الخميس 11 تموز , 2024 03:28

السياسة الفرنسية الجديدة والسيناريوهات المحتملة

إيمانويل ماكرون وماري لوبان وجان لوك ميلانشون

في نتيجة مخالفة لكل التوقعات، أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية بروز الكتلة اليسارية الفرنسية، حيث حققت "الجبهة الشعبية الجديدة" المؤلفة من الأحزاب اليسارية والشيوعية والاشتراكية تختلف على عدد من الملفات، مفاجأة بحلولها في المرتبة الأولى، مع نيلها 182 مقعداً.

أما المعسكر الرئاسي بقيادة ماكرون، تحت راية "معا"، فقد حصل على 168 مقعدا في مقابل 250 في حزيران/يونيو 2022، بينما حصل التجمع الوطني اليميني المتطرف وحلفاؤه على 143 مقعدا. وجدير بالذكر أنه تم استدعاء حوالي 49.3 مليون فرنسي إلى صناديق الاقتراع، برسم الدور الثاني من الانتخابات التشريعية المبكرة، التي دعا إليها الرئيس الفرنسي في 9 يونيو الماضي، بعد أن قرر حل الجمعية الوطنية عقب فوز أقصى اليمين في الانتخابات الأوروبية. وتنافس حوالي 1.094 مرشحا في هذه الجولة لشغل 501 مقعدا في الجمعية الوطنية. وقدرت نسبة المشاركة في الدورة الثانية بـ 67,1 في نسبة إقبال قياسية منذ انتخابات سنة 1981.

المواقف من قضايا المنطقة والحرب على غزة

للتذكير سبق وأن أعلنت جبهة اليسار (فرنسا الأبية الجديدة) برئاسة ميلونشون عن جملة من المواقف أهمها:

- الإعلان عن الاعتراف بدولة فلسطين رسمياً.

- دعم وقف فوري لإطلاق النار في غزة.

- المطالبة بفرض عقوبات على الحكومة الإسرائيلية "طالما أنها لا تحترم القانون الدولي في غزة والضفة الغربية".

- دعم قرار تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل "المشروطة باحترام حقوق الإنسان".

- دعم طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في مايو إصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

- إصدار قرار بحظر تسليم الأسلحة إلى "إسرائيل" والعمل في نفس الوقت من أجل تحرير الرهائن الذين تحتجزهم حركة حماس.

السيناريو الإيجابي مرتبط بالتنفيذ الفوري لما أعلنته كتلة فرنسا الأبية (كما وعدت ناخبيها) من مواقف تجاه الصراع في الشرق الأوسط وتحديداً الحرب على غزة، وهذا لن يحصل إلا إذا نجحت جبهة اليسار في فرض رئيس حكومة جديد ممثل لكتلتها (الأولى في البرلمان)، يستطيع أن يتخذ القرارات المطلوبة وينفذ الأجندة السياسية التي أعلنت عنها جبهة فرنسا الأبية (هناك شبه إجماع في جبهة اليسار الممثلة في الجبهة الشعبية الجديدة حول المواقف المعلنة من قبل ميلونشون)، ووفقا لذلك يبدو المشهد كالآتي:

- مبدئياً الموقف السياسي الفرنسي تجاه التطورات في المنطقة سيبقى على حاله، وهو دعم وقف الحرب على غزة ودعم المفاوضات بين أطراف النزاع وإدخال المساعدات الإنسانية عبر المعابر وفك الحصار على قطاع غزة.

- هناك شبه إجماع حاصل الآن داخل الكتلة اليسارية حول ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين رسمياً.

- شبه إجماع حول مسألة تثبيت قرار حظر نقل الأسلحة إلى حكومة ناتنياهو، والتركيز على ضرورة جلبه ومن معه للمحاسبة والمحاكمة امام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

- شبه إجماع حول ضرورة حثّ الاتحاد الأوروبي وخاصة البرلمان الأوروبي على اتخاذ قرار يقضي بتعليق الشراكة بين الاتحاد والكيان الإسرائيلي كخطوة دبلوماسية ضرورية لعزل حكومة الكيان وتحديداً ناتنياهو دولياً.

- من المتوقع أن يكون المشهد السياسي مركّبا نوعاً ما بسبب عدم حصول كتلة اليسار (الجبهة الشعبية الجديدة) على الأغلبية المريحة داخل البرلمان والتي تسمح لها باتخاذ قرارات بشكل أكثر حرية وسلاسة، ولكن من المهم تسجيل أننا أمام نقطة تحوّل مهمة في المواقف من القضايا الخارجية وخاصة فيما يتعلق بالصراع الدائر الآن في المنطقة.

