الخميس 23 تشرين ثاني , 2023 03:02

القضية الفلسطينية: إشكالية العلاقة بين العدالة الدولية والنظام العالمي

محكمة العدل الدولية

تعتبر القضية الفلسطينية من أكثر الأزمات الدولية تعقيداً، وأطولها زمناً، وأعظمها مأساة. وقد يلحظ المراقب لمنطقة الشرق الأوسط مدى تشعّب التدخلات، وتقاطع وتضارب المصالح. ففي كل يوم تصدر بيانات عديدة من عواصم القرار الدولي، فيبدو للوهلة الأولى وكأن المسألة الفلسطينية تعني دول العالم قاطبة لارتباطها العضوي بقضايا النفط والتجارة وسباق التسلّح.

القضية الفلسطينية، وإن كانت مسألة سياسية، لكنها ليست مسألة عقارية، وبالتالي، لا يمكن تجريدها من بعدها الإنساني. فالتخطيط الصهيوني هو مخطط جهنمي، دمّر وقتل وهجّر سكان الارض الاصليين حتى حقق اهدافه في جمع اليهود، على ارض فلسطين. وعليه، فمن الصعب على الكاتب الملتزم بقضايا أمته ان يكون محايداً، او ان يقف على مساحة متوازية بين القاهر والمقهور، والمغتصِب والمغتصَب والجلاد، والضحية، والمجرم، والبريء.

وبناء على ما تقدّم، فإني سوف أناقش العلاقة الجدلية بين العدالة والنظام الدولي.

  1. العدالة الدولية

إن القانون الدولي والقانون الدولي الانساني اللذان ينظمان العلاقات بين الدول في سياستها الخارجية، ومصالحها الحيوية في حالتي السلام والحرب، ظلا خاضعين لطبيعة وهيكلية النظام العالمي، او انهما رهينة لها ولا تزال اشكالية العلاقة بين القانون والسياسة، ماثلة في التطورات الدولية وما تحمله من متغيرات.

اما مصادر العدالة الدولية فهي:

  1. القانون الدولي.
  2. القانون الدولي الإنساني.
  3. ميثاق الأمم المتحدة.
  4. اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة.
  5. بروتوكول 1977 (I وII) والبروتوكول III
  6.  محكمة العدل الدولية.
  7. المحكمة الجنائية الدولية.
  8. مجلس حقوق الانسان.

إن أية دراسة لمسار الأمم المتحدة وعمل وكالاتها ومجالسها المتخصصة، تلحظ كيف ينحى القانون الدولي جانباً امام الضغوط السياسية والمصالح الدولية القائمة على الاستئثار والهيمنة لا العدالة ولا الحق. فميثاق UN هو القانون الاعلى او الأسمى في القانون الدولي. انه اساس هذا القانون، وكثيراً ما جرى تهميشه او خرقه في تكوين مجلس الأمن وعمله، وفي ممارسة صلاحيات الجمعية العامة، وفي احترام حقوق الانسان، وفي القضاء على الفقر والأمية، وفي حق كل شعب في تقرير مصيره بنفسه، بلا تدخّل وضغوط خارجية. اضافة الى كل ذلك، بدت المساواة في السيادة بين الدول مجرد شعار مرفوع، او هي نص لفظي بنى عليه الميثاق الأممي وفكرة التنظيم الدولي من أساسها.

صحيح ان منطق الغزو قائم منذ فجر التاريخ، أما ان يحصل ذلك في زمن الحديث عن القانون الدولي، فإنه أمر مؤسف:

  1. ما معنى ان تسقط عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى لأنها فشلت في نزع السلاح للحيلولة دون تجدد الحروب؟
  2. ما معنى ان تفشل الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في الحد من سباق التسلّح التقليدي والنووي؟
  3. وعلى أي أساس قانوني يمكن اعتبار الدول الخمس الكبرى صاحبة حق النقض (VETO) في مجلس الأمن، دون غيرها من الدول، صاحبة هذا الحق؟

ويمكن القول، ان حق النقض، ليس حقاً قانونياً، بل هو مجرد جائزة حصلت عليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. انه مستند الى القوة لا الى الحق، وهو يكرس الهيمنة السياسية الدولية. لذلك قلنا بأن السياسة الدولية طوعت لصالحها قواعد القانون الدولي. فعند التصويت في مجلس الأمن والجمعية العامة، نجد تأثير الدول الكبرى ماثلا على غيرها من الدول الصغيرة، او الدول الأقل قوة.

