلفه الباحث "جوج كرزم" بين ارتفاع منسوب المقاومة العربية ومنسوب الهروب من الكيان، حيث إنه تناسب طردي منذ حرب 1973 إلى انتصار حزب الله في لبنان عام 2000 و2006 وكذلك انتصار المقاومة في غزة 2008 -2009 و2012، 2014، وهذه المسألة هي الأشد تأكيدًا بأن الكيان وُجد وسيبقى في تناقض تناحري مع الوطن العربي.
والآن مع اشتداد الاشتباكات يصبح مصطلح “يوريد” أي النزوح والتخلي عن العيش في الكيان، (هي مفردة مقصود بها الازدراء تجاه من يرحلوا)، تعني "السقوط الأخير".
الهجرة الداخلية "لن يخاطر أحد بأولاده ويعيش هنا".
في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 24-10-2023 عن أزمة مستوطني الشمال، يعبر هؤلاء عن خشيتهم من انتهاء الحرب دون إخراج حزب الله من الحدود، معتبرين أنه لا يوجد مستقبل للجليل الأعلى: "لن يخاطر أحد بأولاده ويعيش هنا". "وهناك سكان استأجروا منازل بعيدة عن هناك، ولن يعودوا إذا لم يشعروا بالأمان: "هذه حرب وجود. ما تخطط له قوة الرضوان لنا أكبر بعشر مرات مما فعلته حماس".
ووفقًا للصحيفة في مقال آخر، فقد أجلت إسرائيل حوالي 120 ألف مستوطن إسرائيلي من أماكن إقامتهم في الشمال والجنوب منذ السابع من أكتوبر الجاري، موزعين على 43 بلدة في الشمال بالإضافة إلى المستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة، مشيرة إلى أنّ هذا الأمر يتعلق بـ"خطة الإخلاء أو الإنعاش".
تطفو مشاعر الخوف من مخططات حزب الله في الجبهة الشمالية بحسب تعبير أحد المستوطنين "هذه حرب وجودية. نحن بحاجة إلى إنشاء حدود هنا بمحيط (عازل لشريط أمني) ويد قوية. لن نسمح بوجود حزب الله وقوات الرضوان ولو على بعد كيلومتر واحد من هنا. نريدهم أبعد بكثير." تزداد حدة هذه المشاعر مع تدهور ثقة الإسرائيليين بالجبهة الداخلية وبالجيش الإسرائيلي بعد أحداث "طوفان الأقصى".
ستتفاقم عوامل الانهيار الداخلي لبنية "إسرائيل"، بسبب "الهجرة المعاكسة" في سبيل بحثهم عن بديل يحميهم، بالإضافة إلى إخلاء عدد كبير من المستوطنات، وستتصاعد الأزمة كلما امتدت فترة "طوفان الأقصى"، ومع ازدياد ضغط الوضع الأمني، ستواجه إسرائيل أزمة ديمغرافيا حرجة تطال العديد من المستويات كالاقتصاد والجيش وتتسبب بأزمة وجودية لهذا الكيان المؤقت.
الكاتب: حسين شكرون