النقطة الأساسية التي يمكن استخلاصها الآن وفي هذه المرحلة:

- إننا سنكون أمام مشهد سياسي داخلي مربك وقد يشهد العديد من الصراعات وبالتالي لن يقع التركيز كثيراً على الملفات الخارجية إلا بحدود ما وقع إعلانه من مواقف سابقة.

- قد تظهر خلافات شائكة بين رئيس الوزراء المستقبلي والرئيس، فيما كان يطلق عليه "المجال المحجوز" لرئيس الجمهورية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية (لا ينص عليه الدستور)، وبالتالي سيتعين على ماكرون أن يكافح بشدة من أجل الاحتفاظ بامتياز تجسيد فرنسا بالنسبة للخارج.

ملاحظة: من الضروري التأكيد على أنّ العمل في شؤون السياسة الخارجية والدفاعية لا يقع على عاتق رئيس الجمهورية وحده، حيث تتمتع الحكومة أيضاً بصلاحيات واسعة بموجب الدستور (المواد 20، 21 من دستور الجمهورية الخامسة 1958). ولهذا السبب، يتم استخدام مفهوم "المجال المشترك" أيضاً اليوم.

أمام دور الحكومة المرتقبة ودور رئيس الوزراء (الذي تطالب جبهة اليسار بأن يكون من كتلتها بما أنها الكتلة الأقوى والأولى وفقاً لنتائج الانتخابات)، وإذا ما نجحت في فرض ذلك على الرئيس ماكرون، سنكون أمام مشهد سياسي يسجّل كالتالي: سيعمل رئيس الحكومة الجديد (مع حكومته) على تنفيذ العديد من القرارات (التي سبق وطالبت بها كتلة اليسار) في الجبهة الداخلية (فيما يتعلق بقانون التقاعد، والضمان الاجتماعي، وزيادة الحد الأدنى للأجور، إضافة الى ملف الضرائب والهجرة...) أمّا على مستوى السياسة الخارجية فسيعمل على تنفيذ المطالب المعلنة سابقاً إضافة الى:

- الضغط أكثر على ماكرون للابتعاد عن سياسة المحاور الدولية وخاصة الهيمنة الأمريكية على السياسة الخارجية الفرنسية.

- الاعتماد أكثر على دبلوماسية هادئة ومرنة تعمل على لملمة الملفات التي راكمت الفشل في إدارات ماكرون السابقة واثرت بشكل كبير على مكانة فرنسا كدولة محور في أوروبا والعالم.

- العمل على الخروج من الصراعات والمواجهات الدولية التي ورطت فرنسا في مواجهات (مثل الحرب الروسية الأوكرانية والحرب على غزة) وأرهقت خزينتها اقتصادياً، ودمّرت مصداقيتها سياسياً وأمنياً واجتماعياً (امتصاص حقوق المواطن الفرنسي لتمويل الحروب وإرهاقه بدفع الضرائب من أجل حروب لا تعنيه وليس له مصلحة فيها).

- العمل أكثر على الرجوع إلى الساحة الدولية للعب دور الوسيط المعتدل المؤثر في الصراعات القائمة في المنطقة والعالم.

نجح الفرنسيون بإقبالهم على صناديق الاقتراع في معاقبة الماكرونية السياسية، ولكنهم في نفس الوقت لم يمنحوا صك على بياض لأي طائفة سياسية أو فريق سياسي بالمطلق، ويبدو أن هذا الصراع السياسي الحاصل اليوم، سيؤسس لمرحلة جديدة، وعودة للتيارات التي انقسمت عندما نال ماكرون ثقة الفرنسيين المطلقة سابقاً.

مشهد التوازن المشلول والذهاب إلى فوضى الحكم في فرنسا والحسابات الدقيقة، وإلى كتل برلمانية ستتصارع فيما بينها وستتحكم في المشهد، هو واقع الامر الآن، وهذا ساهم حقيقة في خلق واقعية سياسية جديدة في فرنسا. من المرجح الآن أن فرنسا ستدخل في ضبابية سياسية لمدة ثلاث سنوات وقد تؤدي هذه الضبابية إلى حل البرلمان بعد سنة على الأقل، لان المشهد الآن هو حالة "لا غالب ولا مغلوب" في الحياة السياسية الفرنسية، وقد يساهم ذلك في تعطيل العديد من مشاريع القوانين والقرارات، ولكن هذا التشكيل البرلماني الجديد سينتج أفكاراً ومشاريعاً سيراقبها الناخب الفرنسي بدقّة وسيقيّمها بالتأكيد في المرحلة المقبلة.





روزنامة المحور