  1. النظام الدولي

إن طبيعة النظام الدولي، أكان متعدد القطبية (1648-1945)، او ثنائي القطبية (1945 – 1991)، او احادي القطبية (1991 – 2008)، هي فوضوية بامتياز بالنسبة الى المدرسة الواقعية فإن:

  1. الدولة- الأمة هي اساس العلاقات الدولية؛
  2. القوة، القوة العسكرية، وسيلة فاعلة وقابلة للاستخدام في السياسة الخارجية؛
  3. ويكون أمن الدولة ومسألة بقائها ونجاتها (السياسة العليا)، مهيمنة على السياسات الدنيا المتعلقة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية.

إن أكثر النتائج أهمية لمثل هذه الحال هي الفوضى السائدة في النظام الدولي. اما السبب في ذلك فيعود:

  1. غياب أي سلطة مركزية فوق وطنية تكون مقبولة بشكل عام على انها لها الحق في سن تشريعات تجب اطاعتها؛
  2. استعداد الدول لاستخدام القوة العسكرية حينما تسمح او تتطلّب الظروف.

في هذا السياق، فإن القوة هي وسيلة لتحقيق الاهداف الخارجية للدول. ولقد دلّت التطورات الدولية الى ان الدول، وعلى امتداد التاريخ، قد واجهت بعضها بعضاَ من صراعات على القوة بالنسبة الى H. Morgenthau: تظهر جميع مراحل التاريخ ان الدول الناشطة في السياسة الدولية تعد نفسها باستمرار لعنف منظم على شكل حروب، او تنخرط فيه بشكل فعال، او تتعافى منه.

القوة تعنى القدرة على التأثير في سلوك الآخرين مما يجعلهم يحققون النتائج التي تريدها، مهما كان نوع هذا التأثير، ترهيباً او ترغيباً. هذا يعني ان القوة هي قدرة الفاعل (A) على ان يجبر فاعل (B) على ان يفعل شيئاً او يمتنع عن فعل شيء، ما كان ليفعله لولا قدرة (A). هنا لا بد من مقاربة مفهوم الهيمنة (Hegemony) والتي تشير الى قدرة الفاعل التي يتمتع بقدرة ساحقة على تشكيل النظام الدولي من خلال الوسائل القسرية وغير القسرية. بتعبير آخر، ان الهيمنة هي قدرة الدولة على ممارسة الفنون والتأثير على الدول الأخرى بدون احتلال الارض.

  1. القضية الفلسطينية: اشكالية العدالة والنظام الدولي.

ان محاولة USA الهيمنة على السياسة الدولية بعد انهيار USSR لا يعطيها الحق في تفسير القانون الدولي، وممارسة سيطرتها على المنظمات الدولية، وعلى لعبة المصالح الدولية باسم الحرية والديمقراطية. كما ان انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية جاء على خلفية حماية قادتها من جرائمهم في حروب افغانستان والعراق وغيرها. او ليس من المعيب ان تتنصّل USA من التزاماتها السابقة وتعترف بدون وجه حق بأن القدس عاصمة الكيان الصهيوني؟

  1. باستعمالها حق الفيتو في مجلس الأمن اسقطت USA كل مشاريع القرارات التي تتضمّن اي ادانة لإسرائيل على جرائمها في الاحتلال والعدوان والارهاب. فأين هيبة القانون الدولي والحال هذه؟
  2. أين قاعدة عمومية القانون بلا تمييز بين الدول عندما تصدر القرارات الخاصة بفلسطين بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة (اي انها صدرت مخففة)، بينما صدرت قرارات الأزمة العراقية بموجب الفصل السابع ذي الطبيعة الالزامية؟

في المحصلة، سوف يذكر التاريخ ان من أبرز أسباب ضعف UN هو تجاهل تنفيذ قرارات قضية فلسطين، والصراع العربي- الاسرائيلي. والسؤال هنا، ماذا يبقى من الشرعية الدولية عندما تطغى فكرة ازدواجية المعايير الدولية؟

بإيجاز، إن قضية فلسطين تبقى الدليل الأوضح على إهمال القرارات الدولية ذات الصلة. حسبنا الإشارة الى قراري الجمعية العامة رقم 181 (1847) ورقم 194 (1948) وماذا ايضاَ عن قرارات الجمعية العامة: 2628/1970، 2648/1970، 2649/1970، 2672/1970، و3736/1974، التي تؤكد على:

  1. حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بدون أي تدخل خارجي.
  2. حق عودة اللاجئين الى الديار التي هجروا منها.
  3. حق الشعوب التي ترزح تحت نير الاستعمار النضال لتحقيق استقلالها.

وماذا عن وضع القدس؟ فقرار التقسيم 181 أعتبر القدس كياناً منفصلاً يخضع لنظام دولي تديره UN. وفي عام 1967 صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سلسلة من القرارات، لا سيما القراران 2253 و2254 اللذان اقرّا عدم شرعية انشطة اسرائيل في المدنية. من جهته، أصدر مجلس الأمن عدّة قرارات أبرزها: 250، 252، 267، و271 (1969) والتي اجمعت على مطالبة تل ابيب بوقف انشطتها التي تعمل على تغيير معالم المدينة. في عام 1971 أصدر مجلس الأمن القرار 298 الذي اعتبر كافة الاجراءات الادارية والتشريعية التي قامت بها اسرائيل، مثل التحويلات العقارية ومصادرة الأراضي، غير شرعية. أخيراً، في عام 1980، وبعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد بين القاهرة وتل ابيب، سارعت الأخيرة الى ضم القدس رسميّاً. الا ان مجلس الأمن اعتمد مجدداً مجموعة من القرارات: 476، 478/1980 اللذان أدانا قرار الضم واعتبراه انتهاكاً للقانون الدولي.

في 9 تموز 2004 صوّت 14 قاضياً من أصل 15 (اي باستثناء القاضي الأميركي) لصالح الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول "لا شرعية" بناء الجدار الفاصل الذي يقطع اوصال الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية ويضم القدس الشرقية. وبشكل لافت اعتبر الرأي الاستشاري ان "الارض التي استولت عليها اسرائيل خلال حرب 1967 بما في ذلك القدس الشرقية هي اراضٍ محتلة". وكانت منظمة UNISCO التي تناولت القدس بشكل من التفصيل وكشفت زيف الدولة الصهيونية حول جبل الهيكل وحائط المبكى... وهي مصطلحات لم ترد في أي قرار من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

على صعيد آخر، نجد ان القانون الدولي الانساني الذي هو مجموع القواعد الدولية التي تشكّل حدوداُ لضبط استعمال السلاح المفرط ضد المدنيين (Jus in bello) يخضع في تطبيقاته لازدواجية المعايير. فالقرار الأممي بالتدخل لإنقاذ الناس من الإبادة، او الجرائم، او العدوان، او الارهاب خاضع في أساسه لإرادة القوى الدولية الكبرى. وتبقى غزّة المثل الصارخ على ازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين دوليين من خارج احكام القانون الدولي عندما:

  1. يهجر ويسجن مئات الآلاف من الفلسطينيين.
  2. الاعتقال الاداري
  3. بناء المستوطنات (المستعمرات)
  4. استعمال الأسلحة المحرّمة دوليّاً (الفوسفور الابيض) لممارسة الارض المحروقة، وقصف عمداً المستشفيات والمساجد والكنائس والمجمعات السكنية، وسط صمت دولي مريب.

وتصوروا معي معارضة واشنطن لاتفاق وقف إطلاق النار، والمماطلة في اعتماد هدنة انسانية للتخفيف من معاناة الناس في غزّة، وهي الدولة العظمى المسؤولة عن حفظ الأمن والسلم الدوليين؟

وهكذا، ماذا يبقى من- القواعد الدولية الخاصة بحقوق الانسان؟ وما معنى التدخّل الانساني عندما يترك قرار التدّخل للقوى الدولية الكبرى، بحيث انها تقرر متى تتدخّل، وأين؟ وكيف؟

إن قضية فلسطين والصراع العربي الاسرائيلي تمثل دليلاً على وجود حقوق عربية مشروعة، لكنها منتهكة، لأن قواعد القانون الدولي مغيبة. والنتيجة هي تآكل ما يسمى بالشرعية الدولية اخلاقيّاُ وقانونيّاً، بل وتهديد منظمة UN في وجودها بالأصل والأساس طالما هي غير قادرة على تطبيق ميثاقها وقراراتها تحت وطأة سياسة القوة التي تعتمدها الدول الكبرى الداعمة للكيان الصهيوني.

وعليه، فإنني أردّد مجدداً اعتذاري من طلابي في أنني كنت متشدداً في تدريس مقررات القانون الدولي، والقانون الدولي الانساني، ومنظمة UN. فبعد الجرائم الصهيونية في غزّة لم يعد هناك حاجة لتدريس هذه المقررات. القوة هي الكلمة الفصل في اثبات الحق القومي في فلسطين.

فعلى أرض فلسطين ما يستحق الحياة، وأيضاً على أرض فلسطين ما يستحق الاستشهاد. وحتى تخرج فلسطين من جديد الى الشمس، نردد ما كتبه الاستاذ طلال سلمان (رحمه الله): "القوة فلسطين، المنعة فلسطين، الوحدة فلسطين، الحرية فلسطين، العروبة فلسطين، الوطنية فلسطين، الدين فلسطين، القضية فلسطين، والأمة فلسطين".


الكاتب:

العميد البروفيسور كميل حبيب

عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية

دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة (Dalhousie University) في كندا عام 1993




روزنامة المحور